الغساسنة، جزء: ١٠ – العمارة الغسانية

تعتبر العمارة والفن المعماري من أبرز ملامح الحضارة الغسانية في الأردن، حيث استلهم الغساسنة من الطرز البيزنطية والفارسية ونجحوا في دمجها بمهارة فريدة. هذا المزج أفضى إلى إنشاء معالم معمارية لافتة، مثل الكنائس والأديرة، التي زينت بالفسيفساء وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من التراث الأردني

لم يغفل الأردنيون الغساسنة عن التفوق في فن العمارة، حيث استلهموا من الطرز البيزنطية والفارسية، ونجحوا في دمجها بمهارة فائقة، ليبدعوا طرازًا معماريًا فريدًا يخصهم. وقد تميزت هذه العمارة غالبًا بالتركيز على الكنائس والأديرة والمجامع الرهبانية، حيث لعبت الفسيفساء دورًا رئيسيًا في تزيين هذه المعالم. ويُعد هذا الفن جزءًا أصيلًا من التراث الأردني، إذ تظهر براعة الغساسنة فيه بوضوح في الكنائس الأردنية التي لا تزال تزهو بتلك الزخارف حتى يومنا هذا

 المصادر الدينية

انتشرت الأديرة في مختلف أنحاء مملكة الأردنيين الغساسنة، ولعبت دورًا بارزًا في تحقيق إنجازات مهمة، من أبرزها كتابة “رسالة رؤساء الأديرة العرب” عام ٥٧٠ ميلادي. هذه الأديرة، التي تميزت بطراز معماري فريد ومساحات زراعية شاسعة، ساهمت بشكل كبير في تعزيز النهضة الزراعية والتجارية في البلاد، وفقًا للباحثين. ومع ذلك، فإن الأهمية الأكبر تكمن في الوثائق التي خلفتها، والتي تُعد كنزًا ثمينًا يتيح تتبع طبوغرافية مملكة الأردنيين الغساسنة وتوزيع الأديرة والكنائس فيها

ومن بين هذه الوثائق الدينية البارزة، تأتي “وثيقة رؤساء الأديرة العرب”، التي تُعد نصًا دينيًا يعكس جوهر الإيمان الأرثوذكسي (المونوفيزي). كان الأردنيون الغساسنة يتبعون مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح، وكانوا مخلصين لهذا المعتقد، حيث بذلوا جهودًا دؤوبة على مدى أربعة قرون للدفاع عن حرية ممارسة شعائرهم. ويُنسب الفضل في الحفاظ على هذا المذهب، بحسب مؤرخي الكنيسة، إلى الملك الأردني الحارث بن جبلة

تتميز هذه الوثيقة بأهميتها الفائقة، إذ تحمل توقيعات ١٣٧ رجل دين، غالبيتهم من رتبة الأرشمندريت (رؤساء الأديرة)، إلى جانب عدد من الشمامسة والكهنة. تُظهر التوقيعات تنوعًا لافتًا في اللغات المستخدمة، إذ وقع ١٨ قسًا باليونانية، و٣٤ بالسريانية، بينما لجأ آخرون إلى التوقيع نيابة عن غيرهم، مع وجود توقيع واحد فقط يعكس عدم إلمام صاحبه بالكتابة. هذا التنوع في التوقيعات، والذي كان يُرفق غالبًا باسم الدير وموقعه، يُبرز تعددية الثقافات واللغات التي كانت سائدة في ذلك العصر، ويعزز من قيمة الوثيقة كمصدر تاريخي وديني فريد

البناء على طول خط التجارة

عمل الغساسنة الأردنيون على تطوير ثلاثة طرق تجارية جديدة متفرعة عن طريق الحرير الرئيس، حيث كانت هذه الطرق الأردنية الثلاثة (طريق وادي السرحان، الطريق البحري، والطريق العربي) تمر عبر أهم المدن والحواضر الأردنية. وقد اقتضت الحاجة حينها بناء الأديرة على طول هذه الطرق. ونتيجة لهذا الامتداد التجاري الواسع، فضلاً عن دور الغساسنة في حماية وتأمين القوافل التجارية، كانت الأديرة على هذه الخطوط تشبه القلاع المنيعة المسورة والأبراج العالية للمراقبة

الأديرة الغسانية

على الرغم من أن آثار تلك المدن والحواضر قد اندثرت اليوم، فإنها موثقة في وثيقة رسمية تمت ترجمتها من السريانية إلى اللاتينية ثم إلى العربية. ورغم التباين في رسم الأسماء، يمكننا تحديد مواقع الأديرة الأردنية الغسانية بسهولة، إذ إن العديد من المدن والقرى الأردنية لا تزال تحتفظ بأسمائها من الحقبة الغسانية حتى يومنا هذا. فيما يلي قائمة بأسماء الأديرة الواقعة في المدن والقرى الأردنية التي وقع رؤساؤها على وثيقة رؤساء الأديرة العرب

طورا حرثا (دير جبل الحارث)
تكريماً للملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة، سميت منطقة حرثا باسمه. أما “طورا حرثا” فهي التسمية السريانية لدير جبل الحارث. يُعتقد أن المدينة امتدت شمالاً عبر سهول حوران الأردنية. اليوم، تعتبر حرثا قرية تقع في أقصى شمال الأردن، وهي تتبع لواء بني كنانة، وتحتوي على مدينة أبيلا الشهيرة (قويلبة حالياً). وتشير الدراسات إلى أن المدينة الحديثة بُنيت فوق مدينة قديمة مدفونة

آثار قويلبة “أبيلا” في حرثا

حريمايا (حوش حريمة – دير حريمايا)
تعني “حريمايا” الدير المقدس، وقد وقع رئيس ديرها، القس جرجس، على الوثيقة. اليوم، تقع حريما في شمال الأردن، على بعد ١٠ كيلومترات شمال مدينة إربد، وتتبع لواء بني كنانة

عقربا (دير مار اسطفانوس – دير الأباتي تيطس)
تحتوي عقربا على ديرين، مما يدل على أهميتها التاريخية. اسم “عقربا” هو صيغة آرامية لكلمة “عقرب” العربية. اليوم، تعتبر عقربا إحدى قرى الكفارات في إربد، وهي تطل على نهر اليرموك وتتبع إدارياً لواء بني كنان

حوارة (دير برج حوارة)
وقع القس مار بولس رئيس دير برج حوارة (برج حوارة) على الوثيقة. حوارة هي مدينة أردنية عامرة تقع على بعد 4 كيلومترات شرق مدينة إرب

جديراثا (دير جديراثا)
تعد مدينة جديرا أو جدارا، المعروفة اليوم بمدينة أم قيس، من أهم مدن الديكابولس الأردنية الواقعة في الشمال. تحتوي جدارا على كنيسة قديمة، وقد وقع يوحنا عن الدير نيابة عن القس مار إيليا رئيس الدي

كفر جوزا (دير كفر جوزا)
لا توجد اليوم قرية أو مدينة تحمل هذا الاسم حرفياً، لكن من المحتمل أن الاسم قد تحول إلى “كفر جايز”، وهي حالياً إحدى القرى في شمال غرب إربد. وقع الشماس أيوب رئيس دير كفر جوزا على الوثيق

عين جرا (دير عين جرا)
يُعتقد أن عين جرا هي التسمية الأصلية لعنجرة، وهي بلدة أردنية تقع في لواء قصبة عجلون. وقع الشماس بولس نيابة عن الدير في الوثيقة

دير كيفا
يرتبط اسم “كيفا” بقرية “كفر كيفيا” في إربد. “كيفا” هي كلمة سريانية تعني الصخرة، وهو أيضاً اسم بطرس الرسول. القرية مشهورة بآثارها القديمة، ويُعتقد أن الدير كان موجوداً في المنطقة ولكن اندثر مع مرور الزم

أفا (أيوبا – دير أيوبا)
كلمة “أفا” هي سريانية، وعند كتابتها بالعربية تتحول الفاء إلى باء، مما يجعل “كفر يوبا” قريباً من “أيوبا”. كفر يوبا هي قرية كبيرة في إربد، تقع على بعد ٣ كيلومترات من وسط المدينة. وقع القس نطيرو رئيس دير أيوبا على الوثيقة

غسانيا (دير غسانيا)
في سهول حوران الأردنية، يمتد تل غسان الذي سُمي على اسم الغساسنة الأردنيين. الموقع يحتوي على مغاور وكهوف تعود للعصر النبطي والروماني والغساني، إضافة إلى بقايا معاصر العنب والزيتون، وبرك مياه، وقنوات، وآثار طرق قديمة. رغم أن الدير نفسه لا يوجد اليوم، فإن آثار الموقع تشير إلى أهميته. وقع القس يوحنا رئيس دير غسانيا نيابة عن مار إيليا رئيس الدير

الكنائس

كنيسة القديس سرجيوس في الجابية
تعد الجابية عاصمة الغساسنة الأردنيين الأولى، ومن المفترض أنها كانت تضم العديد من الكنائس. ومع ذلك، لم تذكر وثيقة رؤساء الأديرة العرب سوى كنيسة واحدة، وهي كنيسة القديس سرجيوس، التي أُقيمت لتخليد ذكرى الشهيد القديس سرجس أو سركيس، شفيع الغساسنة. وتعد أيقونة القديس سرجس في الكنيسة جزءًا من الشعار الحربي للغساسنة الأردنيين

كنيسة بيت غسان
يُذكر اسم هذه الكنيسة في كتاب “الإصابة في تمييز الصحابة” للعلامة العسقلاني، حيث يورد فيه ذكر “ابن أرطبان” ويضيف أن أرطبان كان “شماس كنيسة بيت غسان”. ولا توجد مصادر أخرى تذكر تفاصيل حول هذه الكنيسة

كنيسة يوحنا المعمدان
يشير نقش ثنائي اللغة تم العثور عليه في حرّان (منطقة في سهول حوران الأردنية) إلى بناء كنيسة قام بها “شراحيل بن ظالم” في عام ٤٦٣ لتكريم القديس يوحنا المعمدان. يمنحنا هذا النقش فكرة عن طبيعة الحكم لدى الغساسنة، حيث يتضح أن شراحيل كان فيلارخا (أميرا) غسانيا، لكنه لم يُذكر في أي مصادر أخرى بخلاف هذا النقش

كنيسة نجران
يشير معجم البلدان إلى وجود مناطق تحمل اسم نجران، إحداها في سهول حوران بالأردن، والأخرى في جنوب الجزيرة العربية. ومن المرجح أن الكنيسة المقصودة تقع في نجران حوران بالأردن. كان أهل نجران يتبعون نفس المذهب المسيحي الذي كان يعتنقه الغساسنة الأردنيون، مما أدى إلى نشوء روابط قوية بين الطرفين. وقد ذكر ياقوت الحموي وجود “بيت” (أي كنيسة) في نجران، وأشاد بجمالها وروعة مذبحها، قائلاً: هي بيعة عظيمة عامرة حسنة، مبنية على الأعمدة الرخامية، مزخرفة بالفسيفساء، وهو موضع مبارك

كنائس جلق
جلق هي إحدى مدن حوران الأردنية التي تقع حالياً في الأراضي السورية. كانت تمثل إحدى العواصم الهامة للغساسنة الأردنيين. وتذكر كنائس جلق في شعر يزيد بن معاوية، حيث وصف محبوبته بأنها تنام في “بِيَع”، وهي جمع “بيعة” وتعني الكنيسة، مميزاً ذلك بكونها ذات قباب يحيط بها الزيتون

 في قباب وسط دسكرة … حولها الزيتون قد ينعا    نزهة حتى إذا بلغت … نزلت من جلق بيعا


كنائس حوارين (إيفاريا)
حوارين هي إحدى قرى سهول حوران في الأردن، وكانت تُعرف قديماً بإيفاريا. من المؤكد أن إيفاريا كان بها على الأقل كنيسة واحدة، حيث تشير المصادر إلى أن القس يوحنا، قس إيفاريا، كان من أوائل القساوسة بين الأردنيين الغساسنة. كما تذكر بعض المصادر التاريخية أن الملك المنذر زار إيفاريا لافتتاح كنيسة فيها

كنيسة تل العميري
أظهرت الحفريات في موقع تل العميري وجود كنيسة أثرية تعود إلى العهد الغساني. يقع موقع تل العميري بالقرب من منتزه عمّان القومي في العاصمة، وهو منطقة مأهولة منذ العصور الحجرية. تشير النقوش المكتشفة إلى أن مقام القديس سرجيوس (سركيس)، شفيع الغساسنة في الأردن، تم تزيينه بالفسيفساء، وأن هذا العمل كان مهدى للملك الغساني المنذر بن الحارث. كما يخلد النقش بناء الكنيسة التي تم اكتشاف آثارها مؤخراً، حيث تم الكشف عن صحن الكنيسة وخزان المياه وعدد من المرفقات الأخرى

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

:ترجمة النص عن اليونانية

يا رب ، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه

يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر

يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!

يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!

يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!

في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء

بسعي من ماري ، ابن ربوس ، الكاهن الأكثر تقوى ، وجورجيوس الشماس ، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..]

إشكاليات تاريخية

طرح العديد من الباحثين في مجال علوم الآثار قضية أن الآثار والقصور الأموية قد تكون في الواقع من إنجازات الأردنيين الغساسنة. تم الاستدلال على هذه الفكرة من خلال أسلوب المعمار والزخارف والرسوم التي تزين القصور. ومن المعروف أن المباني عادة ما تتخذ اسمًا ودينًا جديدين يتناسبان مع الحاكم الجديد. على سبيل المثال، تم تحويل المعابد الوثنية إلى كنائس عند تحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية، كما تم تحويل العديد من الكنائس المسيحية إلى مساجد بعد دخول الحكم الإسلامي

يُعد قصر المشتى من أبرز القصور الصحراوية في الأردن، وهو معروف بواجهته المزخرفة التي تمت إزالتها من قبل الاحتلال العثماني وتقديمها هدية للقيصر الألماني، وهو ما يعكس سلوك إدارة الاحتلال في تلك الفترة المظلمة من تاريخ الأردن. وما يزال هذا القصر يثير الجدل حتى اليوم. إذ يعتقد المؤرخان كبرنوف ونودلكه أن القصر غساني ويعود إلى القرن السادس الميلادي، بينما يرى سترزغوتسكي أنه يعود إلى القرن الثالث أو الرابع الميلادي، بينما يرى كل من جانسن وسيرغناك أنه إما غساني أو لخمي (مناذري)

واجهة قصر المشتى - متحف برغامون في برلين - ألمانيا 

تواجه قضية أخرى الباحثين بشأن الآثار الرومانية التي بنيت في فترة حكم الأردنيين الغساسنة. فالمدرج الروماني والكنائس البيزنطية
مثل كنيسة الخارطة في مادبا، وجميع الآثار التي بنيت على أرض الأردن في تلك الحقبة، تثير سؤالًا مهمًا. ومن الثابت أن الأردنيين بمختلف تنوعهم السكاني (القبائل الأردنية في البادية والحضر – الإدوميين – الأنباط – الغساسنة … الخ) هم من بنوا هذه المباني والآثار. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا تزال هذه الآثار تُنسب في الغالب إلى الرومان أو البيزنطيين أو الأمويين أحيانًا؟

من المتعارف عليه أن المناطق الواقعة تحت النفوذ الروماني ستتبع الأسلوب الروماني في البناء، وفي أفضل الحالات سيؤدي التلاقح الحضاري لاقتباس بعض السمات المعمارية كما هو الحال مع الخزنة في البترا المبينة على الطراز الروماني. وعلى هذا، صحيح أن المدرجات والكنائس الأردنية القديمة مبنية على الطراز الروماني إلا أنها وبكل تأكيد بنيت بأيد أردنية، وباتت تستحق استعادة هذا النسب وإعادة تدقيق الوصف والمُسمى الأثري والتاريخي لها

المراجع

أبحاث إرث الأردن,  العمران الأردني الغساني
خلف، تيسير، كنيسة العرب المنسية (2008) دار التكوين، دمشق: سوريا
Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part  Dumbarton Oaks, Harvard University (1996)
العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق – سورية

Previous:
الغساسنة، جزء: ٩ – المرأة الأردنية الغسانية
Next:
الغساسنة، جزء: ١١ – التعدد اللغوي عند الغساسنة