الغساسنة، جزء: ١١ – التعدد اللغوي عند الغساسنة

التعدد اللغوي هو مرآة التفاعل الثقافي والاجتماع بين الشعوب. لدى الأردنيين الغساسنة، كان هذا التعدد نتاجًا طبيعيًا لدورهم البارز في التجارة والتواصل مع مختلف الحضارات. يعكس إرثهم اللغوي مزيجًا فريدًا من العربية والسريانية واليونانية، مما ساهم في إثراء الهوية الثقافية للأردن القديم

تعلم اللغات عملية مليئة بالتحديات، لكنها تفتح آفاقًا جديدة وتعزز التفاهم والانفتاح الاجتماعي والثقافي. وقد برع الأردنيون الغساسنة في اكتساب مهارات لغوية متنوعة نتيجة لدورهم الحيوي في التجارة التي امتدت على طول طريق الحرير وتفرعاته في الأردن، مما وضعهم في تواصل دائم مع ثقافات متعددة، بدءًا من الشرق الأقصى وصولًا إلى الغرب البيزنطي

التنوع اللغوي عند الغساسنة

تفاعل الغساسنة مع التجار والشعوب المختلفة أدى إلى اكتسابهم معرفة بلغات متعددة بجانب العربية. ومن أبرز العوامل المؤثرة كان اندماج الأردنيين الأنباط في مجتمع الغساسنة. فقد اشتهر الأنباط باستخدام الأبجدية النبطية والتحدث بلغات كاليونانية والرومانية والآرامية والسريانية، ما أغنى الإرث اللغوي للغساسنة

كان المجتمع الأردني يتميز بروح التعاضد وحب العلم، إذ برع الغساسنة في مجالات متنوعة، من بينها الطب. وكتبوا العديد من المؤلفات بالسريانية، رغم أن ما وصلنا منها اليوم يقتصر على إشارات تاريخية. كما أن الوثائق الكنسية التي شملت قوائم التعميد وأسماء الرهبان والمطارنة غالبًا ما كانت تُكتب بالسريانية واليونانية. مثال ذلك رسالة شهيرة كتبها الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة، الذي عُرف بلقب البطريق الأمجد، إلى القس يعقوب البرادعي

نص رسالة الحارث بن جبلة

الرسالة التي كتبها الحارث إلى القديس يعقوب البرادعي مترجمة من السريانية إلى اللاتينية، ثم لاحقًا إلى العربية بواسطة الباحث تيسير خلف. جاء في الرسالة

أود أن أعلمكم يا صاحب الغبطة أن الله والقديسة مريم باركا سفري وغمراني بنعمة النجاح في ما عزمت عليه من أعمال، وعندما كنت أستعد لمغادرة العاصمة حدثني الأسقف مار بولس رئيس الدير الكبير(الأرشمندريت) بالأمر الذي سبق أن ناقشه معك، والذي كتب بخصوصه إليك. وقال لي إنه أرسل لك ثلاث رسائل بهذا الشأن، وأود أن أخبر غبطتكم أنه إذا لم تستطيعوا إرسال الرسائل والأشخاص المكلفين بتنفيذ ما أمرتم به، أو إذا منعتكم الظروف من الحضور إلينا، بإمكانكم إرسال الرجال المعنيين محملين بالرسائل، وأطلب من الله أن يساعدني على إنجاز الأمور حسب إرادته، ولهذا يجب اختيار الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة

الرسالة تكشف عن مكانة السريانية في المراسلات الرسمية، إلى جانب اللغات الأخرى كاليونانية، مما يعكس ثنائية اللغة التي تميز بها
الغساسنة

النقوش والآثار

النقوش الفسيفسائية المكتشفة في مواقع مختلفة من الأردن، مثل نِتِل جنوب عمّان، تدعم الفكرة ذاتها. نقش تل العميري، على سبيل المثال، المكتوب باليونانية، يذكر مقام القديس سرجيوس الذي تم رصفه بالفسيفساء ويشير إلى الملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. أحد النقوش ينص على

“يا رب، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة… بارك القائد بالغ التعظيم المنذر…”

هذه النقوش تثبت استخدام اليونانية كلغة رسمية، بينما تعكس الفسيفساء والكتابات الأخرى روح الفخر بالملوك الغساسنة وشغفهم بالفن

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

اللغات ودورها الثقافي

اللغتان السريانية واليونانية كانتا الأكثر تأثيرًا على الغساسنة

السريانية: ارتبطت بالكنيسة ومراسلاتها الرسمية
اليونانية: كانت لغة الإمبراطورية البيزنطية الرسمية ووثائقها الإدارية

ورغم تعدد اللغات، لم يتأثر دور العربية؛ بل ازدهرت وأفرزت شعراء غساسنة أثروا الأدب العربي وأسهموا في تطور القصيدة القديمة, لذلك تبرز التجربة الغسانية مثالًا حيًا على التكامل الثقافي واللغوي. فقد كان الأردنيون الغساسنة جسرًا للتواصل الحضاري بين الشرق والغرب، وأسهم تعددهم اللغوي في إغناء الهوية العربية والإبداع الثقافي

الثراء اللغوي

أسهم التعدد اللغوي الذي تميز به الأردنيون الغساسنة في إحداث ثراء لغوي فريد من نوعه. ويُقصد بالثراء اللغوي تبادل المفردات والألفاظ بين اللغات المختلفة، حيث تأخذ اللغة كلمات من لغات أخرى وتمنحها أيضاً. وعلى الرغم من أن الأردنيين الغساسنة كتبوا معظم وثائقهم باليونانية، التي كانت اللغة الرسمية للمعاملات آنذاك، إلا أن تلك الوثائق لم تخلُ من الكلمات العربية الفصيحة التي لا تزال قيد الاستخدام حتى اليوم. فقد عجز الكَتَبة الغساسنة عن إيجاد مرادفات يونانية لبعض الكلمات العربية، فكتبوها كما هي ولكن بالحروف اليونانية

صورة لإحدى البرديات التي اكتشفت في البترا وتؤرخ لعهد الملك الغساني أبو كرب
المراجع :للاطلاع على باقي البرديات

وفي البترا، العاصمة الأردنية النبطية، عُثر على مجموعة من البرديات المتفحمة التي تمكن العلماء من إنقاذ بعضها. وقد تم تأريخ هذه البرديات إلى عهد الملك الغساني أبو كرب عام ٥٣٩ ميلادي، الذي كان حاكماً غسانياً على ولاية فلسطين. وتضمنت البرديات مجموعة من عقود الملكية والمواريث وغيرها، واستخلص العلماء منها العديد من الكلمات العربية التي دُوِّنت باليونانية

(βαιθ αλαχβαρ) بيت الأكبر: الغرفة الكبيرة

(βαιθ αλμεναμ): بيت المنام: غرفة النوم

(αλκασεβα): القصبة: قطعة أرض

(αλνασβα): النصبة: حقل العنب

(χαφφαθ): قفة: إناء لحفظ الطعام أو الشراب

(μαραβζ): مربض: حظيرة أبقار أو أغنام

(αβου χηρηβυσ): أبو كرب ملك الغساسنة

لم يقتصر الثراء اللغوي للأردنيين الغساسنة على كتابة اللغة العربية بحروف يونانية فقط، بل شمل أيضًا تعريب الكلمات من الآرامية، والأيولية (إحدى لهجات اليونان نسبة إلى مدينة ليون اليونانية)، والفارسية، واللاتينية

فمن الآرامية، استُخدمت كلمات مثل “أكار” بمعنى الحراث، و”ناتور” التي أصبحت “ناطور”، و”فدان” كوحدة لقياس المساحة، و”سراجا” التي عُربت إلى “سراج”. ومن الأيولية، كلمة “يونتيكا” التي أصبحت “بندق”. ومن اليونانية، كلمة “كانديلا” التي تحولت إلى “قنديل”، و”فرنس” التي صارت “فرن”. ورغم صعوبة حصر عدد الكلمات التي تأثرت بالعربية أو أثرت فيها، إلا أن بعض اللغات، مثل الإسبانية والآرامية، تحتوي على آلاف الكلمات المستعارة من العربية

لقد أثرت خطوط التجارة الممتدة وشغف الأردنيين بالعلم في ظل حكم الغساسنة على إثراء حياتهم الثقافية واللغوية، مما يعكس جانبًا من جوانب الرقي الحضاري في تلك الفترة

المراجع

أبحاث إرث الأردن, الشعر واللغة عند الأردنيين الغساسنة
اليسوعي، لويس.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
الهزاع، قطنة. (1994) الشعر في بلاط الغساسنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك
للاطلاع على باقي البرديات ,Papyri

Previous:
الغساسنة، جزء: ١٠ – العمارة الغسانية
Next:
الغساسنة، جزء: ١٢ – الشعراء و الشعر الغساني