ثقافة الغسولية، جزء : ٥ – التعقيد الاجتماعي والرمزية الطقوسية

تستعرض هذه الدراسة الأهمية الأثرية والأنثروبولوجية للوحات الجدارية الغسولية، مع التركيز على الرمزية والطقوس المرتبطة بها. تناقش العلاقة المحتملة بين هذه اللوحات والطقوس الدينية في العصر النحاسي المتأخر، بالإضافة إلى وجود إشارات اجتماعية تعكس طبقات اجتماعية ونخبة مرئية في المجتمع الغسولي. تسلط الدراسة الضوء على التكوين الاجتماعي، الرمزية الدينية، واحتمالية وجود مجمعات عبادة مخصصة، مما يوفر رؤى جديدة حول تطور المجتمعات القديمة في الاردن و جنوب بلاد الشام

الأهمية الأثرية والأنثروبولوجية

بينما لا تُظهر الهياكل المرسومة ارتباطًا مباشرًا بالغسولية مع العديد من مدافن البالغين الفريدة في تشاتالهويوك (تركيا)، إلا أنها قد تكون ذات صلة بشكل ما، وإن كان ذلك بشكل أقل وضوحًا، بمدافن الأطفال (لوفيل ٢٠١٠). ربما تعكس هذه المدافن تقديسًا أو حماية أو تمثيلًا رمزيًا يعزز الهياكل المحيطة بها. علاوة على ذلك، فإن الموضوعات التي تظهر في لوحات الغسول تحمل معاني رمزية وطقوسية أكثر وضوحًا، مثل النجمة والنمر، أو معانٍ أنثروبولوجية محددة، كالأوجه البارزة و”الموكب”، بالمقارنة مع الرموز الموجودة في تشاتالهويوك

لوحة جدارية موكب هينيسي

في دراسة سابقة للوحة الجدارية “الموكب” (درابش وبورك ٢٠١٤)، قدّم الباحثان تفسيرًا يشير إلى طابع احتفالي وطقوسي للوحة، مع التركيز على وظيفتها الطقسية العامة المتمثلة في “تعزيز هوية المجموعة”، وهو ما يبدو أنه يشكل الأساس لهذا التمثيل

يمكن صياغة حجة مشابهة تتعلق بالأهمية الأنثروبولوجية للوحة “الوجوه البارزة”، التي تصور صفًا من الشخصيات الجالسة بملابس فاخرة تواجه شخصية أصغر حجمًا، مرسومة بأسلوب ظلي وتظهر بجانب نجمة بارزة بألوان الأحمر والأصفر. وقد لاحظ المعلقون الأوائل أن التركيبة العامة تعكس طابعًا هرميًا ضمنيًا (ستاجر ١٩٩٢)، مما يقدم تشابهًا مثيرًا للاهتمام – وإن كان سابقًا بفترة طويلة – مع مشاهد “الولائم” السومرية التي ظهرت لاحقًا في النحت السومري، وبشكل بارز في ترصيعات “راية أور” الشهيرة (أروز ٢٠٠٣)

  إعادة تصوير لوحة الموكب الشعائر - متحف الأردن

نظرًا لندرة المواد المتفق عليها التي تتناول الطبقية الاجتماعية في عصور ما قبل التاريخ المتأخرة (روان وجولدن ٢٠٠٩، درابش وبورك ٢٠١٤)، تكتسب هذه “الإشارات” البصرية التمثيلية المرتبطة بالمجتمع الغسولي أهمية خاصة. علاوة على ذلك، قد تسلط الضوء على أوجه التشابه الرمزية والتنظيمية المحتملة مع المجتمع المتقدم في بلاد ما بين النهرين، حيث تُثري النصوص المكتوبة الأولى فهمنا للتكوين الاجتماعي والفني للحضارة السومرية (أروز ٢٠٠٣)

النجمة تمثل العنصر الأبرز في اللوحات الجدارية الغسولية، حيث يظهر جمالها في التعقيد التصميمي والدقة التنفيذية لجدارية “النجمة”. تعد هذه الجدارية الهندسية الكبيرة نقطة ارتكاز للجدار والغرفة التي تحتضنها. تُعرض الجدارية ضمن مشاهد تصور أفرادًا ملثمين وحيوانات غريبة، بالإضافة إلى تمثيلات لمجمع طقوسي يضم هذه العناصر، مما يضفي عليها أبعادًا رمزية عميقة

عند مقارنة هذا الاكتشاف بجدارية “الوجوه البارزة”، التي تعتمد على النجمة كعنصر رئيسي لجذب الانتباه، يتضح أن النجمة كانت تمثل قيمة رمزية ودينية مهمة لدى الغسوليين. وقد أشار درابش إلى احتمال وجود صلة بين الغسوليين ورمزية النجوم ضمن إطار عبادة عشتار في بلاد ما بين النهرين، حيث كانت النجمة رمزًا بارزًا للإلهة (وربما تشير إلى كوكب الزهرة) في الثقافة السومرية

إذا كان هذا الارتباط صحيحًا، فمن المحتمل أن جدارية “النجمة” تمثل الإلهة الرئيسية في ثقافة الغسوليين. وقد تكون هذه الجدارية جزءًا من ضريح أو معبد مبكر، حيث تُقام طقوس تشارك فيها “الأعيان” ضمن إطار عبادة طقسية داخل هذا الفضاء المقدس

رسم لوحة النجمة الغسولية 


تستمر مسألة وجود مجمعات عبادة متخصصة خلال العصر النحاسي في إثارة نقاش واسع، على الرغم من التوجه التدريجي، وإن كان حذرًا، نحو الاعتراف بالتشابهات اللافتة بين الأسوار ذات الطابع العبادي في مواقع مثل جلات وعين جدي وغسول. وقد أسفرت الحفريات عن اكتشاف العديد من شظايا اللوحات الجدارية الصغيرة ضمن طبقات الحطام. وفي هذا السياق، توفر اللوحات الجدارية التي تصور النجوم، والأعيان، والموكب، أدلة قوية تعزز فرضية وجود مجمعات عبادة مميزة، بالإضافة إلى خدم متخصصين وممارسات احتفالية ذات طابع عام

لقد شكّلت مرحلة تطور التعقيد الاجتماعي، خصوصًا مع بروز التفاوت المنظم والنخب الوراثية، بتركيز كبير من قبل علماء الأنثروبولوجيا لفترة طويلة (يوفي، فلانري وماركوس). وفي هذا الإطار، تبرز أهمية لوحات الغسول الجدارية بشكل خاص، حيث يثير دمج الثقافة الغسولية في أي إطار تصوري تطوري مماثل نقاشًا جادًا (بورك ٢٠٠٨، إيلان وروان ٢٠١٢)

في دراسته المميزة عن الرقص والطقوس في العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي في بلاد الشام، استعرض جارفينكل تطورًا تدريجيًا في تصويرات الرقص الجماعي من خلال الأعمال الفنية المرتبطة بذلك. وأوضح وجود تحول في التمثيلات، حيث انتقلت من مشاهد تصور دائرة من الراقصين المتماثلين في الحجم خلال العصر الحجري الحديث إلى مواكب راقصين تتفاوت أحجامهم في العصر النحاسي المتأخر. وصف جارفينكل هذا التغيير بأنه انتقال من الرقص الدائري المتساوي الذي يعكس التركيز على الجماعة في العصر الحجري الحديث إلى مواكب خطية ذات ترتيب هرمي في العصر النحاسي (جارفينكل ١٩٩٨)

يتناغم ظهور شخصية بارزة تقود لوحة موكب الغسول الجدارية (درابش وبورك ٢٠١٤) مع هذا التصور، حيث يعكس حدثًا هرميًا مماثلًا من الناحية الرمزية لما يظهر في لوحة الأعيان (درابش وبورك ٢٠١٤). وعند تحليل الأدلة المستخلصة من تركيبات لوحات الأعيان والموكب الجدارية، تظهر شواهد قوية تدعم وجود نخبة اجتماعية وطبقية مرئية في مجتمع العصر النحاسي المتأخر في الاردن و جنوب بلاد الشام

المراجع

MDPI, Early Visual Communication: Introducing the 6000-Year-Old Buon Frescoes from Teleilat Ghassul, Jordan

Previous:
الثقافة الغسولية، جزء: ٤ – اللوحات الجدارية 
Next:
الثقافة الغسولية، جزء : ٦ – المعابد في الثقافة الغسولية