المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٧ – الدين في مملكة المؤابيين
تعد مملكة مؤاب الأردنية واحدة من الممالك القديمة المهمة التي تركت إرثًا ثقافيًا ودينيًا غنيًا، وقد انعكست معتقداتهم في طقوسهم ولغتهم ونقوشهم الأثرية. شكّلت اللغة المؤابية جزءًا من الهوية الثقافية للمملكة، بينما لعبت الطقوس الدينية دورًا محوريًا في حياتهم الاجتماعية والسياسية. يسهم هذا النص في استكشاف أبعاد اللغة المؤابية وممارساتهم الدينية وصلاتهم بالممالك المجاورة وفقًا للنقوش والمصادر التاريخية
اللغة المؤابية
تعد اللغة المؤابية من اللهجات الكنعانية التي تحدث بها المؤابيون، وكانوا يكتبونها بالأبجدية الفينيقية التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط آنذاك. وتجدر الإشارة إلى أن الأبجدية الفينيقية كانت تستخدم أيضًا في كتابة عدة لغات سامية أخرى مثل العبرية والآرامية
تعد المعلومات المتوفرة عن اللغة المؤابية محدودة، إلا أن الدراسات اللغوية تشير إلى أن المؤابية لهجة كنعانية تتميز بنظام صوتي قريب من الكنعانية الأم، لكنها احتوت على خصائص لغوية تميزها عن بقية اللهجات الكنعانية. فقد أظهرت بعض الصفات اللغوية للمؤابيين تقاطعًا مع اللغة العربية الشمالية في بعض الجوانب، كما أن هناك عناصر لغوية مشتركة بينها وبين اللغة الآرامية، مما دفع بعض الباحثين إلى تصنيفها ضمن مجموعة اللغات الآرامية
ومع ذلك، تظل مسألة تحديد نطق اللغة المؤابية معقدة وغير واضحة بشكل تام. من ناحية أخرى، يرى بعض الباحثين أن اللغة المؤابية تشترك مع اللغة العبرية في بعض السمات الصوتية، وهو أمر متوقع نظرًا لانتمائهما إلى نفس العائلة الكنعانية. لكن مع مرور الزمن، تطورت اللغة المؤابية واكتسبت سمات خاصة جعلتها تتميز وتصبح لغة مستقلة ذات شخصية لغوية فريدة
الدين في مملكة المؤابيين
المعتقدات الدينية
كان الدين يشكل محورًا أساسيًا في حياة سكان مملكة مؤاب الواقعة في الأردن، حيث أسهمت المعتقدات والمؤسسات الدينية في بناء الهوية الثقافية والاجتماعية للمملكة. من خلال المعابد والأماكن المقدسة، تم تنظيم الشؤون الدينية وتطبيق التقاليد والطقوس التي كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمع المؤابي
تعددت المواقع المقدسة في مملكة مؤاب، وكان من أبرزها جبل نبو، الذي حظي بمكانة روحية خاصة. كما كان للمؤابيين إله رئيس يدعى كموش، وكانت زوجته الإلهة عشتاروت، حيث شكل هذان الإلهان المحور الأساسي لعباداتهم
احتفى المؤابيون بما يعرف بـ أيام الزينة، وهي أعياد وطنية تمزج بين البعد الروحي والدنيوي، وكانت هذه الأعياد مناسبات عامة تجمع بين الاحتفال والطقوس الدينية. وكان هناك عيدان رئيسيان يُقامان سنويًا في فصلي الربيع والخريف، خلال فترتي الاعتدالين الربيعي والخريفي
حملت هذه الأعياد أهمية كبيرة في المجتمع المؤابي، حيث كانت تقام خلالها حفلات الزواج، وتعقد فيها الأفراح، كما كانت فرصة لترقية الأفراد، وتنصيب الشيوخ والكهنة، وحل النزاعات وإصلاح العلاقات الاجتماعية
كان الملك في مملكة مؤاب يجمع بين جميع السلطات، فهو القائد العسكري، وصاحب القرار السياسي، والمسؤول الأول عن الشؤون الدينية والاجتماعية. وكان بيده إعلان الحرب وإقرار السلم، مما عزز دوره المركزي في حياة المملكة
مؤاب والكتاب المقدس – التوراة
ذُكر اسم مؤاب في الكتاب المقدس ١٢١ مرة
في التوراة، وتحديدًا في سفر التكوين، نجد خلطًا بين الإيميين والمؤابيين، حيث يعد كلاهما من القبائل الأردنية الثمودية. وهذا الخلط يدعم الرأي القائل بأن المؤابيين نشأوا من الإيميين، الأمر الذي جعل العديد من الكُتاب يعجزون عن التمييز بينهما
:وقد ورد هذا الخلط في النص التوراتي الذي جاء فيه
والبلاد التي أصبح يُطلق عليها موآب كان يسكنها قبلًا أقوام اشتهروا بطول القامة (مثل العناقيين) يسمّون بالروفائيين
(تثنية ٢: ١٠-١١)
وكان المؤابيون يسمّونهم الإيميين، الذين كانوا يقيمون في عهد كدرلعومر ملك عيلام في شوي قريتايم ( تكوين ١٤: ٥)
هذا النص يُظهر بوضوح أن الإيميين كانوا سكانًا قدماء لمؤاب قبل أن يستقر بها المؤابيون، وهو ما يفسر الالتباس الذي وقع في الروايات التوراتية
كانت المنطقة التي سكنها المؤابيون سابقًا مأهولة بأقوام عرفوا بطول القامة وقوة الأجساد وشدة البأس، وهم “الروفائيون“، الذين وصفوا بأنهم يشبهون “العناقيين” أو “العمالقة” و”القوم الجبارين“. ويُشير النص إلى كلمة “قَبْلًا” بمعنى أنهم سكنوا المكان قبل المؤابيين زمنيًا.وقد ورد في النص: كان يسكنها قَبْلًا أقوام اشتهروا بطول القامة، مثل العناقيين، يُطلق عليهم اسم الروفائيين
أما المؤابيون الذين عاشوا في مؤاب زمن الملك “كدر لعومر” فهم نسل “الإيميين“، مما يدل على أنهم ليسوا من ذرية بنات لوط، كما تزعم روايات التوراة. فالملك “كدر لعومر”، الذي شنّ حربًا عليهم، كان في زمن النبي إبراهيم عليه السلام، وهو نفسه الذي أسر النبي لوط عليه السلام، ولم يحرر من الأسر إلا بتدخل عمه النبي إبراهيم عليه السلام
وكان المؤابيون في تلك الفترة شعبًا له مملكة وجيش وملك وهوية مستقلة، قبل أن يعاقب الله سبحانه قوم لوط. وهذا ينفي تمامًا مزاعم التوراة التي تروج افتراءات باطلة حول النبي لوط عليه السلام، وتتهمه بالخطيئة التي تزعم أنها أدت إلى ظهور المؤابيين والعمونيين، وهي اتهامات كاذبة لا أساس لها من الصحة
هناك إشارة واضحة في التوراة إلى “كدرلعومر”، الذي حارب مملكة المؤابيين. وقد ورد في النص التوراتي أن اسم “كدرلعومر” هو اسم عيلامي يعني “عبد الإله لعومر”، وكان ملكًا على عيلام ومهيمنًا على بابل. في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، تحالف كدرلعومر مع عدد من الملوك، وتمكن من إخضاع المدن المحيطة بالبحر الميت، بما في ذلك قوم لوط، حيث ظلوا تحت سيطرته لمدة اثنتي عشرة سنة
لكن في السنة الثالثة عشرة تمردت هذه المدن، فقام كدرلعومر وحلفاؤه بشن هجوم على تلك المناطق، مستهدفين شرق الأردن. وامتدت حملته من باشان شمالًا، مرورًا بالسهل المحيط بالبحر الميت، وصولًا إلى أرض أدوم جنوبًا عند رأس البحر الأحمر، وهي مناطق كان يسكنها العمالقة الثموديون الأردنيون. بفضل هذا الانتصار، تمكن كدرلعومر من السيطرة على طرق القوافل التجارية الممتدة من شبه الجزيرة العربية قرب رأس البحر الأحمر إلى مصر وكنعان والشمال
وخلال هذه الحملة، قام كدرلعومر بأخذ لوط ابن أخي سيدنا إبراهيم أسيرًا من سدوم. وعند سماع الخبر، انطلق سيدنا إبراهيم مع خدامه وحلفائه في مطاردة كدرلعومر، واستطاع استعادة لوط والغنائم التي أخذها (سفر التكوين١٤: ١٠ -١٦)
يذكر أن شنّ ملوك بابل حملات على سوريا وفلسطين كان أمرًا معتادًا حتى في تلك العصور القديمة
مملكة المؤابيين والنبي إبراهيم والنبي لوط
تشير هذه النصوص إلى أن مملكة المؤابيين كانت قائمة قبل وصول النبي إبراهيم والنبي لوط عليهما السلام إلى أراضي الأردن وبلاد كنعان بفترة طويلة، قد تمتد لمئات أو حتى آلاف السنين. وتوضح الروايات أن مملكة المؤابيين كانت قائمة بالفعل عندما شن كدرلعومر هجومه في زمن النبي إبراهيم عليه السلام، وهو في الأراضي المقدسة. وتشير النصوص إلى أن كدرلعومر أسر النبي لوط عليه السلام، إلا أن النبي إبراهيم تمكن من تحريره، كما ورد ذلك صراحة في التوراة
من خلال هذه النصوص نجد أن مملكة الأدوميين كانت قائمة في زمن النبي لوط عليه السلام، وكانت تعرف آنذاك باسم “أدما” كما وردت بهذا الاسم في التوراة. وتشير الأدلة إلى أن مملكة “أدما” خاضت حربًا ضد كدرلعومر، ما يدحض ادعاء التوراة بأن الأدوميين هم من نسل الشخصية التوراتية الوهمية عيسو بن إسحاق
يتضح من هذه المعلومات أن مملكة الأدوميين كانت موجودة وقوية قبل وصول النبي إبراهيم إلى بلاد كنعان، مما يؤكد أن شخصية “عيسو” مختلقة، والغرض من اختراعها في التوراة هو الإيحاء بأن الممالك الأردنية القديمة تنحدر من العبرانيين. وهذا الادعاء يتماشى مع العقلية التوسعية اليهودية، التي لا تستند إلى أسس تاريخية أو عقلية حقيقية
الطقوس الدينية لدى الأردنيين المؤابيين
تقديم القرابين
تعد القرابين من أبرز الطقوس الدينية التي مارسها الأردنيون المؤابيون، وقد كشفت اللقى الأثرية عن دمى فخارية صغيرة تمثل حيوانات مثل الكباش والعجول، مما يدل على ترسخ فكرة الأضاحي المقدّمة للآلهة ضمن طقوس محددة. ويعتقد الباحثون أن هذه الأضاحي كانت تقدم إما على المذابح أو كهدية للكهنة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الملك المؤابي الأردني بالاق قدم الأضاحي للإله كموش قبل مواجهته للعبرانيين عند دخولهم المنطقة. كما أشار الملك المؤابي ميشع في مسلته الشهيرة إلى تقديمه الأضاحي للإله كموش طلبًا للنصر في معاركه. ومن الجدير بالذكر أن ميشع اعتبر القتلى من أعدائه بمثابة أضاحي للإله، وفي تصرف استثنائي، ضحى بابنه ليحظى برضا الإله وتحقيق النصر على أعدائه
Bernard Gagnon :تابوت من مملكة مؤاب في متحف عمان, تصوير
حرق البخور
كان حرق البخور من الطقوس الدينية الشائعة لدى الأردنيين المؤابيين. وقد عثر على مباخر وقواعد مخصصة لحرق البخور في العديد من المواقع الأثرية، مما يشير إلى دور البخور في الطقوس التعبدية
تقديم غنائم الحرب
كان المؤابيون يقدّمون غنائم الحرب كقرابين على المذابح تعبيرًا عن شكرهم للآلهة التي ساعدتهم في تحقيق الانتصارات. وكانت هذه الغنائم جزءًا من الطقوس الدينية التي تكرّس العلاقة بين المنتصر وآلهته
طقوس الحزن واليأس
عند مرور الأردني المؤابي بحالة من الحزن أو اليأس، كان يتوجه إلى المعبد لتقديم دمى ذات وجوه محززة كرمز لحالته النفسية. ويعتقد أن عادة وشم الوجه في حالات الحزن قد تكون ذات أصل مؤابي. بالإضافة إلى ذلك، كان بإمكان الشخص الذي يعاني من الحزن أن يقدم خصلة من شعر رأسه أو لحيته كقربان للمعبد تعبيرًا عن مشاعره ومناجاته للآلهة
المراجع
د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية
د. زيدان عبد الكافي كفافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان
أبحاث إرث الأردن، ملامح الديانة الأردنية الأدومية