التنوخيين، جزء: ٣ – الصراعات القبلية والتحالفات
يشهد التاريخ الأردني القديم على تعقيدات الصراعات القبلية التي شكّلت معالم المنطقة السياسية والاجتماعية. برزت قبائل مثل قضاعة وتنوخ بدور مركزي في هذه التحولات، حيث تنافست على النفوذ والسيطرة. تناول هذا النص أحداثًا مفصلّة عن ممالكهم، تحالفاتهم، وتحدياتهم، والتي أسهمت في صياغة المشهد السياسي للأردن عبر العصور
الصراعات القبلية
في سياق التاريخ الأردني القديم، يمكننا أن نلاحظ أن المناذرة والغساسنة ينتمون إلى نفس القبيلة، وهي قبيلة تنوخ، التي كانت ذات دور بارز في المنطقة. وقد امتدت هذه القبيلة لتصبح جزءاً من الأراضي الأردنية عبر مراحل من الاستقرار والإقامة. يمكن القول إن هذه القبيلة، التي كانت تتمتع بقوة وتأثير ملحوظ، كانت حجر الزاوية في تشكيل معالم السياسة الأردنية في فترة ما بعد انهيار دولة الأنباط
تجدر الإشارة إلى أن التوترات والصراعات بين قبيلة قضاعة الأردنية المحلية، التي كانت تسيطر على جزء من المنطقة، وقبيلة تنوخ الوافدة، كان لها دور مهم في إعادة تشكيل الوضع السياسي. هذه المنافسات بين القوى المحلية والوافدة ساهمت في تقلبات السلطة والصراعات على النفوذ
وتعود جذور مملكة الضجاعمة إلى قبيلة قضاعة، وقد ظهرت هذه المملكة في مرحلتين تاريخيتين هامتين. المرحلة الأولى كانت قبل ظهور الملك معاوية الحواري وزوجته الملكة ماوية، حيث أسسوا مملكة ضجاعمية كانت تتمتع بالاستقلالية والقوة في المنطقة
بعد وفاة الملكة ماوية، تعرضت المملكة لفترة من الاضطراب، ولكنها سرعان ما استعادت قوتها في المرحلة الثانية من تاريخها. خلال هذه الفترة، التي امتدت لما يقرب من القرن والنصف، كانت مملكة الضجاعمة في صراع مستمر مع الاحتلال الروماني وقبائل الغساسنة، مما جعلها تمر بتحديات كبيرة في الدفاع عن أراضيها وسيادتها
استمر الصراع طويلًا حتى بداية القرن السادس الميلادي، حيث تدخل الرومان لدعم قبيلة الغساسنة في مواجهة الضجاعمة. هذا التدخل أسهم في انهيار “دولة التوازن”، التي كانت تتمثل في مملكة بيريا. كانت هذه المملكة تشكل ركيزة أساسية لدعم مملكة الضجاعمة، كما لعبت دورًا محوريًا في الحفاظ على الأمن والاستقرار في الأراضي الأردنية بشكل عام. وبفضل موقعها الاستراتيجي، حافظت مملكة بيريا على علاقات طيبة ووئام مع كافة الأطراف، مما جعلها عنصرًا حاسمًا في المنطقة طوال تلك الفترة
في سياق الصراعات والتحالفات القبلية التي شهدها تاريخ المنطقة، لعبت قبيلة قضاعة دورًا محوريًا في تشكيل الأحداث السياسية والاجتماعية في الأردن. فقد أدت قوة هذه القبيلة وتحالفاتها الاستراتيجية مع قبائل أردنية أخرى، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد عويدي العبادي في دراسته، إلى منع قبيلة تنوخ من إقامة مملكة خاصة بها في هذه المنطقة. بدلاً من ذلك، تمكّن فرع اللخميين، الذي عرف لاحقًا بالمناذرة، من إقامة مملكة مستقلة في الركن الشرقي لمملكة الأنباط التي بدأت تضعف وتزول. في المقابل، وبسبب التحولات السياسية والقبائلية، خضع أبناء عمومتهم من الغساسنة لحكم المملكة الأردنية الضجاعمية، حيث استمروا في ولائهم لها لمدة تقارب الأربعة قرون
و ذكر الدكتور أحمد عويدي العبادي في دراسته، اختار فصيل آخر من قبيلة تنوخ أن يستقروا في مملكة بيريا الأردنية، التي كانت عاصمتها مدينة السلط المحروسة. ومن بين هؤلاء كان الملكة ماوية، التي كانت أرملة الملك معاوية الحواري الجذامي، أحد الشخصيات البارزة في تلك الحقبة
ولم تتمكن قبيلة تنوخ من إقامة نظام حكم في أراضي الأردن، حيث واجهت مقاومة شديدة من قبيلة قضاعة التي كانت تتمتع بسلطة ونفوذ كبيرين في المنطقة. وكان تحالف العشائر الأردنية الأخرى قد دعم قبيلة قضاعة في هذا الصراع، إذ اعتبرت هذه العشائر تنوخ طائفة دخيلة على المنطقة، وأعربت عن قلقها من أن يكون وجودهم في الأردن سيجلب الخراب والضرر. فقد كانت بعض الروايات تشير إلى أن تنوخ قد جلبوا معهم العنف والتخريب والفساد في مملكتهم السابقة في سبأ، مما جعل العشائر الأردنية تعتبرهم تهديدًا قد يعيد تلك الأزمات. بناءً على هذه المخاوف، عملت هذه العشائر على مقاومة أي محاولة لفرض سلطة تنوخ على المنطقة، مؤكدين بذلك رفضهم لأي تسلط خارجي قد يمس استقرارهم وأمنهم
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَتَيْهِمْ جَنَتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) سورة سبأ
كانت قبيلة تنوخ قد سلكت طريق الخضوع والولاء بدلاً من التحدي والاستقلال، حيث قبلت بأن تكون تحت سيطرة القبائل الأخرى بدلًا من أن تسعى لأن تكون أندادًا أو حكامًا على الأراضي التي تعيش عليها. ففي هذا السياق، استقبلت قبيلة قضاعة وحلفاؤها تنوخ ليس كأنداد أو سادة، بل كمواطنين خاضعين لها، على أن يلتزموا بدفع الخاوة دون أن يكون لهم الحق في إقامة أي كيان سياسي أو سيادي مستقل. وفي المقابل، كان جناح الغساسنة، الذي كان يملك نفوذًا في المنطقة، قد وافق على هذا الوضع الجديد وتقبل أن يعيش تحت سيطرة قضاعة. ولكن جناح المناذرة، الذي كان يمثل الملك مالك بن فهم، رفض هذا الوضع تمامًا، حيث رفض الخضوع وتأكيد سيادة قضاعة على قبيلة تنوخ
أما الجناح الثالث من قبيلة تنوخ، فقد اختار خيارًا مختلفًا، حيث انضوى تحت سيادة مملكة بيريا الأردنية. هؤلاء، الذين اختاروا أن يكونوا مواطنين في المملكة الأردنية، ضموا في صفوفهم أسرة الملكة ماوية، التي كانت إحدى الشخصيات البارزة، مما أضاف طابعًا مميزًا لهذا التحول
لم يتمكن التنوخيون من إقامة حكم لهم في الأردن، حيث تفتقر الروايات التاريخية إلى تفاصيل دقيقة حول الصراع المحتمل بين قبيلتي تنوخ وقضاعة، أو الأسباب التي أدت بالملك مالك بن فهم إلى مغادرة هذه الأرض. وعلى الرغم من محاولات مالك بن فهم لتأسيس مملكة خاصة به في المنطقة، فإن فشله في تحقيق هذا الهدف جعل من رحيله عن الأردن حدثًا غامضًا لم تشر إليه المصادر بشكل مفصل، مما يترك تساؤلات حول الدوافع التي دفعته للابتعاد عن هذه الأرض رغم محاولاته السابقة
ويؤكد الدكتور أحمد عويدي العبادي أن الملك مالك بن فهم لم يرحل عن الأردن بإرادته، بل كان مضطراً لذلك بعد هزيمته أمام قبيلة قضاعة وتحالف العشائر الأردنية، التي ضمت قبائل جذام وبني كلب وبني عاملة. وعندما فشل في تحقيق حلمه في تأسيس مملكة خاصة به في الأردن، قرر الاتجاه إلى منطقة كانت تعاني من فراغ سياسي، وهي أراضي الأنباط الأردنيين التي كانت قد شهدت ضعفًا بعد الاحتلال الروماني
في تلك المرحلة، كان الملك مالك بن فهم مجبرًا على مغادرة الأراضي الأردنية والتوجه إلى عُمان، حيث كانت البادية وصولاً إلى الخليج العربي جزءًا من ممتلكات الأنباط الأردنيين قبل الاحتلال الروماني. بعد سقوط مملكة الأنباط، استغل الملك مالك هذا الفراغ السياسي الحاصل، واعتبر نفسه الوريث الشرعي لمملكة الأنباط التي انهارت. وبذلك، سعى جاهدًا للسيطرة على عرش الأردن النبطي في منطقة الخليج العربي، مستفيدًا من النشاط التجاري والاقتصادي المستمر في المنطقة رغم انهيار السلطة السياسية فيها
لم يتناول المؤرخون بشكل دقيق الطريقة التي تم بها طرد جناح الملك مالك بن فهم من قبيلة بني تنوخ من منطقة الأردن. ومن بين النقاط التي تثير الجدل بين الباحثين، نجد أن الدكتور أحمد عويدي العبادي يعترض على الرواية التي تزعم أن بني سليح، وهم فرع من قبيلة قضاعة، قد وصلوا إلى جنوب الشام، بما في ذلك الأردن، وتمكنوا من التغلب على قبيلة تنوخ، ثم اعتنقوا المسيحية. هذه الرواية تدعي أيضًا أن الروم قد منحوا بني سليح السلطة على العرب في تلك المنطقة، ما أدى إلى استقرار حكمهم في جنوب الشام، أي في الأردن والأراضي المحيطة التي كانت جزءًا من المملكة الضجعمية
لكن الدكتور العبادي يرفض هذه الفرضية، ويعتبرها غير صحيحة. ويؤكد أن هذه الرواية تعطي انطباعًا خاطئًا يفيد بأن قبيلة تنوخ كانت قد استوطنت الأردن قبل قدوم قبيلة قضاعة وبني سليح، وهو أمر غير دقيق. فعلى العكس من ذلك، فإن بني سليح كانوا في حقيقة الأمر جزءًا من قبيلة قضاعة الكبرى، وكانوا يشغلون منصب الرياسة فيها، ولم يكونوا يشكلون قبيلة مستقلة أو منفصلة عنها
مملكة بني سليح
تعتبر قبيلة سليح، التي تعود أصولها إلى قضاعة، من أقدم وأهم القبائل التي استوطنت المنطقة الأردنية عبر العصور. فقد كانت هذه القبيلة جزءًا من رعايا الأنباط، الذين عرفوا بحضارتهم في المنطقة قبل عدة قرون من ظهور مملكة تنوخ. وكانت سليح من بين القبائل التي عاشت في المنطقة الأردنية التاريخية والجغرافية، التي تتمتع بتاريخ طويل ومعقد، و قد لعبت قبيلة سليح دوراً بارزاً حيث كانت جزءًا من أسرة فرعون مصر في زمن النبي موسى عليه السلام. كما أن سليح كانت حليفًا استراتيجيًا للملك حدد بن بدد، ملك المملكة الأردنية الأدومية، وهو ما يعكس مكانتها الكبيرة في تاريخ الأردن القديم
لم تقتصر تحالفات قضاعة على الملك الأدومي حدد بن بدد فقط، بل تحالفت مع ممالك وقبائل قوية أخرى في المنطقة مثل مملكة بيريا، إضافة إلى قبائل جذام، بني عاملة، بني كلب، بلقين، وجهينة، وبهراء، وغيرها من القبائل الأردنية الشهيرة. كان الهدف من هذه التحالفات حماية الأردن من الهجمات الخارجية، خصوصًا من قبائل مثل تنوخ، ومن أجل التصدي للمخاطر التي تهدد استقرار المنطقة، خاصة بعد محاولة الاحتلال الروماني, وبالنظر إلى تلك التحالفات، كان الرومان يدركون أهمية التحالف مع القبائل القوية في الأردن لضمان استمرار حكمهم في المنطقة. وم بين هذه القبائل، كانت قضاعة، وبالتحديد بطن سليح، تعد من أبرز وأقوى القبائل في المنطقة. وكانت الزعامة في قبيلة سليح تتركز في أسرة الضجاعمة، الذين لعبوا دورًا مهمًا في الحفاظ على مكانة قبيلتهم وتعزيز قوتها في مواجهة التحديات السياسية والعسكرية التي كانت تواجهها المنطقة
يشير المؤرخون إلى أن ملوك سليح كانوا حكامًا لبلاد الشام، رغم أن عاصمتهم كانت تقع في مدينة جرش، بالقرب من نهر الزرقاء. هذا يعكس مدى امتداد النفوذ الأردني على المناطق المجاورة، حيث كانت المملكة الأردنية تضم العديد من الشعوب والقبائل التي أقامت ممالك فيها. وبحسب السجلات التاريخية، امتدت مملكة بني سليح، المعروفة أيضًا بقضاعة، على طول الشريط الجنوبي من بلاد الشام، من خليج العقبة في منطقة أيلة، وصولًا إلى حدود العراق. وهذا يشير إلى أن المملكة شملت أراضي الأردن التاريخية، بالإضافة إلى أن نفوذها امتد ليشمل الأراضي الفلسطينية المجاورة أيضًا
مملكة بني سليح، التي كانت تعرف في العصور التاريخية باسم المملكة الأردنية الضجعمية نسبة إلى أسرة ضجعم الحاكمة، كانت تمثل مركزاً حضارياً مهماً في منطقة بلاد الشام. عاصمتها كانت مدينة جرش، التي شكلت نقطة انطلاق للعديد من الأنشطة السياسية والاقتصادية في ذلك الوقت. ورغم أن المؤرخين يقتصرون في تناولهم للأردن على اعتباره جزءاً من جنوب بلاد الشام أو شمال الحجاز أو حتى شمال جزيرة العرب، فإن هذا التصنيف الجغرافي لا يعكس بدقة الهوية الوطنية المستقلة للمملكة الأردنية الضجعمية. فالحديث عن الأردن في هذا السياق يجب أن يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة ليتناول شرعية المكانة التاريخية التي احتفظ بها هذا الإقليم
مراجع
د . احمد عويدي العبادي, التنوخيين (قبيلة تنوخ الأردنية)
تنوخيون ,Wikipedia