الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ٤ – قمع، تهجير، وعقاب على دعم الأمويين

شهدت الأراضي الأردنية في فترة الخلافة العباسية تحولات كبيرة بسبب المواقف السياسية والتاريخية التي ارتبطت بتعامل العباسيين مع العشائر الأردنية. بعد انتقال العاصمة العباسية من الكوفة إلى بغداد، بدأ العباسيون في معاقبة الأردن وأهله على دعمهم للأمويين، مما أدى إلى تهميش المنطقة وتدمير مواردها. وقد قام العباسيون بفرض عقوبات قاسية على العشائر الأردنية، مما أثر سلبًا على الأردن ومواردها، وحولها إلى حالة من التدهور الاقتصادي والاجتماعي

يُعدّ المنصور، الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، من أبرز الشخصيات التي تولت الحكم بعد السفاح والهادي، وكان جميعهم من مواليد قرية الحميمة في الأردن، حيث نشأوا وترعرعوا فيها قبل أن يتوجهوا إلى العراق لاستلام السلطة. خلال فترة حكمه، كان المنصور يتبع سياسة شديدة في التعامل مع المعارضين، حيث كان يأمر بتقطيعهم بالسيف أمام ناظريه، كما حدث مع القائد العسكري أبي مسلم الخراساني الذي تعرض للقتل بهذه الطريقة الوحشية

وكان المنصور لا يتورع عن استخدام أساليب قاسية ضد من يعتقد أنهم يشكلون تهديدًا له. فقد كان قد خطط لقتل معن بن زائدة، إلا أن الله أنقذه في اللحظة الأخيرة. وفي حادثة أخرى، قام المنصور بهدم منزل ابن عمه لمجرد انتقاده له، حيث وضعه في بيت مبني على أساس من الملح، وأمر بتحويل قناة الماء عليه فانهار البيت، ليموت ابن عمه تحت أنقاضه، هذه الحوادث تكشف عن مدى القسوة التي اتبعها المنصور في سبيل تأكيد سلطته، وتحقيق الاستقرار للدولة العباسية في مرحلة تأسيسها، متجاوزًا أي معارضة داخلية قد تهدد حكمه

لا شك أن الدولة العباسية كانت واحدة من أعظم الدول في تاريخ الإسلام، حيث حافظت على الإسلام والمسلمين وحققت إنجازات عظيمة في العديد من المجالات. ولكن من جهة أخرى، لم يكن الأردن بمأمن من بعض التحديات التي تعرض لها من قبل العباسيين. كان من المفترض أن ترد الدولة العباسية الجميل لهذا البلد الذي قدم الكثير، وأن تحرص على تعمير الأرض واستمالة أهلها، خاصة أنهم كانوا يعرفون جيدًا طبيعة أهل الأردن وولائهم لقيادتهم

على مر العصور، كان الأردنيون يتسمون بالوفاء والولاء لمن يحكمهم، سواء في العصور الوثنية أو الجاهلية أو المسيحية أو الإسلامية. وقد تميزت ثقافتهم التاريخية بمبدأ “عرب الشيخ”، حيث يلتفون حول القيادة القوية ويطيعونها. هذا المبدأ كان جزءًا أساسيًا من ثقافتهم التي انتقلت عبر الأجيال منذ العصور القديمة، بدءًا من الممالك القبلية وصولًا إلى الممالك في العصور الإسلامية، واستمر هذا الولاء حتى عام ١٩١٠ م

لو أن العباسيين تصرفوا بشكل مختلف، لكان بإمكانهم الاستفادة من دعم كبير من أهل الأردن. فقد أزاح الأمويون الغساسنة عن الواجهة والإمارة في المنطقة، لكنهم لم يقضوا عليهم أو يبيدوهم، بل أبقوا لهم مكانة في المجتمع. ومع ذلك، فقد فضل الأمويون تقديم قبائل مثل بني كلب وجذام، وبلي والأنباط وعذرة وبني عامة على الغساسنة. أمام العباسيين كانت هناك فرصة للعودة إلى الغساسنة أو الضجاعمة، الذين سبق لهم أن اختبروا حلاوة الملك والسلطة في العهد الأموي. كما كان بإمكانهم الاعتماد على قبائل مثل جذام وبني كلب، الذين كانوا على دراية بكيفية إدارة الأمور في الأردن. لو أن العباسيين استثمروا هذه العلاقات بشكل استراتيجي، لكانوا قد ضَمَنوا استقرار المنطقة، وأصبح من غير المحتمل أن تظهر دعوة معارضة قد تطيح بهم كما حدث في السابق مع دعوة الأمويين التي نشأت في الأردن وأسقطتهم

عندما اكتشف الأمويون الدعوة العباسية، كان ذلك في وقت مبكر، ومن المحتمل أن تكون عيون المخابرات الأموية المنتشرة في الأراضي الأردنية قد لعبت دورًا في كشف هذه الحركة. وعلى الرغم من أن الأمويين اكتشفوا الدعوة العباسية في مراحلها الأولى، حيث كان السفاح والمنصور في سن الطفولة، لم يتخذوا قرارًا سريعًا بالقضاء عليهم بشكل كامل. فقد كان عمرهما لا يتجاوز العشر سنوات تقريبًا في عام ١١٥ هـ أو قبلها، وهو ما يُظهر أن الأمويين كانوا يدركون تهديد هذه الدعوة، لكنهم لم يقدموا على قتل الأطفال العباسيين أو ملاحقتهم بشكل قاطع

وقد تروي بعض المصادر أنه في تلك الفترة، زار شخص ما الإمام العباسي وسأل عن شرعية حكم بني أمية، فكانت إجابة المنصور والسفاح – في سن الطفولة – تأكيدًا على ضرورة إزالة حكم الأمويين، وعلى أن حكمهم لا يتماشى مع مبادئ الشريعة الإسلامية. ورغم هذه التصريحات الواضحة، لم يقدم الأمويون على القضاء على أبناء العباسيين، في خطوة قد تكون غريبة بالنظر إلى الممارسات التي اتبعها العباسيون بعد ذلك مع أعدائهم. لو كان الأمر قد حدث في عهد العباسيين، لكان مصير أي شخص يتجرأ على مثل هذه التصريحات القاسية هو القتل والإبادة، حتى وإن كان طفلًا صغيرًا

هذا التفاوت في التعامل بين الأمويين والعباسيين يظهر بوضوح في الأساليب السياسية التي انتهجها كل طرف، ويكشف عن ملامح الصراع السياسي بينهما الذي كان يتخذ أحيانًا طابعًا غير تقليدي، بعيدًا عن التصفية الجسدية الفورية التي شهدها العهد العباسي

يبدو أن الطبيعة البدوية التي تتسم بالتسامح والمرونة قد ازدهرت لدى الأمويين خلال فترة حكمهم، حتى بعد انتقالهم من الحياة البدوية إلى الحياة الملكية. فقد حافظ الأمويون على بعض خصال العشائر الأردنية التي اتسمت بالتسامح والصفح، خصوصًا خلال فترة إقامتهم في ربوع الأردن. كانت هذه البيئة الاجتماعية تسهم في تعزيز روح التعايش والمرونة، مما ساعد الأمويين على التكيف مع متطلبات الحكم رغم تحديات الملك

أما العباسيون، فقد كان لهم طابع مختلف في التعامل مع بيئتهم ومحيطهم. فقد نشأوا في بيئة غريبة عنهم، حيث تم نقلهم قسرًا من الحجاز إلى الحميمة في الأردن، وهو مكان بعيد عن ديارهم الأصلية، لم يكن مألوفًا لهم. وكان هذا التغيير المفاجئ في البيئة يؤدي إلى شعورهم بالغربة والعزلة، فكانوا ينظرون إلى أهل الأردن بمنظور مختلف. فقد اعتبروا أنفسهم في محيط غير مرحب بهم، وملؤه الأعداء، حيث كان هذا المحيط في نظرهم يمثل تهديدًا لهم، وكان يشكل عائقًا أمام تطورهم، خصوصًا في ظل العلاقة المستمرة بين الأردن
و الأمويين الذين اعتبروا أنهم في أمان وطمأنينة في هذه الأرض

بعد أن انتقل العباسيون إلى العراق، وهي أرض ليست موطنهم ولا يعرف أهلها أحوالهم، لجأوا إلى استخدام العنف لتوطيد سلطتهم وتحقيق استقرار حكمهم. ففي لحظة تاريخية حاسمة، عندما بويع الخليفة العباسي السفاح في مسجد الكوفة، جلس أمام باب المنبر الذي سبق أن صعد عليه عمه عيسى بن موسى. وكان الناس في المسجد لا يعرفون من هو الخليفة الجديد، حيث كانوا قد خاضوا معارك طاحنة ضد الأمويين بهدف أن تكون الخلافة في آل البيت، ولكنهم كانوا لا يعلمون من سيكون أمير المؤمنين بعد سقوط بني أمية

وفي لحظة حرج، بدأ عيسى بن موسى خطبته، وعندها شعر السفاح بالقلق من أن يدعو عمه لنفسه بدلاً منه، فاستل سيفه ووجهه نحو عيسى كإشارة واضحة له بأنه إذا لم يبايع السفاح فإنه سيكون مصيره الموت على المنبر. فقام عيسى بتغيير صيغة خطبته، موجهًا حديثه إلى السفاح مباشرة، داعيًا إياه للمبايعة ومطالبًا الناس بالتأكيد على البيعة له، مما أدى إلى مبايعة مفاجئة وسط أجواء مشحونة، حيث تمّت البيعة تحت حراب السيوف المشرعة في بيت الله

لم يكن هذا الأسلوب مقبولاً لدى الأردنيين، الذين يتميزون بطبعهم في حب معرفة الأمور مسبقًا وتجنب التعامل مع المجهول. فهم يفضلون الوضوح والشفافية في حياتهم، ويشعرون بالارتباك والتردد تجاه ما لا يتوافق مع توقعاتهم وأفكارهم المألوفة. ورغم أن بيئة الأردن كانت تدعم العباسيين في بعض الجوانب، إلا أن الأسلوب العباسي الباطني القائم على المفاجآت والتقلبات المستمرة، والذي يعزز فكرة أن الخليفة هو سلطان الله في الأرض لا يجوز انتقاده أو مناقشة قراراته إلا إذا سمح هو بذلك، لم يكن متناسبًا مع هذه البيئة. الخليفة العباسي، كما كان الحال مع المنصور والسفاح، كان يفرض سلطته المطلقة دون الاستماع إلى نصائح الآخرين. وعلى النقيض، كان الخليفة هارون الرشيد الأكثر انفتاحًا على الاستماع للفقهاء والعلماء، مما جعله أكثر توافقًا مع بعض القيم التي كان الأردنيون يقدرونها

لعبت الأراضي الأردنية دورًا مهمًا في تأسيس كل من الدولة الأموية والعباسية، حيث كان لها تأثير كبير في مسار الأحداث التاريخية التي شكلت هاتين الخلافتين. في العهد الأموي، قدمت الأردن الدعم الكبير للدولة الأموية، سواء بالقوة العسكرية أو بالرجال المخلصين الذين ساعدوا في تأسيسها وحمايتها من التحديات، مما مكنها من الحفاظ على السلطة لمدة تقارب القرن. أما في عهد الخلافة العباسية، فقد لعبت الأردن دورًا آخر حيث هيأت البيئة المناسبة التي ساعدت في انتشار الدعوة العباسية، فكانت أرضًا خصبة للتفكير وتوزيع الدعاة، فضلًا عن كونها نقطة انطلاق لرفع الظلم الذي كان يعيشه الناس تحت الحكم الأموي، سواء كان هذا الظلم حقيقيًا أو متوهمًا

ويرى المؤرخ الأردني د . احمد عويدي العبادي، أن الدولة الأموية كانت أفضل دولة عربية في تاريخ العرب، حيث كرست الهوية العربية النقية، واحتوت الأهواء داخل بوتقة واحدة ذات طابع عربي خالص. بينما، على النقيض، كان العباسيون أكثر تنوعًا في احتوائهم لمختلف الثقافات والأفكار، حيث لم يقتصر إطارهم على الهوية العربية القومية، بل شمل مزيجًا من الاتجاهات المختلفة. وهذا التنوع في العباسيين جعلهم قادرين على إخفاء دور الأردن وأهله في الخريطة السياسية والإدارية، ليصبح جزءًا من الشام من الناحية الواقعية والتاريخية، وأصبحت السيطرة على دمشق تعني السيطرة على الأردن أيضًا، مما جعله جزءًا من مكتسبات الدولة العباسية الجديدة


مراجع

د . احمد عويدي العبادي, الاردن في عهد الخلافة العباسية
دائرة الآثار العامة الأردنية, الحميمة
الحميمة ,Museum with no frontier
Al-Baladhuri. Al-Duri, A. ed. Ansab al-Ashraf (vol. III). Wiesbaden, 1978
Al-Bakri. Mu’jam Ma-sta’jam (vol. I). Cairo, 1945 – 1951
Foote, R. M. “Frescos and Carved Ivory from the Abbasid Family Homestead at Humaima.” Journal of Roman Archaeology, no. 12, 1999, pp. 423 – 428
East (vol. III). Oxford, 1997, pp. 121 – 122
Oleson, J. P. et al. “Preliminary Report of al-Humaima Excavation Project, 1995, 1996, 1998.” Annual of the Department of Antiquities of Jordan, no. 43, 1999, pp. 411 – 447

Previous:
الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ٣ – العقاب التاريخي والتغيرات الاجتماعية
Next:
الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ٥ – التهميش والصراع من أجل البقاء