العماليق الأردنيين، جزء: ٣ – العناقيون (العماليق)

العناقيون أو العماليق هم قوم قديم يُنسبون إلى الشعوب السامية، ويشتهرون بضخامة أجسامهم وطول قاماتهم. ورد ذكرهم في العديد من المصادر التاريخية، مثل التوراة والقرآن الكريم، حيث وصِفوا بالجبارين وأبناء الجبابرة. استوطنوا مناطق واسعة من الأردن، وتركوا بصمة واضحة في التاريخ القديم من خلال الممالك التي أسسواها والشعوب التي انبثقت عنهم


عرف “العناقيون” أو “العماليق” بأنهم من الشعوب الثمودية القوية والضخمة، حيث ورد ذكرهم في المصادر التاريخية والتقليدية، وأُطلق عليهم عدة تسميات. ففي التوراة، يُشار إليهم باسم “الجبّارين” نظرًا لقوتهم وضخامة أجسادهم، بينما سُمّوا في المصادر العربية باسم “العماليق” إشارةً إلى أحجامهم الهائلة. وقد ذُكروا في القرآن الكريم أيضًا، حيث وصفهم الله تعالى في سورة الحاقة بعبارة تجسد ضخامتهم وقوتهم

 بقوله: (الْحَاقّةُ (1) مَا الْحَاقّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطّاغِيَةِ (5) وَأَمّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مّن بَاقِيَةٍ (8)) سورة الحاقةُ

مشبّهًا قاماتهم الطويلة بأعجاز النخل الجافة، مما يعكس بوضوح هيبتهم وضخامة أجسادهم التي ميزتهم عن غيرهم من الشعوب

ينحدر الثموديون من العرب القدماء، الذين يُعتقد أنهم نشأوا في منطقة الأحقاف في جنوب الجزيرة العربية ضمن قوم عاد، وواصلوا الانتشار شمالاً حتى وصلوا إلى شمال أفريقيا وشمال الجزيرة العربية، بما في ذلك الأراضي الأردنية. واستقر الثموديون القادمون من مناطقهم الجبلية والبادية في أرض الأردن، التي وجدوا فيها بيئة مشابهة لبلادهم الأصلية من حيث التضاريس والمناخ، خاصة في المناطق التي سكنها الأدوميون والمؤابيون لاحقاً

كانت تلك المنطقة خصبة وفيرة المياه وغنية بالإنتاج الزراعي، مما ساعد على استقرار الثموديين وتأسيسهم لممالك عديدة عرفت لاحقاً بممالك الروفائيين والزمزميين والحوريين والأيميين. ومع مرور الوقت، نشأت قبائل عمونية محل الزمزميين، وأصبح الأدوميون في مناطق الحوريين، في حين حل الروفائيون والمؤابيون مكان الأيميين

كانت كلمة “عناق” في الأصل كلمة عربية ثمودية انتقلت إلى اللغات السامية الأخرى عبر العرب، وتحمل معنى “العُنُق” أو “قلادة العنق”. وقد كان العناق اسمًا لقبيلة أو شعب سكن المنطقة الجبلية الأردنية في العصور القديمة، وتحديداً المناطق الواقعة شرقي وغربي وادي عربة. مع مرور الزمن، أصبحت هذه الأراضي جزءًا من الممالك الأردنية التاريخية، حيث توزعت القبائل والممالك على امتداد البلاد. ففي الجنوب الغربي قامت مملكة أدوم، إلى جانب مملكة مؤاب التي تشكلت في غرب الأردن، بينما استقرت ممالك قوم لوط في وسط الأردن، وكانت منطقة باشان في الشمال موطنًا للباشانيين. أما مملكة بيريا، فقد امتدت حول مدينة السلط وضمت الأغوار وأطراف البحر الميت، مشكلةً وحدة حضارية ضمن التاريخ الأردني القديم

يعتقد بعض المؤرخين العرب، خطأً، أن الأموريين هم من نسل شخصية عربية تُدعى عمليق. في الواقع، هذا الافتراض غير دقيق، إذ يُطلق مصطلح “العماليق” على كافة الشعوب الأردنية في الممالك القديمة، مثل الإيميين، والزمزميين، والحوريين، وجميعهم ينتمون إلى القبائل الرفائية الثمودية. وقد عُرف العناقيون تحديدًا بأنهم “شعب عظيم وضخم”، وكان طول قامتهم وقوة بأسهم مضرب المثل، فقد جرى القول عنهم: من يستطيع الوقوف في وجه بني عناق؟

ورد في النصوص التوراتية أن “العناقيين” هم أبناء “عناق”، وقد اشتهروا بصفاتهم الجبارة، إذ وُصِفوا بأنهم عمالقة يتميزون بطول القامة وقوة الشكيمة في المعارك. وفقًا للروايات، استقر العناقيون في جنوب الأردن وجنوب بلاد كنعان في المنطقة الممتدة بين القدس والخليل. كان لهذه السمات الجسدية والبأس الحربي الأثر الكبير في إثارة الرهبة في نفوس العبرانيين، الذين شعروا بالخوف من مواجهتهم قبل الشروع في أي قتال معهم “غَيْرَ أَنَّ الشَعْبَ السَاكِنَ فِي الأَرْضِ مُعْتَزٌ، وَالْمُدُنُ حَصِينَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا. وَأَيْضًا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي عَنَاقَ هُنَاكَ” (عد 13: 28)

في الروايات التوراتية، يُشار إلى العماليق كأحد أقدم الشعوب التي سكنت المنطقة الجغرافية التاريخية الواسعة التي تُعرف ببلاد ثمود، والتي تضم ما يعرف اليوم بجنوب سوريا والأردن. تشير هذه الروايات إلى انتشارهم في الأراضي الكنعانية، بما فيها الأردن و فلسطين، عند وصول العبرانيين من مصر، ما يدحض مزاعم التوراة التي تشير إلى أن المؤابيين كانوا من ذرية لوط، إذ تشير الأدلة التاريخية إلى أن وجودهم سبق زمن لوط بآلاف السنين

ويذهب بعض المؤرخين المعاصرين إلى أن سكان شبه الجزيرة العربية قبل ١٦٠٠ سنة قبل الهجرة النبوية كانوا يتمتعون بأجسام ضخمة، وبقيت آثار أحفادهم حتى بعد ذلك، لكن هذه الأجيال اللاحقة لم تحتفظ بذات الطول الفارع أو العمر المديد الذي كان يتمتع به أسلافهم. وتشير الدراسات إلى أن متوسط طول الأشخاص كان يتناقص تدريجياً عبر الأجيال، مع انحسار السمات التي ميّزت أسلافهم الأوائل

تذكر بعض المصادر التاريخية العربية أن “العماليق” ينحدرون من نسل “عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح”، ويظهرون في كتب التاريخ بأسلوب أسطوري يفتقر إلى الموثوقية العلمية. يشير د. أحمد عويدي العبادي إلى أن هذا النسب أسطوري وغير دقيق، ويعتبره أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقائق التاريخية. ويفسر العبادي هذا الاسم على أنه مشتق من الصفة، حيث أطلق على هذه الجماعات اسم “العماليق” إشارةً إلى طول قاماتهم وضخامة تقاطيعهم الجسدية، وليس نسبة إلى شخص تاريخي بعينه

وقد وصفهم القران الكريم بقوله ” قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَارِينَ وَإِنَا لَن نَدْخُلَهَا حَتَىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَهِ فَتَوَكَلُوا إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ” (23) سورة المائدة

و قال جواسيس موسى عليه السلام بعد زيارتهم مدينة قادس برنيع: (الأرض التي مررنا فيها للتجسس عليها هي أرض تأكل سكانها، وجميع الشعب الذي رأينا فيها طوال القامة. وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق فكنا في أعيننا كالجراد، وهكذا كنا في أعينهم و”النفاليم” هي الكلمة العبرية المترجمة لكلمة “الجبابرة)

يرى الدكتور أحمد عويدي العبادي أن جالوت، أو “جليات الجبار”، الذي قتله النبي داود، كان أردنياً عمونياً وأحد بقايا الجبابرة الذين يُعرفون باسم “الروفائيين” في زمن داود. ويرتبط هؤلاء الجبابرة بالعناقيين، تلك القبائل العريقة التي ورد ذكرها في بعض الكتابات المقدسة

ومن الجدير بالذكر أن بعض الكتابات المصرية القديمة، التي تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد وتُحفظ الآن في متحف برلين، أشارت إلى منطقة من الأردن تعرف باسم “العنيق” وتظهر على هذه النصوص كموطن للعديد من الجبابرة أو العناقيين. تحتوي هذه الكتابات على تعاويذ مصرية ضد مدن تعتبرها معادية، وتظهر فيها أسماء مدن أردنية على ضفتي نهر الأردن. وقد وُجدت التعويذات مكتوبة على شظايا فخارية، حيث كُسرت بعد الكتابة، وذلك لإلحاق الضرر الرمزي بأعدائهم، ضمن طقوس رمزية تهدف إلى “كسر” خصومهم وتدمير قوتهم

تظهر إحدى الألواح المسمارية التي تم اكتشافها في مدينة أشور في بلاد ما بين النهرين ذكرًا لاسم “عناقو”، والذي يعتقد أنه كان يشير إلى موقع جغرافي في المنطقة الغربية، أي في بلاد الأردن. كما ورد في النصوص القديمة أن كلمة “عناق” كانت تستخدم كلقب شرفي للحكام الذين تولوا قيادة مناطق مثل أدوم، ومؤاب، وأرض كنعان، مما يعكس المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها هؤلاء الحكام في تلك الحقبة

يظهر ذكر شعب العمليق في النصوص العبرية باعتباره أحد الشعوب المعادية لبني إسرائيل في سياق خرو جهم من مصر. ففي التوراة، يُعتبر العمليق من أعداء بني إسرائيل، وقد ورد في سفر صموئيل الأول أمر إلهي لبني إسرائيل بالانتقام منهم. جاء في النص التوراتي: “فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً” سفر صموئيل الأول

في فترة حكم الملك البابلي نيبوبلاسر (نيوبائيد) الذي تولى العرش في بابل من عام ٥٥٥ إلى ٥٣٩ قبل الميلاد، قام بتوجيه حملة عسكرية إلى منطقة الأردن. وكانت هذه الحملة تهدف إلى قمع بعض القبائل في المنطقة، حيث تم إحراق وتدمير عاصمة مملكة أدوم، مدينة بصيرة. ورغم تدمير العاصمة، استمرت الحياة في مملكة أدوم حتى القرن الخامس قبل الميلاد. بعد ذلك، شهدت المنطقة فترة حكم فارسي قصيرة، حيث عمت الفوضى والفساد في مختلف أنحاء الأردن. في هذه الأثناء، بدأت قوة عربية جديدة في الظهور على مسرح التاريخ، وهم الأنباط، الذين سيطروا لاحقًا على جزء كبير من أراضي الأردن وتركوا بصمة كبيرة في تاريخ المنطقة


مراجع

د . احمد عويدي العبادي, العناقيون (العماليق)

Previous:
العماليق الأردنيين، جزء: ٥ – معنى كلمة الهكسوس
Next:
العماليق الأردنيين، جزء: ٢ – القوم الجبارون (العماليق او العمالقة)