العماليق الأردنيين، جزء: ١٠ – الشاسو/ الهكسوس الأردنيون ونقاط الخلاف حول تحديد هويتهم

وسط الجدل التاريخي حول شعوب المنطقة القديمة، يظهر اسم الشاسو والعمالقة كمحور للكثير من التفسيرات والادعاءات. يناقش هذا الموضوع العلاقة المحتملة بين هذه الشعوب وبني إسرائيل، مسلطًا الضوء على محاولات تحريف التاريخ لتحقيق أهداف سياسية معاصرة، واستغلال النصوص الأثرية والتاريخية لترويج مزاعم تفتقر إلى الأسس العلمية والدينية


ظل “الشاسو”، الذين يعتبرون ثموديين أردنيين وأشقاء للمؤابيين، موضوعًا مثيرًا للجدل بين العلماء والمؤرخين. وقد بلغت الخلافات حول أصولهم حدًّا دفع بعض علماء اليهود إلى الادعاء بأن الشاسو كانوا جزءًا من شعب إسرائيل. غير أن هذا الادعاء لا يستند إلى أي أساس علمي أو منطقي، ولا يتفق مع الحقائق التاريخية المتعلقة بالجغرافيا أو تسلسل الأحداث عبر الزمن

تشير الأدلة التاريخية والأثرية إلى أن الشاسو كانوا قبائل بدوية استوطنت مناطق شرق الأردن وشكلت جزءًا من النسيج الثقافي والاجتماعي لشعوب المنطقة في العصور القديمة. ومع ذلك، يبدو أن محاولات إدراجهم ضمن سياقات دينية أو قومية محددة ليست سوى محاولات متعمدة لتشويه التاريخ أو فرض روايات لا تتفق مع الواقع

إن إعادة النظر في تاريخ الشاسو والابتعاد عن التفسيرات التي تنحرف عن السياق التاريخي الصحيح ضروري لفهم أعمق لدورهم الحقيقي في تاريخ المنطقة الأردنية وعلاقتهم بالشعوب المجاورة، بما في ذلك المؤابيين وثمود

في سياق الدراسات التاريخية المتعلقة ببلاد كنعان، تبرز فرضية إسرائيلية تعتبر العمالقة من سكان تلك الأرض الأصليين، غير أن هذه الفرضية تفتقر إلى الدقة التاريخية. فالعمالقة لم يكونوا من الكنعانيين أصلاً، ولا تربطهم علاقة مباشرة بهم. بل تشير الأدلة التاريخية إلى أن العمالقة ينتمون إلى مناطق الأردن، حيث كانت لهم مملكة ممتدة نشأت في الأراضي الأردنية التي تعرف بالثمودية

امتدت سيطرة العمالقة من الأردن إلى أجزاء من بلاد كنعان، حيث فرضوا نفوذهم وألحقوا هذه المناطق بمملكتهم. وقد أدى هذا الامتداد الجغرافي إلى خلط تاريخي بين العمالقة والكنعانيين، حيث ظن البعض أنهم جزء من سكان كنعان الأصليين. إلا أن المعطيات التاريخية ترجح أن العمالقة كانوا قوة خارجية قادمة من الأردن، وساهمت في تشكيل جزء من تاريخ المنطقة دون أن تكون جزءًا من الهوية الكنعانية

الهكسوس وبني إسرائيل: بين الادعاءات التاريخية والتزوير

يدّعي الإسرائيليون أن الهكسوس كانوا من بني إسرائيل، وأنهم كانوا شعبًا قويًا وشجاعًا تغلب على العمالقة الذين سكنوا الأردن وفلسطين قبل قدوم العبرانيين. هذا الادعاء ليس إلا جزءًا من استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى استخدام التاريخ كوسيلة لإثبات حقهم في فلسطين والأردن، وربط وجودهم الحالي بحقب تاريخية قديمة لإضفاء شرعية على مطالبهم السياسية والجغرافية

ومع ذلك، فإن هذا الزعم يفتقر إلى الأساس التاريخي والعلمي، وقد فنده القرآن الكريم بوضوح، حيث لا يحتمل النص القرآني أي تأويل يدعم مثل هذه المزاعم. فالقرآن الكريم أشار إلى رفض بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة بسبب ضعفهم أمام العمالقة، ما ينفي تمامًا فكرة تفوقهم أو تغلبهم على تلك الشعوب في أي فترة زمنية

هذا الادعاء يعكس محاولة لإعادة صياغة التاريخ بما يخدم أجندات سياسية معاصرة، لكنه يواجه تفسيرات دينية وتاريخية تدحضه، وتؤكد زيفه

قال تعالى : (  قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَارِينَ وَإِنَا لَن نَدْخُلَهَا حَتَىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَهِ فَتَوَكَلُوا إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ (٢٣)   قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) سورة المائدة

يواصل الصهاينة جهدهم الدؤوب في محاولة تزوير وتهويد تاريخ فلسطين والأردن، مستغلين كافة الوسائل المتاحة لتعزيز رواياتهم التاريخية. ولتحقيق هذا الهدف، يجندون موارد ضخمة تشمل الدعم المالي والآثار المزعومة والأبحاث التاريخية، إلى جانب الآلة الإعلامية التي تروج لروايات مختلقة لا أساس لها من الصحة. وتتعاون معهم في هذا المسعى بعض المراكز العلمية في أوروبا وأمريكا، فضلاً عن دعم من بعض الجهات السيادية والسياسية والأمنية، بل وحتى من عملاء في العالم العربي، مما يضيف تعقيدًا كبيرًا للوضع. ويتم توظيف الدين والتاريخ والآثار المزعومة في خدمة هذه الأهداف السياسية، لتقديم مزاعم تاريخية تهدف إلى شرعنة احتلال الأرض وتغيير هوية المنطقة

لوحة مرنبتاح: بين الحقائق التاريخية وزيف الادعاءات حول إسرائيل القديمة

تعد لوحة “فرعون الخروج” المنسوبة إلى الملك مرنبتاح، ابن الملك رمسيس الثاني (المعروف بفرعون التسخير)، إحدى القطع الأثرية المهمة في المتحف المصري، وقد اكتسبت هذه اللوحة اهتمامًا خاصًا لدى علماء التاريخ اليهودي. ويعود ذلك إلى أن هذه اللوحة تحوي أول إشارة معروفة لاسم “إسرائيل” في النصوص المصرية القديمة

ورغم ذكر “إسرائيل” في نص مرنبتاح، إلا أن الإشارة كانت إلى مجموعة قبلية غير محددة، وليس إلى شعب أو أمة بالمعنى المعروف لدينا اليوم. فقد كانت كلمة “إسرائيل” في اللغة الهيروغليفية تشير إلى “قبائل بلا أرض” أو “شعب بلا بلاد”، مما يختلف عن المفهوم المتداول لاسم “إسرائيل” سواء في النصوص القرآنية أو الروايات التاريخية الأخرى

إن الإبقاء على تسمية “لوحة إسرائيل”، التي يعتز بها اليهود، يعتبر مخالفًا للتاريخ ومنطقه وسياق أحداثه؛ فقد استُخدمت هذه اللوحة من قبل بعض العلماء الغربيين، مثل رينيه وديرفر، كأداة لتحريف تاريخ بلاد كنعان، حيث اعتبروا شعب الشاسو إما من بني إسرائيل أو مرتبطًا بهم، رغم أن الدراسات تشير إلى أن شعب الشاسو لا ينتمي لبني إسرائيل

لوحة مرنبتاح 
تشتهر لوحة مرنبتاح بأول ذكر لكلمة إسرائيل
ولكن لا يوجد دليل على وجود صلة بين "إسرائيل" والشاسو

تخلو السجلات التاريخية والآثار المصرية بشكل عام من أي ذكر لليهود باستثناء ما ورد في “لوحة مرنبتاح”، والمعروفة أيضًا باسم “لوحة
الانتصار”، والمحفوظة حاليًا في المتحف المصري بالقاهرة. عُثر على هذه اللوحة في مدينة طيبة، التي تُعرف الآن بالأقصر وكانت عاصمة مصر في فترة حكم مرنبتاح، والتي يُعتقد أنها تقارب عهد فرعون التسخير والخروج. تسجل اللوحة تفاصيل معارك فرعون مصر مرنبتاح مع خصومه، ومن ضمنهم شعب إسرائيل، الذين وصفتهم النقوش بأنهم جماعات قبلية، ولم يكن لهم كيان دولة موحد. وتشير النقوش بوضوح إلى أن الفرعون مرنبتاح انتصر على هذه القبائل، حيث أعلن أنه قضى على شعب إسرائيل وأباد نسلهم تمامًا، مما يعكس نظرته لهم كتهديد جرى القضاء عليه في تلك الفترة

في تصريح للدكتور زاهي حواس، وزير الآثار المصرية الأسبق وأحد أبرز المتخصصين في علم المصريات، أشار إلى أهمية لوحة مرنبتاح، المعروفة أيضًا بـ”لوحة انتصار مرنبتاح”، والتي تُعرض حاليًا في المتحف المصري بالقاهرة. وتعتبر هذه اللوحة من أقدم الوثائق التي تحمل ذكرًا لشعب بني إسرائيل في التاريخ المصري القديم

وفي حديثه الذي جرى في مقابلة تلفزيونية على فضائية “صدى البلد” المصرية يوم الخميس ٣ أكتوبر ٢٠١٩، أوضح الدكتور حواس أن النص الموجود على اللوحة يشير إلى أن “شعب بني إسرائيل انتهت بذرته تمامًا”. هذه العبارة، التي تعود إلى حوالي عام ١٢٠٨ قبل الميلاد، توثق انتصارات الملك مرنبتاح، ابن الفرعون رمسيس الثاني، في حملاته العسكرية التي امتدت إلى أرض كنعان، وتوضح كيف كانت الدولة المصرية تصور انتصاراتها وأعداءها

تعد لوحة مرنبتاح الأثر المصري الوحيد الذي ورد فيه ذكر لشعب إسرائيل لأول وآخر مرة في المصادر المصرية القديمة. ويعتقد العديد من الباحثين أن اللوحة قد كُتبت في العام الخامس أو الثامن من حكم الفرعون مرنبتاح، وقد تم تأريخها في اليوم الثالث من الشهر الثالث من فصل الصيف “شيمو”. وبناءً على الحسابات الفلكية والتاريخية، يعادل هذا التاريخ ٨ أبريل من عام ١٢٠٨ قبل الميلاد

يُعتبر الشاسو، أو الهكسوس، أو العمالقة من الشعوب الثمودية العربية الأصيلة التي استوطنت الأردن. امتدت مملكة هؤلاء الشعوب لتشمل أجزاء كبيرة من شمال الأردن الحالي، بالإضافة إلى مناطق واسعة في جنوب سوريا، وشمال فلسطين، وجنوب لبنان، وكذلك حول بحيرة طبريا وبيسان وحوض مصادر وروافد نهر الأردن. هذه الأراضي كانت تعد جزءًا من الأراضي الأردنية عبر العصور المختلفة، بدءًا من العصور القديمة وصولًا إلى العصور الوسطى

طوال تاريخها، كانت هذه الأراضي تمثل نقطة استراتيجية وموقعًا مهمًا على الصعيدين الثقافي والجغرافي. ومن خلال مرور العصور، خضعت هذه المنطقة لتغيرات إدارية وسياسية، حيث عانت من احتلالات وانتقالات بين سلطات مختلفة. وفي عام ١٩٢٤، تنازلت الإدارة الانتدابية عن هذه المناطق، مما أدى إلى فصلها عن الأردن لتأخذ مسارات سياسية جديدة. لكن على الرغم من تلك التغيرات، تظل هذه الأراضي جزءًا من التاريخ العريق للأردن، الذي كان مركزًا للحضارات القديمة وشعوبها المتنوعة

كشف الباحث الفلسطيني الدكتور محمد العلامي خلال مشاركته في مؤتمر الأثريين العرب عن اكتشاف مثير يتعلق بتاريخ الشعوب العربية القديمة. فقد أشار إلى أن الرسومات التي تظهر على جدران معابد الكرنك في مصر والتي تُظهر ملابس الشاسو، تشير إلى أنهم كانوا من الشعوب الكنعانية الأصيلة، وتحديدًا من قبائل ثمود التي قدمت من الجزيرة العربية. ووفقًا لما ذكره العلامي، فإن هؤلاء الشعوب استقروا في فلسطين وبلاد الشام منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، حيث قاموا باستثمار وتعمير تلك المناطق حتى القرن العاشر قبل الميلاد

يقول الباحث الدكتور أحمد عويدي العبادي إن لوحة مرنبتاح، المعروفة أيضًا بلوحة “انتصار مرنبتاح”، تعد من أبرز الوثائق التاريخية التي توثق الأحداث المتعلقة بفراعنة مصر القديمة. تمثل اللوحة انتصار الملك مرنبتاح، الذي يعد من أشهر فراعنة مصر، وتظهر فيها تفاصيل تتعلق بحملاته العسكرية. ومن بين الأحداث البارزة التي ارتبطت به، غرق فرعون أثناء ملاحقته لبني إسرائيل في البحر، حيث كان يقود جيشه لمطاردة سيدنا موسى عليه السلام وقومه أثناء هروبهم

وفي هذا السياق، يذكر القرآن الكريم في سورة يونس الآية ٩٠: “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ”. هذه الآية تصف اللحظة الحاسمة عندما أدرك فرعون هلاكه وغيّر موقفه، لكن لم يكن بوسعه التوبة في تلك اللحظة

اللوحة التي نتحدث عنها هي في الأصل تذكارية للملك المصري مرنبتاح، الذي كان ولي عهد والده رعمسيس الثاني. تولى مرنبتاح العرش بعد وفاة والده، وخلفه في حكم مصر بين عامي ١٢١٣ و ١٢٠٣ قبل الميلاد، ليواجه التحديات التي خلفها حكم والده، ومنها قضية سيدنا موسى وبني إسرائيل. تعتبر هذه اللوحة، التي صنعت من حجر الجرانيت، وثيقة هامة تسجل انتصار الملك أمنحوتب الثالث، الذي حكم مصر في الفترة بين ١٣٩١ ق.م. و ١٣٥٣ ق.م (أو ١٣٨٨ ق.م. – ١٣٥١ ق.م.) على الليبيين وحلفائهم

تتألف اللوحة من عدة أسطر، فيما تركز الأسطر الثلاثة الأخيرة على حملة عسكرية أخرى في منطقة كنعان، التي كانت جزءًا من المملكة المصرية في ذلك الوقت. اكتشف المؤرخ البريطاني “فلندرز بيتري” هذه اللوحة التاريخية في عام ١٨٩٦ في مدينة طيبة (التي تُعرف اليوم بالأقصر) بمصر. تعد هذه اللوحة من أهم الاكتشافات الأثرية التي تساهم في فهم تاريخ مصر القديمة وعلاقاتها مع جيرانها

الشاسو: الأردن وأرض كنعان

يشير الدكتور أحمد عويدي العبادي إلى ملاحظة هامة فيما يتعلق بتسمية فلسطين في العصور القديمة، حيث يوضح أن فلسطين لم تكن تُسمى بهذا الاسم في تلك الفترة، إذ كانت تعرف في العصور القديمة باسم “بلاد كنعان”. وقد كانت حدود هذه المنطقة تمتد إلى جنوب ديار الخليل، التي كانت تُعرف آنذاك باسم “ادوما”، وكانت جزءًا من المملكة الأردنية الأدومية

كما يلفت العبادي إلى أن منطقة النقب وغزة وسيناء وسواحلهما كانت جزءًا من أراضي المملكة الأردنية الأدومية. وبذلك، يوضح أن النقب وغزة، وكذلك المناطق الشمالية من هذه المناطق حتى جنوب الخليل، كانت تمثل أرضًا أدومية أردنية خالصة في تلك الحقبة التاريخية

كانت أرض كنعان، التي تعرف اليوم بفلسطين، تمتد من المنطقة الواقعة شمال النقب في الجنوب إلى مدينة صفد في الشمال، وصولاً إلى طرف جبال فلسطين المطلة على غور الأردن من الشرق. وقد شملت هذه الحدود كافة مناطق غور الأردن بما في ذلك غور أريحا وغور طبريا وبيسان، التي كانت تعتبر أراضٍ أردنية. بذلك، كانت الأردن تطوق أرض كنعان من الشمال والجنوب والشرق، وكان هذا الوضع قائمًا حتى فترات متفرقة في العصور المختلفة

ومع ذلك، في عام ١٩٢٢، تم إجراء تغييرات على الحدود بين الأردن وفلسطين بموجب اتفاق مع الإدارة الانتدابية البريطانية، حيث تم فصل مناطق بيسان وطبريا وأريحا والشاطئ الغربي للبحر الميت عن الأراضي الأردنية تحت مسمى “ترسيم الحدود بين الأردن وفلسطين”. هذا التعديل أحدث تحولًا في تحديد حدود كل من البلدين، لتبقى الأردن تحت سيادتها مناطق شاسعة، بينما انتقلت بعض المناطق الفلسطينية تحت الاحتلال البريطاني آنذاك

يذكر الباحث الفلسطيني محمد العلامي في دراساته التاريخية أن المصريين قد اصطدموا بالقبائل الرحل في فترة حكم الفرعون أمنحوتب الثاني خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وقد أطلق المصريون على هذه القبائل اسم “شاسو”، وهو مصطلح كان يُستخدم للإشارة إلى رعاة الماشية الرحل أو البدو. ووفقًا للعلامي، فإن هذه القبائل كانت تنتمي إلى منطقة شرق الأردن، ومن ثم انتشرت لتستقر في جنوب ووسط كنعان، أي في الأراضي التي تعرف اليوم بفلسطين

في معابد الكرنك، توجد مشاهد تصور معارك سيتي الأول مع الشاسو، التي دارت بين موقع يُسمى “سيلا”. ويعتقد أن “سيلا” هي نفسها “السلع”، وهي منطقة تقع في جنوب بصيرا والطفيلة في جنوب الأردن الحالي. كانت السلع قريبة من “عابل” أو “أبل الزيت”، حيث التقى ملوك الأردن وقدموا دعمهم للهكسوس في حملتهم نحو مصر. تشير هذه المشاهد إلى أن المعارك بين الشاسو و الفرعون المصري تمت في مناطق تمتد من “سيلا” (السلع) جنوبًا إلى غزة، حيث استوطن الشاسو بالقرب من سيناء

هذا يشير إلى أن الهكسوس كانوا من أصل أردني، وأنهم خاضوا معارك مع الفراعنة في تلك المنطقة. ويتضح من المشاهد أن سيتي الأول قد انتصر على الشاسو، بدءًا من “سيلا” (السلع) وحتى منطقة كنعان، حيث دارت الحرب أيضًا مع الشاسو في وسط فلسطين. ومن المهم الإشارة إلى أن اسم “فلسطين” لم يكن قد أُطلق على تلك الأراضي في تلك الحقبة الزمنية، بل كانت تُعرف باسم “كنعان”، وهو الاسم الذي استمر حتى فترة لاحقة

تدعم الأحداث التاريخية نظرية الدكتور أحمد عويدي العبادي التي تفترض أن الشاسو، أو الهكسوس، جاءوا من الأراضي الأردنية. وفقًا لهذه النظرية، قام الملوك الأردنيون بتكليف أحد ملوك العمالقة، الذي يُعتقد أنه كان من الهكسوس، للقيام بمهمة محددة. وقد تجمع هؤلاء في مناطق مثل العين البيضاء وعابل الزيت والسلع، التي تقع جنوب الطفيلة في الأردن، ليؤسسوا هناك وجودهم ويبدأوا في تنفيذ مهمتهم

في السنتين السادسة والسابعة من فترة حكم رمسيس الثاني، وصل الجيش المصري إلى الأراضي الأردنية، حيث كانت تقع ممالك مؤاب وآدوم وسعير. وقد تمكنت القوات المصرية من السيطرة على معظم الأراضي الأردنية، وبخاصة المناطق التي كان يسكنها الشاسو، وهم الرحل الذين عرفوا بقدرتهم على التحرك السريع والقتال. هذه الغزوات المصرية تعتبر دليلاً آخر على أن الشاسو كانوا من سكان الأردن الأصليين، وأنهم تحركوا إلى مصر لملاقاة هذه الغزوات ومحاربتها، وهو ما نجحوا فيه في النهاية

وفي هذا السياق، يطرح الباحث الدكتور أحمد عويدي العبادي ملاحظات على ما ذكره الباحث الفلسطيني في هذا الشأن، مؤكداً على أهمية تحليل هذه الأحداث من خلال مصادر تاريخية متعددة لفهم السياقات التي نشأت فيها هذه الغزوات والتحركات العسكرية، ومرجعيات العلاقات بين مصر والأراضي الأردنية في تلك الفترة

معركة قادس الأدومية: تصحيح تاريخي وتحالف مصري أدومي في ظل حكم رمسيس الثاني

معركة قادس التي وقعت في التاريخ لم تكن في شمال سوريا كما يعتقد البعض، بل كانت في قادس الأدومية، الواقعة في شمال شرق صحراء سيناء، والتي كانت جزءًا من أراضي مملكة أدوم. وقد أسفرت هذه المعركة عن نوع من التحالف بين الأدوميين والفراعنة، وهو تحالف دام لفترة طويلة، خاصة في عهد الملك الأدومي حدد بن بدد الذي حكم أكثر من نصف قرن. هذا التحالف تزامن مع فترة حكم الفرعون رمسيس الثاني وابنه مرنبتاح، حيث شهدت العلاقات بين المملكة الأدومية والفراعنة تعاونًا سياسيًا وعسكريًا مهمًا في تلك الحقبة

تُعد قرية الجبارين، التي تقع في منطقة قادس الأردنية، واحدة من المواقع التاريخية المهمة التي أُشير إليها في القرآن الكريم. فقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة في قوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا وَقُولُوا حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨)، حيث جاء هذا الوصف في سياق الأحداث التي تتعلق ببني إسرائيل. في الآية التالية، تذكر السورة رد فعل الذين ظلموا من بني إسرائيل حيث بدلوا القول الذي قيل لهم، فكان جزاؤهم أن أنزل الله عليهم عقابًا من السماء بسبب فسقهم: (فَبَدَّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩)

كما ورد ذكر قادس في القرآن في سياق حديث موسى عليه السلام مع قومه، حيث وصفوا أهل هذه القرية بأنهم “جبارين”، فقالوا له: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبّارِينَ وَإِنّا لَن نّدْخُلَهَا حَتّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ) (٢٢) سورة البقرة. ويظهر من هذه الآيات أن قادس كانت قرية تقع في المنطقة التي تعرف اليوم بشمال شرق سيناء، ومرت بفترة من الصراع بين بني إسرائيل وأهلها الذين وصفوا بالقوة والتسلط

هذه القرية، التي حملت في التاريخ الإسلامي ذكرى بارزة، تظل جزءًا من الجغرافيا التاريخية التي ارتبطت بالعديد من الأحداث الهامة في فترة ما بعد الخروج من مصر، حيث كان لها تأثير كبير على تطور الأحداث في تلك الحقبة

الادعاء بأن قادس تقع في شمال سوريا يحتاج إلى تحقيق وتصحيح دقيق، وذلك بالنظر إلى السياق التاريخي المتعلق بفترة حكم رمسيس الثاني، الذي كان فرعونًا معروفًا بلقب “فرعون التسخير”. فقد كان رمسيس الثاني حليفًا قويًا لملك أدوم المعروف باسم “حدد بن بدد”. وبالرغم من بعض الروايات التي تشير إلى أن فرعون مصر قد سيطر على الأجزاء الغربية من المملكة الأدومية أو احتلها، تحديدًا منطقة قادس، فإن هذه الادعاءات تفتقر إلى الدقة وتحتاج إلى مراجعة تاريخية معمقة. في الواقع، لا يوجد دليل موثوق يثبت أن رمسيس الثاني قد دخل إلى منطقة قادس أو مارس عليها أي نوع من السيطرة

يتضح من خلال الأحداث أن النزاع بين المملكتين الأردنية والمصرية لم يكن حربًا أو قتالًا مباشرًا بين الملكين، بل كان صراعًا قائمًا على المصالح والأمن الوطني لكلا البلدين. هذا الصراع أسفر عن اتفاق ثنائي بين الملك رعمسيس الثاني من مصر والملك حداد بن بدد من مملكة أدوم الأردنية، حيث تم التوصل إلى اتفاقية تُعرف بـ “ثنائية الإدارة”. وقد نص الاتفاق على تقسيم الإدارة والسيطرة على الجزء الغربي من مملكة أدوم الذي يحد البحر الأبيض المتوسط، بما يضمن الاستقرار والأمن لكلا الطرفين في تلك المنطقة الإستراتيجية

تشير المصادر التاريخية إلى أن الفرعون المصري سيتى الأول حقق انتصارًا على أعدائه بدءًا من منطقة تُسمى “سيلا”، إلا أن موقع هذه المنطقة لم يتم تحديده بدقة في النصوص القديمة. في هذا السياق، يؤكد الدكتور أحمد عويدي العبادي أن “سيلا” المشار إليها في النصوص التاريخية هي نفس “السلع”، وهي منطقة مجاورة لعاصمة الأدوميين، التي تقع في جنوب الطفيلة وبصيرا. ولا تزال هذه المنطقة تعرف اليوم باسم “السّلِع”، مما يساهم في تحديد موقعها الجغرافي والتاريخي بشكل أكبر


مراجع

د . احمد عويدي العبادي, الشاسو/ الهكسوس الأردنيون الثموديين ونقاط الخلاف حول تحديد هويتهم
The Past, The Shasu and Egypt

Previous:
العماليق الأردنيين، جزء: ٧ – الهكسوس / الشاسو الأردنيون
Next:
العماليق الأردنيين، جزء: ٨ – الهكسوس الثموديين وعلاقاتهم بالمؤابيين الأردنيين