عين غزال، جزء: ٣ – العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار(ج)

يمثل موقع “عين غزال” شهادة فريدة على عبقرية الإنسان القديم، حيث كشف عن أقدم نظام شوارع في تاريخ البشرية وتخصص اقتصادي بين الزراعة والرعي، إلى جانب فنون معمارية وزخرفية تعكس تطور الحياة الاجتماعية والدينية قبل أكثر من ٨٠٠٠ عام

العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار(ج)

تشير الدراسات التي تناولت الفترة الزمنية الممتدة بين حوالي ٦٥٠٠ و ٥٥٠٠ ق.م إلى أن التغيرات المناخية كانت من العوامل الرئيسية التي أدت إلى هجرة بعض المواقع السكنية. هذه التحولات المناخية دفعت الإنسان إلى البحث عن مناطق جديدة لاستيطانها. رغم ذلك، ظلت بعض المناطق الأخرى مأهولة بالسكان، مثل موقع عين غزال ووادي شعيب، حيث استمر الاستقرار البشري في تلك الأماكن خلال هذه الفترة

وبالاستناد إلى نتائج الحفريات التي أجراها رولفسون وآلن سيمونز في موقع عين غزال، يمكن الاستنتاج أن تلك الحقبة شهدت تحولًا اقتصاديًا ملحوظًا، إذ بدأ يظهر التخصص الاقتصادي بين بعض العائلات أو العشائر. فبينما تفرغت بعض الأسر للعمل في الزراعة، بدأت أسر أخرى تعتمد بشكل متزايد على تربية الحيوانات، مثل الأغنام والماعز. هذا التخصص الاقتصادي أسهم في نشوء فصل شبه تام بين الأنشطة الزراعية والرعوية، رغم أن هناك استمرارية في التبادلات الموسمية بين السلع الزراعية والرعوية

العمارة

في مرحلة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري (ج)، تميزت العمارة بتطورات ملحوظة في تصميم المباني وطرق البناء. أبرز هذه التطورات كان استخدام الأرضيات المزخرفة بأنماط من الخطوط المتقاطعة أو المتوازية، التي كانت تضفي طابعًا فنيًا على المساحات الداخلية للمنازل. كما تم العثور في بيوت هذه الفترة على مواقد نارية استخدمت للطهي والتدفئة، إلى جانب مصاطب مرتفعة كانت تُستعمل كمقاعد أو كمساحات للراحة

من بين الخصائص المميزة لهذه الفترة في منطقة عين غزال، كانت عملية إعادة البناء والتعديل المستمر للمباني بما يتناسب مع احتياجات السكان. فقد تم تعديل حجم المباني بطرق مرنة، إما بتقليص المساحات لتناسب عدد أفراد الأسرة، أو بتوسيعها لتلبية احتياجات أكبر. كما كان يتم استخدام حفرة صغيرة كقاعدة لرفع السقف مما يعكس فهمًا لأساليب البناء

كانت البيوت تتكون من مجموعة من الغرف الصغيرة التي كانت مبنية بشكل متلاصق حول ممر ضيق. كانت أرضيات هذه الغرف غالبًا مدهونة باللون الأحمر، مما يضفي على المكان مظهرًا دافئًا وجذابًا. وتم اكتشاف نوع جديد من المباني، عرف لاحقًا بـ “المبنى ذو الممر”, تم تصميم هذه المباني على عدة طوابق، حيث كان الطابق السفلي يحتوي على غرف صغيرة تصطف على جانبي ممر ضيق، مما يدل على أنها كانت تستخدم لأغراض متعددة، من بينها التخزين أو ربما كانت تمثل قاعدة للطوابق العلوية التي كانت تتسم بمساحات أوسع

في موقع عين غزال، تم اكتشاف طبقة من القصارة التي كانت أقل جودة مقارنة بالفترات السابقة، على الرغم من ذلك، كانت بعض الغرف لا تزال مزينة ومغطاة بالقصارة الحمراء. خلال المرحلة المتأخرة من العصر الحجري الحديث المبكر الثاني التي تعود إلى حوالي ٦٥٠٠ – ٦٠٠٠ ق.م، أصبحت الأرضيات الجيرية المدهونة بالقصارة جزءًا أساسيًا من التصميم المعماري في عين غزال. وعلى الرغم من أن تقنية هذه الأرضيات كانت مشابهة لتلك المستخدمة في المرحلة السابقة، إلا أنها شهدت تجديدات عديدة وأُعيد استخدامها في الفترات اللاحقة، رغم أن بعض الأرضيات التي تمتد زينتها بالقصارة الجيرية والمدهونة بالأحمر كانت قليلة نسبيًا


الصورة على اليمين: القناة الفرعية الشمالية أسفل أرضية المبنى الدائري الأول - الصورة: ي. الزعبي

الصورة في المنتصف: الصورة في المنتصف: منظر شرقي "المبنى الخاص" يظهر المذبح الأرضي (أقصى اليمين)، والحجارة الدائمة (الوسط)، والعمود المنحوت على شكل إنسان في المدخل المسدود للجدار الخلفي (الشرقي) - الصورة: ب. ديجيده

الصورة على اليسار: منظر جنوبي لمبنى التخزين الخاص - الصورة: ب. ديجيده

في هذه المرحلة، بدأ يظهر ما يمكن أن يُطلق عليه “العمارة الدينية” في موقع عين غزال، حيث تكشف الأدلة عن الدور البارز الذي كان يلعبه الدين في الحياة اليومية لسكان هذا الموقع. تمتد هذه الشواهد إلى المنطقتين الشمالية والشرقية من الموقع. ففي المنطقة الشمالية، تم اكتشاف ثلاث غرف صغيرة تعود إلى المرحلة المتأخرة من العصر الحجري الحديث المبكر الثاني. كانت هذه الغرف، التي تراوح أبعادها بين ٢×٢ متر، تتميز بمدخلين رئيسيين يؤديان إلى داخلها، وتُحيط بها عتبات مصنوعة من نفس المادة الجيرية التي كانت تغطي الأرضيات، مما يشير إلى ارتباط هذه الهياكل بنشاطات دينية أو طقوسية تمارس داخل الموقع

تفتح المداخل على غرفة واحدة تمتد في الاتجاه الشمالي بطول يصل إلى ٧٫٤ متر، وعرض يبلغ ٩٫٥ متر. كان سطح الأرض في هذه الغرفة مغطى بطبقة من القصارة الجيرية عالية الجودة، التي تم تلوينها باللون الأحمر، ما يدل على العناية الفائقة في تنفيذها. تشير الأدلة الأثرية إلى أن هذه الأرضيات قد خضعت لعمليات تجديد وصيانة عدة خلال فترة استخدامها. من أبرز الاكتشافات في الغرفة هو العثور على كميات كبيرة من العدس والبازلاء المتفحمة، ما يعكس استخدام هذا المبنى في فترة الألف السابع قبل الميلاد

تعتبر المواقد من العناصر المميزة في العمارة السكنية لعين غزال. ففي معظم المنازل، كان يتواجد موقد واحد على الأقل، وكان هذا العنصر يشكل جزءًا أساسيًا من تصميم الأرضيات الداخلية. كانت المواقد تتخذ شكل انخفاضات ضحلة على هيئة زبدية، تقع تحت مستوى سطح الأرضية، وتختلف في أحجامها حسب الحاجة والتصميم. في الغالب، كانت تُوضع المواقد في وسط الغرفة لضمان توزيع متوازن للحرارة والضوء. أما حواف المواقد، فقد كانت بارزة ومرتفعة قليلًا عن مستوى الأرض، ومغطاة بطبقة من القصارة الجيرية. وفي بعض الحالات، كان يتم استخدام الطين أو الحجارة في تشكيل هذه الحواف

المبنى المكون من أربع مراحل في الحقل الشمالي. تظهر المراحل المنحنية أعلى (غربًا) وعلى يسار (جنوب) المبنى الدائري توجد حفرة نار (موقد) ربما كانت معاصرة للمبنى الدائري على اليمين. الصورة: ي. الزعبي

وقد خضعت المواقد في عين غزال لعمليات تجديد متعددة في ذلك الوقت، حيث عُثر أحيانًا على أكثر من ثلاثة مواقد متراكبة في نفس الموقع داخل غرفة واحدة. استخدمت هذه المواقد لأغراض متعددة متعلقة بالحياة اليومية مثل الطبخ والتدفئة والإضاءة، واحتوت معظمها على الفحم المتخلل في الرماد

أقدم شارع وأقدم درج في تاريخ البشرية

في قلب الأردن، جنوب منطقة الرصيفة وبالقرب من عين غزال في عمان، يقع أحد أهم الاكتشافات الأثرية التي تُعيد كتابة تاريخ الحضارة الإنسانية. وفقاً للدكتور محمد وهيب، فإن هذه الاكتشافات تؤكد أن البشرية قد عرفت النظام الهندسي والتطوير الحضري منذ أكثر من ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، مما يفند النظريات السابقة حول بدايات التخطيط العمراني

يُظهر هذا الاكتشاف التاريخي أن سكان العصر الحجري الحديث الذين عاشوا في وادي الزرقاء أسسوا نظاماً هندسياً حضرياً متقدماً، حيث بُنيت الشوارع أولاً لتصبح محاور تخطيط المدن، قبل إقامة المباني على جوانبها. ويُعد هذا النهج أساساً لأساليب التخطيط العمراني الحديث

الرد على الإرث الروماني

أشار الدكتور وهيب بفخر إلى أن هذه الاكتشافات تُغير التصورات التقليدية القائلة بأن الرومان هم من أدخلوا فن إنشاء الشوارع إلى المنطقة، كما هو الحال في شوارع ديكومانوس والكاردو في جرش. وأكد قائلاً: كلا، أجدادنا الذين عاشوا هنا منذ ثمانية آلاف عام قبل الميلاد هم من علموا البشرية نظام الشوارع، وما زالت تلك الشوارع عند بدايات الرصيفة شاهداً حياً على ذلك الإرث العريق

يعتبر موقع عين غزال أحد أهم المعالم الأثرية في العالم إذ يعتبر مهد الحضارة الإنسانية، حيث اكتُشف فيه أقدم المعابد التي عرفتها البشرية، إلى جانب تماثيل بشرية تُعد الأقدم في التاريخ، وتعود إلى ما يقرب من عشرة آلاف عام. ويُبرز هذا الموقع المكانة الريادية للأردن كموطن من أقدم مواطن الحضارة الإنسانية

عين غزال: اكتُشف أقدم شارع وأول درج في تاريخ البشرية يعودان لأكثر من ٨٠٠٠ عام قبل الميلاد

ليثبت أن الأردنيين القدماء هم من أسسوا التخطيط العمراني و أرشدوا الحضارة الإنسانية

الأدوات

في منتصف الألف السادس قبل الميلاد، توصل سكان عين غزال إلى صناعة الفخار وتطويره محليًا، مما يشير إلى أن هذه الصناعة كانت محلية الصنع. إلى جانب ذلك، استخدموا أدوات مصنوعة من العجينة البيضاء، مع الاستمرار في استخدام الأدوات من الفترات السابقة

الفنون

في موقع عين غزال، الذي يعد واحدًا من أقدم المواقع الاستيطانية في العالم، تم اكتشاف مجموعة من الدمى الطينية التي تمثل أشكالًا آدمية وحيوانية، ما يعكس مهارة الإنسان في تلك الحقبة ورؤيته الرمزية. من بين أبرز هذه الاكتشافات، تمثال معروف باسم “فينوس عين غزال”، الذي يعكس تصوّرًا فنيًا للأنوثة. بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على تماثيل أخرى تمثل نساء، واحدة منها تصور امرأة حامل، فيما الأخرى تمثل امرأة عارية. كما تم اكتشاف دمى حيوانية، أبرزها تماثيل الوعل


الصورة على اليسار: تمثال طيني لأنثى حامل من عين غزال

الصورة على اليمين: مخبأ من تماثيل الماشية من عين غزال (الصورة: سي. بلير)؛ ب. علامات سطحية على العديد من تماثيل الماشية من عين غزال (وفقًا لماك آدم ١٩٩٧: الشكلان ١٣ و ١٤)
الصورة على اليمين: عين غزال، تمثال من الطين لـ عجل بحزام

الصورة  على اليسار: تمثال طيني لأنثى حامل من عين غزال - الصورة: سي. بلير
عين غزال. تمثالان حيوانيان مطعّنان بشفرات من حجر الصوان، عُثر عليهما معًا في مخبأ مدفون تحت أرضية منزل
الصورة في الخط السفلي على اليمين: تماثيل طينية مصغرة من عين غزال، معروضة في متحف الآثار الأردني (متحف القلعة)، عمان  الصورة: ج. جرين

بالإضافة إلى الدمى، تم العثور على مجموعة من الأساور المصنوعة من الحجارة والصلصال، مما يبرز اهتمام سكان المنطقة بالفن والزينة. أما في مجال الزخرفة، فقد كشفت الحفريات عن زخارف فنية رائعة على أرضية أحد المباني المنحنية في المنطقة الشرقية من الموقع. شملت هذه الزخارف شريطًا عريضًا مطليًا باللون الأحمر ومزخرفًا بمربعات على خلفية بيضاء تشبه رقعة الشطرنج، مما يعكس مهارة السكان في استخدام المواد المتوفرة لديهم بشكل فني، استخدام المغرة الحمراء كان شائعًا في طلاء وزخرفة أرضيات وجدران القصارة الجيرية منذ أقدم مراحل الاستيطان في الموقع. هذا اللون استُخدم لاحقًا في زخرفة وطلاء الأواني الفخارية

عادات الدفن

عثر على اختلاف في عادات الدفن في عين غزال، حيث كانت الجثث تدفن بشكل جماعي دون فصل الجماجم، مما يعكس تنوعًا في الممارسات الجنائزية بين سكان الموقع


المراجع

Taylor & FrancisUsing Phytolith, Geochemical and Ethnographic Analysis to Inform on Site Construction and Activities in the Neolithic of Southwest Asia: Case Studies from Wadi Faynan 16 and ‘Ain Ghazal, Jordan, 17 Aug 2023
Universes in universe, Ain Ghazal statues
Research Gate, Ain ghazal
Cambridge University Press, ’Ain Ghazal, Jordan
محاضرة للدكتور محمد وهيب, الأردن في عيون العالم: أثريًا وسياحيًا بمناسبة مئوية الدولة
أبو غنيمة، خالد محمود 2009؛ معجم مصطلحات ما قبل التاريخ. جامعة اليرموك : اربد – الأردن
طلفاح، جعفر أحمد 1997، ارضيات القصارة في عمارة عين غزال خلال العصر الحجري الحديث.دراسة تحليلية مقارنة. رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا في جامعة اليرموك، اربد – اليرموك
كراسنة، وجيه 1989 ؛ الأدوات العظمية المصنعة في مواقع عين غزال وبسطة ووادي شعيب في المرحلة «ب» من العصر الحجري الحديث ماقبل الفخاري (دراسة تحليلية). رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا. جامعة اليرموك – اربد
كفافي، زيدان عبد الكافي 1990، الأردن في العصور الحجرية، الأردن : لجنة تاريخ الأردن
كفافي، زيدان 2005 ؛ أصل الحضارات الأولى، الرياض : دار القوافل للنشر والتوزيع
النمري، غسان 2002 ؛ عمان في العصر الحجري الحديث. تحليل بنائي لمنحوتات عين غزال، عمان : أمانة عمان الكبرى
النهار، ميسون 1993 ؛ الحلي في موقعي عين غزال وادي الشعيب في العصر الحجري الحديث. دراسة تصنيفية، تحليلية، مقارنة. رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا. جامعة اليرموك – اربد
Banning ,E.B From out Left Field Excavation in the South Field ,Ain Ghazal، Modesty and Patience، ed hans george Kafafi، Gebel* and al – ghual ,Yarmouk university، IRbid ,2009
Rollefson، G, and Leanard ,A. 1982.`Excavations at PPNB ” Ain Ghazal, ADAJ26
Rollefson، G, and simmons ,A.H.1984.`The 1983 Season at “Ain Ghazal ” Preliminary Report. ADAJ 28 : 20
Rollefson، G, and simmons ,A.H.1986.`The 1985 Season at “Ain Ghazal ” Preliminary Report. ADAJ 30
Rollefson، G,kafafi ,z; and simmons ,A.H.1989.`The 1989 Season at “Ain Ghazal ” Aperliminary Report. ADAJ 33
Rollefson ,G. 1992 Neolithic Game Board From ” Ain Ghazal ” Jordan. BASOR 286. 1-5

Previous:
عين غزال، جزء: ٢ – العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري  (ب)
Next:
عين غزال، جزء: ٤ – العصر الحجري الحديث