عين غزال، جزء: ٥ – الثقافة اليرموكية
تعد الثقافة اليرموكية إحدى أبرز حضارات العصر الحجري الحديث الفخاري في جنوب بلاد الشام، حيث تقدم نموذجًا فريدًا لتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفنية في تلك الفترة. من خلال الاكتشافات الأثرية، تتجلى إبداعات سكان عين غزال في الفخار، الحلي، والفنون، إلى جانب أنماط الدفن الفريدة، مما يبرز دورهم الريادي في تطور الحضارة الإنسانية
الثقافة اليرموكية
إحدى حضارات العصر الحجري الحديث الفخاري في جنوب بلاد الشام, سميت بذلك نسبة إلى وادي اليرموك
السور العظيم في عين غزال
تعد الهياكل المعمارية التي أقيمت حول المستوطنات في عصور ما قبل التاريخ دليلًا مباشرًا على الصراعات والتحديات التي واجهتها المجتمعات الأولى. في العصر الحجري الحديث في جنوب بلاد الشام، برزت أمثلة معمارية شهيرة مثل برج العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري والجدران المحيطة في أريحا، والتي أظهرت علامات تشير إلى دورها في التحصين، على الرغم من النقاش المستمر حول وظيفتها الحقيقية. حيث أثار الباحث بار يوسف (١٩٨٦) تساؤلات حول هذا الدور، إلا أن النقاش أُعيد فتحه بجدية لاحقًا من قبل لوبلانك وآخرين
مع الانتقال إلى العصر الحجري الحديث المتأخر، ظهر أسلوب البناء المتكتل أو المعروف باسم “بويبلو”، والذي لاحظ علماء الآثار وجوده في مواقع شرق الأردن الكبرى، مع احتمالية استخدامه لأغراض دفاعية. ولكن مع تطور المجتمعات نحو العصر الحجري النحاسي، لم تظهر أي هياكل تحصينية واضحة، حيث أصبحت المباني التي قد تحمل طابعًا تحصينيًا أكثر غموضًا
السور العظيم: معمار فريد في عين غزال
واحد من أبرز هذه الهياكل وأكثرها غموضًا هو ما يُعرف بـ”السور العظيم” في موقع عين غزال الأثري. اكتشف هذا السور بطول يبلغ نحو ١١ مترًا، وبارتفاع وصل إلى ٦٠ سم، وبعرض يقدر بـ ١٫٤٠ متر. ورغم أنه لم يكشف بالكامل بسبب التدمير الجزئي في طرفه الجنوبي الشرقي واستمراره في الرواسب غير المحفورة في الشمال الغربي، فإن ما تبقى منه يمثل بناءً مذهلًا مقارنة بحجم العمارة المحلية في تلك الحقبة
من اللافت للنظر أن الجدار قد يكون استخدم عبر مراحل زمنية متعددة. حيث يُعتقد أنه قد بني في البداية خلال العصر البيزنطي الشمالي الغربي، لكنه ظل قائماً حتى العصر اليرموكي. وقد عُثر على بوابة ضيقة ضمن الهيكل، بعرض يبلغ حوالي ١٠٠ متر، تم ردمها لاحقًا خلال العصر اليرموكي. ويبرز عنصر آخر فريد في هذا السور، وهو أن الأسطح الأرضية المحيطة به كانت مغطاة بطبقة من الجص البديل المعروف بـ”الحوار”، وهو مزيج مميز من الطباشير المطحون والطين يعتبر من خصائص العمارة اليرموكية
السور العظيم: معمار فريد في عين غزال
تفسيرات ودلالات
على الرغم من عدم وجود زوايا متقاطعة أو جدران مكملة توحي بوضوح أنه كان جزءًا من نظام تحصيني، إلا أن حجمه وموقعه يشيران إلى أنه ربما كان يفصل بين أجزاء مختلفة من المستوطنة، أو يفصل أفنية عائلية محددة. هذا التصميم الفريد قد يعكس تطورًا في التنظيم الاجتماعي والهيكلي للسكان في تلك الفترة، وربما يشير إلى تغييرات في أنماط المعيشة أو احتياجات المجتمع
يبقى “السور العظيم” في عين غزال شاهدًا مميزًا على تعقيد العمارة القديمة وتنوع أغراضها. فهو ليس مجرد بناء دفاعي أو معماري، بل يمثل جزءًا من قصة تطور المجتمعات في جنوب بلاد الشام، ويطرح أسئلة مستمرة حول وظيفته ودلالاته الثقافية والاقتصادية
الاستخدامات الخاصة
عثر في الطبقات التي تعود لمرحلة العصر الحجري الحديث المبكر الثاني على كسر من الأواني البيضاء، التي كانت تتضمن أطباقًا وزبادي. ولم تكن هذه الأواني مخصصة للاستخدام اليومي بل لأغراض أخرى، ربما طقوسية أو احتفالية
الاكتشافات
اكتشفت جرة يرموكية شبه كاملة تقف بشكل عمودي و تحتوي على حصى كبيرة داخلها. هذا الاكتشاف يدل على أن الفخار كان عنصراً مهماً في الثقافة المادية في تلك الفترة. إلى جانب الجرة، تم العثور على كميات كبيرة من الفخار، بما في ذلك قطع فخارية يمكن ترميمها، مما يشير إلى أن الأوعية الفخارية بأحجامها المتنوعة كانت تستخدم بشكل واسع في الحياة اليومية للناس آنذاك
تظهر الصورة أجزاءً من جدران منزل بُنيت من الحجر الميداني، مع أرضية من الجص الجيري التي حافظت على سلامتها لأكثر من ٨٥٠٠ عام، مما يعكس براعة ومهارة بناة العصر الحجري الحديث. يُذكر أن موقع عين غزال يضم بعضًا من أقدم المعابد في العالم، وهو شاهد حي على تطور الحضارة الإنسانية في تلك الحقبة المبكرة
الحلي
تم اكتشاف مجموعة من القطع الأثرية في موقع عين غزال، تضم كسرًا تمثل حليًا مصنوعة من القصارة الجيرية، إلى جانب خرز دائري مثقوب مصنوع من نفس المادة. هذا الاكتشاف يعكس وجود تقاليد قديمة في صناعة الحلي باستخدام المواد المحلية المتوفرة
الفنون
تم اكتشاف العديد من الرؤوس النسائية المصنوعة من الطين في موقع عين غزال، والتي تتميز بتطاول شكلها وعيونها التي تشبه حبة القهوة. إلى جانب ذلك، تم العثور على دمى نسائية كاملة ومسطحة، تعكس بوضوح عقائد الخصوبة وعبادة إلهة الأم التي كانت سائدة. ومع تقدم الوقت، شهدت الفنون في المرحلة الثانية تطورًا ملحوظًا، حيث أصبح الإنتاج أكثر تنوعًا ودقة في الصنع
في المرحلة الثالثة، برزت تطورات جديدة في الفنون والعمارة، حيث أخذت هذه الفنون شكلاً أكثر نضجًا وتعقيدًا. وتعد الدمى الآدمية ذات الأشكال الأنثوية، المصنوعة من الطين أو الحصى، من أبرز مظاهر الثقافة اليرموكية في عين غزال. كانت هذه التماثيل تتميز بعيونها التي تشبه حبة القهوة أو نواة التمر، ورؤوسها التي تنتهي بشكل مثلث، مما يعكس رمزية عميقة للخصوبة. إضافة إلى ذلك، تم العثور على دمى حيوانية تمثل الأبقار والخنازير، بالإضافة إلى دمية صلصالية على شكل رأس طير
تعد الدمى الآدمية والحيوانية الصغيرة من أهم الاكتشافات في هذا الموقع، حيث تم تصنيعها غالبًا من الطين أو القصارة الجيرية. من بين هذه الاكتشافات، تم العثور على سبعة تماثيل آدمية صغيرة لا يتجاوز ارتفاعها ١٥ سم، فضلاً عن دمية حيوانية واحدة من القصارة الجيرية. وقد أظهرت الدراسات أن القصارة الجيرية كانت تستخدم أيضًا في تجديد سمات وجوه الأشخاص المتوفين، وهو ما فسره الباحثون على أنه نوع من تقديس الأسلاف. وقد تطورت هذه الفكرة لتشير إلى أن الجماجم المكتشفة كانت تخص أفرادًا ذوي إنجازات متميزة في مجتمعاتهم، ما يعكس أهمية تكريم الأبطال والرموز الاجتماعية في تلك الفترة
بيت يرموكي - عين غزال
عادات الدفن
في الطبقات الأثرية التي تعود إلى العصر الحجري الحديث قبل الفخاري (ج)، تم اكتشاف العديد من المدافن التي تحتوي على ثلاثة وثلاثين هيكلاً عظميًا بشريًا. تميزت هذه المدافن بخصوصية لافتة، حيث غابت عادة فصل الجمجمة عن الجسد، وظهرت في الوقت ذاته ظاهرة المدافن الجماعية التي كانت أكثر شيوعًا مقارنة بالفترات السابقة. بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على مجموعة من المرفقات الجنائزية، بما في ذلك بقايا عظمية لخنازير، مثل جماجم وفكوك وعظام متناثرة، ما يدل على أهمية هذه الحيوانات في الطقوس الجنائزية
في فترة اليرموكيات، شهدت المدافن في عين غزال تغيرًا ملحوظًا، إذ فقدت المدافن كل أشكال التمييز الاجتماعي بين الأفراد. وهذا يشير إلى تساوي الأفراد في الموت، وأنه لم يعد هناك تمييز طبقي واضح يعكس الفروقات بين طبقات المجتمع في طقوس الدفن، مما يعكس تطورًا في المفاهيم الاجتماعية والجنائزية
الاقتصاد
في سياق تطور المجتمعات الزراعية المبكرة، كان شعب عين غزال يعتمد على الزراعة كمصدر أساسي للغذاء وكمحرك رئيسي لاقتصادهم المحلي. كانت المحاصيل التي يزرعونها متنوعة، بما في ذلك الحبوب مثل الشعير والقمح القديم، إضافة إلى البقوليات مثل البازلاء والفاصوليا والعدس والحمص. وقد كانت هذه المحاصيل تُزرع في الحقول المجاورة للقرية، مما ساعد على دعم الاقتصاد الزراعي المحلي
لم تقتصر حياة شعب عين غزال على الزراعة فحسب، بل تميزت أيضًا بتربية الماعز التي كانت توفر لهم الحليب واللحوم. وكانت تربية الماعز تمثل عنصرًا مهمًا في تنويع مصادر الغذاء. علاوة على ذلك، كان الصيد يشكل جزءًا مكملًا للغذاء، حيث كانوا يصطادون الحيوانات البرية مثل الغزلان والخنازير البرية، إضافة إلى الثدييات الأصغر كالثعالب والأرانب
هذا التنوع في مصادر الغذاء يشير إلى نمط حياة زراعي مستدام، يتسم بتكامل الأنشطة الزراعية والرعوية والصيد، مما ساعد على استدامة المجتمع المحلي وتعزيز استقراره الغذائي والاجتماعي
المراجع
Taylor & Francis, Using Phytolith, Geochemical and Ethnographic Analysis to Inform on Site Construction and Activities in the Neolithic of Southwest Asia: Case Studies from Wadi Faynan 16 and ‘Ain Ghazal, Jordan, 17 Aug 2023
دائرة الأثار العامة، Excavations at Neolithic Ayn Ghazal, 1993- 1994 , Ziedan Kafafi and Gary Rollefson
Biblical Archaeology, Invoking the Spirit, Prehistoric religion at Ain Ghazal
Universes in universe, Ain Ghazal statues
Research Gate, Ain ghazal
Cambridge University Press, ’Ain Ghazal, Jordan
World History, Plastered Face of a Human Skull from Ain Ghazal
محاضرة للدكتور محمد وهيب, الأردن في عيون العالم: أثريًا وسياحيًا بمناسبة مئوية الدولة
أبو غنيمة، خالد محمود 2009؛ معجم مصطلحات ما قبل التاريخ. جامعة اليرموك : اربد – الأردن
طلفاح، جعفر أحمد 1997، ارضيات القصارة في عمارة عين غزال خلال العصر الحجري الحديث.دراسة تحليلية مقارنة. رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا في جامعة اليرموك، اربد – اليرموك
كراسنة، وجيه 1989 ؛ الأدوات العظمية المصنعة في مواقع عين غزال وبسطة ووادي شعيب في المرحلة «ب» من العصر الحجري الحديث ماقبل الفخاري (دراسة تحليلية). رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا. جامعة اليرموك – اربد
كفافي، زيدان عبد الكافي 1990، الأردن في العصور الحجرية، الأردن : لجنة تاريخ الأردن
كفافي، زيدان 2005 ؛ أصل الحضارات الأولى، الرياض : دار القوافل للنشر والتوزيع
النمري، غسان 2002 ؛ عمان في العصر الحجري الحديث. تحليل بنائي لمنحوتات عين غزال، عمان : أمانة عمان الكبرى
النهار، ميسون 1993 ؛ الحلي في موقعي عين غزال وادي الشعيب في العصر الحجري الحديث. دراسة تصنيفية، تحليلية، مقارنة. رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا. جامعة اليرموك – اربد
Banning ,E.B From out Left Field Excavation in the South Field ,Ain Ghazal، Modesty and Patience، ed hans george Kafafi، Gebel* and al – ghual ,Yarmouk university، IRbid ,2009
Rollefson، G, and Leanard ,A. 1982.`Excavations at PPNB ” Ain Ghazal, ADAJ26
Rollefson، G, and simmons ,A.H.1984.`The 1983 Season at “Ain Ghazal ” Preliminary Report. ADAJ 28 : 20
Rollefson، G, and simmons ,A.H.1986.`The 1985 Season at “Ain Ghazal ” Preliminary Report. ADAJ 30
Rollefson، G,kafafi ,z; and simmons ,A.H.1989.`The 1989 Season at “Ain Ghazal ” Aperliminary Report. ADAJ 33
Rollefson ,G. 1992 Neolithic Game Board From ” Ain Ghazal ” Jordan. BASOR 286. 1-5