عين غزال، جزء: ٢ – العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري (ب)
شهد العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري (٩٠٠٠ – ٤٥٠٠ قبل الميلاد) تحولات جذرية في حياة الإنسان، حيث ظهر الاستقرار الزراعي، وتطورت تقنيات البناء، وبرزت المجتمعات في تنظيمها الاجتماعي والاقتصادي. يعد موقع عين غزال في الأردن، مركزًا هامًا لهذه التحولات، بما قدمه من شواهد معمارية وأثرية تعكس عمق التغيرات الحضارية. تطور الفنون، ممارسات الدفن، وأدوات الإنتاج، يعكس تكيف الإنسان مع بيئته وابتكاره المستمر لتلبية متطلبات حياته المتغيرة

العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري (ب) (٩٠٠٠ – ٤٥٠٠ قبل الميلاد)
في الفترة الممتدة بين حوالي ٧٥٠٠ و٦٠٠٠ قبل الميلاد، شهد العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري (ب) تطورًا ملحوظًا في الحياة البشرية، حيث توسعت المواقع الأثرية بشكل كبير وانتشرت على مساحات واسعة. هذا الانتشار يعكس قدرة الإنسان على التكيف مع بيئات جغرافية متنوعة والقدرة على استغلال الموارد الطبيعية المحيطة به بطرق مبتكرة. كانت بلاد الشام مسرحًا لعديد من التحولات المهمة، أبرزها ظهور الزراعة وتدجين الحيوانات. لم تقتصر الفائدة من تدجين الحيوانات على اللحوم فقط، بل امتدت لتشمل منتجات أخرى. ومع حلول نهاية الألف السابع قبل الميلاد، أصبح الرعي جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان في تلك الفترة
شهدت القرى الزراعية تطورًا ملحوظًا سواء من حيث الحجم أو عدد السكان. ويُعد موقع عين غزال في الأردن واحدًا من أبرز الأمثلة التي تعكس هذا التحول التاريخي. وكانت في بدايتها صغيرة، إذ لم تتجاوز مساحتها ٢٫٥ هكتار (٢٥٠٠٠ متر مربع) حوالي ٧٢٥٠ قبل الميلاد،. ومع مرور الوقت، شهدت نموًا مطردًا، لتصل مساحتها إلى حوالي١٤ – ١٥ هكتارًا (١٤٠٠٠٠ – ١٥٠٠٠٠ متر مربع) بحلول عام ٦٠٠٠ قبل الميلاد، حيث قدّر عدد سكانها آنذاك بما يتراوح بين ٢٠٠٠ و ٣٠٠٠ نسمة
وتكشف المكتشفات الأثرية من تلك الفترة عن تقدم كبير في أساليب المعيشة والإنتاج، إذ انتقل الإنسان من حياة التنقل إلى حياة الاستقرار. وتميز هذا التحول بإنشاء القرى الزراعية، وتدجين الحيوانات، مما أحدث ثورة في نمط الحياة. كما شهدت هذه المرحلة تغييرات جوهرية في الهندسة المعمارية وتصميم المساكن، بالإضافة إلى تطوير أدوات جديدة تلبي احتياجات الإنتاج الزراعي.
عين غزال يبرز موقع كواحد من أقدم المواقع التي تقدم صورة متكاملة عن تطور القرى الزراعية في العصر الحجري الحديث، مما يضعه في مكانة محورية لفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البشرية في تلك الحقبة التاريخية
العمارة
في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري “ب”، شهدت العمارة تطوراً ملحوظاً وتنوعاً في التصاميم واستخدام المواد. تميزت هذه الفترة بظهور المساكن المستطيلة التي أصبحت سمة بارزة في هذا العصر، بينما استمر استخدام المساكن الدائرية في بعض المناطق. ومن أحده الأنماط المعمارية تم العثور على مسكنين دائريين تم بناؤها باستخدام الحجارة الغفل، مع تميز الأرضيات بتغطيتها بالجص. وقد أظهرت الاكتشافات أن هذه المساكن خضعت لعدة عمليات ترميم، مما يشير إلى تطور تقنيات الصيانة والحفاظ على المباني, كما عثر داخل هذه المساكن على حنية حجرية، وحفرة مركزية دعمت جدرانها بالحجارة، والتي يُعتقد أنها كانت تستخدم لأغراض دينية
في قلب موقع عين غزال، كان سكان هذه المنطقة يعتمدون بشكل رئيسي على المواد المتاحة في بيئتهم الطبيعية لبناء مساكنهم، استخدموا الحجارة الكبيرة لبناء الأسس والهياكل التي تدعم المنازل، حيث كانت هذه المواد توفر الاستقرار والقوة. بالإضافة إلى ذلك، استفادوا من الأشجار المعمرة، التي كانت تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز الأسطح والحفاظ على متانة المباني
كانت هذه المساكن عادة مأهولة بعائلات نووية، تتكون من الآباء والأبناء غير المتزوجين، وهو نمط سائد في المجتمعات الزراعية القديمة. هذا التوزيع العائلي يشير إلى أن أفراد الأسرة كانوا يعيشون معًا في وحدة مترابطة. كما يبرز تزايد عدد المنازل في عين غزال دليلاً على اعتماد هذه العائلات على نفسها في مختلف جوانب سواء في الإنتاج أو الاستهلاك
واصلت المجتمعات اعتماد التقنيات المعمارية التي كانت مستخدمة في الفترات السابقة. فقد كشفت التنقيبات الأثرية عن بقايا أبنية دائرية وجدران حجرية في المناطق الشمالية. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسات الأثرية أن العديد من المواقع شهدت عمليات ترميم للأرضيات الجصية، مما يبرز الاهتمام بصيانة هذه المباني لضمان ديمومتها واستخدامها على مدى فترات طويلة
، قامت مجتمعات عين غزال بتسوية المنحدر الغربي المطل على وادي الزرقاء، مما أتاح توفير مساحة مناسبة لإنشاء مجمعات سكنية جديدة. تميزت هذه المجمعات بتصميمها الذي يتألف من غرفتين مستطيلتين تم بناؤهما باتجاه الشرق-الغرب، مع مساحات تراوحت بين ١٠ إلى ٢٥مترًا مربعًا حيث عكست براعة في التصميم واستغلال الفضاء المتاح لتلبية احتياجات السكان
يُعد موقع عين غزال مثالًا بارزًا على هذا النوع من العمارة، حيث يتميز بتصميم معماري استثنائي، يعكس تقدمًا ملحوظًا في فنون البناء ويأسر الأنظار بتفاصيله المعمارية الفريدة، فخلال الألفية الثامنة قبل الميلاد، ومع اقتراب بداية الألفية السابعة، شهدت عمارة المنازل تطورًا لافتًا في تصميمها وبنائها. تم استخدام مواد طبيعية بسيطة في بناء المنازل مثل الحجارة الغفل والدش، فيما كانت الأرضيات تُغطى بالجبس المدكوك الذي كان يلمع مع مرور الوقت. بعض المنازل كانت مزخرفة بطبقة من الطلاء الأحمر، ومع اقتراب نهاية الألفية الثامنة وبداية السابعة قبل الميلاد، بدأت تظهر في التصاميم المعمارية اتجاهات جديدة وأسلوب أكثر عفوية، حيث شُيدت المباني في هذا العصر على شكل مستطيلات، مع أرضيات مدهونة أحيانًا بالصبغة الحمراء. استُخدمت الحجارة الغفل والدبش في بناء هذه الأبنية، بينما تراوحت مساحات الغرفبين ١٠ و ٢٥ مترًا مربعًا. وقد أظهرت التصاميم وجود مداخل تؤدي إلى ردهات داخلية، مما يشير إلى تنظيم معماري يهدف إلى توفير المساحات لوظائف متعددة
صورة على الشمال: منظر إلى الشمال من الجزء الشرقي من "المبنى الخاص" توجد الأحجار الثلاثة الدائمة في أقصى اليسار وموقد الأرضية في المنتصف - الصورة: ب. ديجيده
الصورة في المنتصف: في أعلى الصورة يوجد جدار الاحتجاز "للمبنى الخاص". وفي وسط الجدار الخلفي يوجد المذبح على ثلاثة أزواج من الحجارة الدائمة، وأمامه موقد أرضي من الجص - الصورة: ب. ديجيده
الصورة على اليمين: المبنى الدائري الأول، الحقل الشمالي، عين غزال - الصورة: جي. رولفسون؛ من رولفسون، ٢٠٠٥
في المرحلة الثانية من العصر الحجري ما قبل الفخاري “ب”، شهدت المجتمعات البشرية في عين غزال تطورًا في بنية المنازل التي كانت تستخدمها، حيث استمر بناء البيوت المستطيلة والمربعة، إلى جانب استمرار ظهور البيوت المستديرة التي اتخذت أشكالًا دائرية أو أهليجية. فقد تم اكتشاف غرف مستطيلة الشكل، مبنية من الحجارة الجيرية غير المشذبة، مزودة بأرضيات مقصورة ومطلية باللون الأحمر، وهو ما يعكس براعة جدودنا الاردنيين في استخدام المواد المتاحة. وكانت المساحات الداخلية لهذه الغرف تتغير حسب الحاجة، إذ كان يتم تعديل مواقع الجدران لتتناسب مع الاحتياجات المختلفة، ما يدل على مرونة في تنظيم الفراغات الداخلية. كما كانت هذه الغرف تبنى متلاصقة، مما يشير إلى وجود نوع من التلاحم الاجتماعي والعائلي بين السكان. تشير الأدلة المكتشفة في الموقع إلى وجود مواقد في وسط الغرف، ما يدل على أن الأنشطة اليومية مثل الطهي والتخزين كانت تُمارس في هذه المساحات المشتركة. وهذا يعكس نمط حياة يعتمد على التعاون والتكامل بين أفراد المجتمع، حيث كان العمل الجماعي والتضامن جزءًا أساسيًا من الروتين اليومي
في مراحل لاحقة، ما بين ٦٥٠٠ إلى ٦٠٠٠ قبل الميلاد، شهدت منطقة عين غزال تطورًا ملحوظًا في تصاميمها المعمارية. بدأت المباني في هذه الفترة تتألف من طابقين، حيث كان الطابق السفلي يحتوي على غرف صغيرة يُعتقد أنها لم تكن مخصصة للسكن، بل كانت تستخدم لأغراض التخزين. في المقابل، كان الطابق العلوي مخصصًا للمساحات المعيشية، مما يدل على تطور في فهم تصميم الفضاءات واستخدامها بشكل أكثر تطورًا وتنظيمًا. وقد تم العثور على العديد من الأدلة التي تدعم هذا الاتجاه المعماري، مما يعكس التحولات المستمرة في الأساليب العمرانية لتلبية احتياجات المجتمع المتزايدة والمتنوعة، مثل
مباني الخاصة
أظهرت التنقيبات الأثرية في موقع عين غزال وجود مساكن مستطيلة الشكل تتوزع في المناطق الوسطى والشمالية والغربية من الموقع. كانت هذه المساكن تتكون من غرفتين إلى ثلاث غرف، شُيدت باستخدام حجارة غير مشذبة، ورتبت بشكل موازٍ لمحور شرق-غرب. تراوحت المساحة الداخلية لكل غرفة بين ١٠ و٢٥ مترًا مربعًا، وامتازت الأرضيات بجصّ ناعم، فيما كانت الجدران أحيانًا مغطاة بطبقة من الطلاء الأحمر أو البني. من أبرز خصائص هذه المباني قابليتها للتوسيع أو التقلص حسب احتياجات سكانها، حيث كان لكل غرفة موقدة نار مغروسة في الأرضية تستخدم سواء للطهي أو تدفئة المكان
مباني تخص المشاغل
عين غزال شهدت تنوعًا كبيرًا في الصناعات التي مارسها سكانها. فقد تميزت هذه المنطقة بابتكار صناعات جديدة، بالإضافة إلى تطوير أخرى كانت قد ورثها السكان عن أسلافهم. كان من أبرز ما أبدع فيه أهل عين غزال هو صناعة التماثيل الفنية التي عكست مستوى عالٍ من التقنية والمهارة. وهذا التطور في هذه الصناعة لم يكن مجرد نتاج إبداع فني فحسب، بل يعكس تقدمًا اقتصاديًا ملحوظًا في عدة مجالات. فقد ارتبط هذا التطور الاقتصادي بشكل وثيق بتحسن في مجالات الزراعة، والتدجين، والتجارة، مما ساهم في ازدهار المنطقة وتطورها
في الجزء الجنوبي من الموقع، أظهرت أعمال التنقيب وجود مجموعة من المباني التي تعود إلى فترات العصر الحجري الحديث قبل الفخاري “ب” و”ج”. كان أحد المباني المستكشفة مستطيل الشكل، يتكون من عدد من الغرف الصغيرة التي تم ترتيبها حول ممر ضيق، وقد زُينت أرضيتها بطبقة من الجص الملطخ باللون الأحمر، مما يعكس مستوى من التطور الفني. بالإضافة إلى ذلك، تم اكتشاف ثلاث غرف صغيرة متجاورة بمساحة ٢ × ٢ متر لكل منها، حيث كانت مداخلها تفتح على ساحة واسعة تقع في الجهة الشمالية من المبنى، وداخل إحدى هذه الغرف، تم العثور على آنية تخزين من الطين المجفف، مما يؤكد استخدام هذه الغرف لأغراض التخزين
مناطق التخزين البسيطة
في موقع عين غزال، تم اكتشاف عدة غرف صغيرة ملحقة ببعض المنازل، والتي كانت تستخدم لتخزين المحاصيل الزراعية. من بين هذه الغرف، تم رصد كوة صغيرة تم تكييفها لاحقًا لتصبح مكانًا مخصصًا للتخزين بعد إعادة تنظيم الغرفة. تشير هذه الاكتشافات إلى حدوث تغييرات جوهرية في الأساليب المعمارية والتخطيط العمراني، مما يعكس بداية التخصص الاقتصادي بين الأفراد. وهذه الظاهرة تعتبر مؤشرا على التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت في إعادة تشكيل الهياكل الاجتماعية للمجتمعات في تلك الفترة
وفي المنطقة الشمالية من الموقع، أسفرت التنقيبات الأثرية عن اكتشاف مبنيين دائريين يُعتقد أنهما كانا يُستخدمان لأغراض غير سكنية، بحسب ما ذكر الباحثان كفافي ورولفسون. ويعتبر هذان المبنيان دليلاً على تطور الأنشطة الاقتصادية والروحية التي كان يمارسها سكان المنطقة في تلك الفترة. كما تم العثور في الجهة الشرقية على عدد من المباني التي يُعتقد أنها كانت تستخدم لأغراض دينية، مما يبرز الأهمية الروحية التي كان يحظى بها الدين في حياة هذه المجتمعات
الأدوات
تم اكتشاف مجموعة من الأدوات المتنوعة في موقع عين غزال، تتضمن هذه الأدوات أنواعًا متعددة من الصوان، مثل رؤوس السهام، الشفرات، والمناجل، والمناقيش، والمثقاب، ورؤوس الرماح، والفؤوس، والمجارف والأزاميل. إضافة إلى ذلك، عُثر على أدوات مصنوعة من الأوبسديان، مثل الشفرات والسكاكين، فضلاً عن أدوات أخرى مصنوعة من البازلت، والعجينة البيضاء، والحجر الجيري، والعظام
تُعد هذه الأدوات تجسيدًا للاحتياجات المتنوعة التي كانت أساسية في حياة سكان عين غزال اليومية، الذين اعتمدوا بشكل رئيسي على الزراعة كمصدر رئيسي للغذاء، إضافة إلى ممارسات الصيد والرعي. ومن بين الاكتشافات المثيرة، وُجدت حصيرة منسوجة، رغم التلف الذي أصابها، وقد كانت موضوعة على أرضية إحدى المساكن. وهذا الاكتشاف يعكس اهتمام السكان بتجميل وتأثيث مساكنهم، مما يدل على وجود ثقافة غنية ووعي عميق بتفاصيل الحياة اليومية واحتياجاتها
الصورة على الشمال: أدوات حجرية مقطوعة من عين غزال ١٩٨٣. أ-هـ: رؤوس أسهم. و: حجر هلالي مجهري. ز-ح: مثاقب. ط: مثقب، ل-م: شفرات منجلية، ك: مكشطة طرفية. ن: سكين، و: إزميل عرضي على شفرة معاد لمسها
الصورة على اليمين: رؤوس الرماح من عين غزال ١٩٨٣ أ-ب: رؤوس أريحا. ج-د: رؤوس على شكل أوراق. هـ، ك: رؤوس مائلة بسيطة. و: رؤوس مائلة ثنائية الوجه. ز-ي: رؤوس أبو غوش
رسم: بريان بيرد
فؤوس
على اليسار: فأس غير حاد النهاية، الجسم منقور بشكل كبير، اللجام مُعاد تشكيله ومطحون، كسر في اللجام بسبب الاصطدام
في المنتصف: فأس عريض، الجسم والحواف منقورتان بشكل طفيف، اللجام مطحون ومدور
على اليمين: فأس كبير، الجسم منقور بشكل كبير ليتناسب مع المقبض، اللجام مطحون
الفنون
في منتصف الألف السابع قبل الميلاد، بدأت تظهر دلائل على تطور الاهتمام بالزخرفة في موقع عين غزال، ورغم أن الأدلة كانت محدودة في تلك الفترة، إلا أن بعض الأنماط الزخرفية التي تم اكتشافها تشير إلى تفضيل واضح للون الأحمر، الذي كان له حضور بارز. من بين هذه الأنماط، وُجدت بعض الأرضيات التي طُليت بألوان صريحة بالكامل، بينما تم اكتشاف نماذج زخرفية أخرى نفذت باستخدام الأصابع، ما يعكس أسلوبًا زخرفيًا بسيطًا ولكنه ملحوظ على أرضيات المساكن
تجلى الاهتمام بالفنون من خلال تنوع دمى التماثيل التي تم اكتشافها، حيث شملت مجموعة واسعة من التماثيل الآدمية والحيوانية التي صُنعت من مواد متعددة. من بين هذه الاكتشافات، تم العثور على تماثيل لثيران مزودة بأنصال صوانية، مما قد يشير إلى ارتباطها بطقوس دينية أو تضحية خاصة. كما تم الكشف عن مخبأين لتماثيل جصية دفنت بعناية تحت أرضيات المنازل المهجورة، حيث كانت هذه التماثيل موضوعة في حفر صغيرة، وغالبًا ما كانت في اتجاهات شرقية وغربية. تراوحت أحجام التماثيل بين ٣٥ و١٠٠ سم، وكانت في حالة حفظ جيدة للغاية. بالإضافة إلى استخدامها في صناعة التماثيل، كان الجص يُستخدم لتغطية الجدران والأرضيات، كما كان له دور مهم في معالجة جماجم الموتى، مما يعكس اعتقادات ثقافية ودينية متعمقة
تُظهر التماثيل المكتشفة في المخبأ الأول ملامح فنية فريدة تميزت بتفاصيل بارزة وعناية خاصة بالتشكيل الجسماني، حيث كان الجسم منحني الأضلاع، مما يعكس نوعًا من البراعة في إظهار الديناميكية الجسدية. أما في المخبأ الثاني، فقد كانت التماثيل أكبر حجمًا وأشد زاوية، حيث تميزت بملامح أكثر صرامة وأقل اهتمامًا بالتفاصيل الدقيقة. تركزت العناية في هذا المخبأ على إبراز ملامح الوجه بشكل أكثر قياسية، مع بروز العيون بشكل غير متناسب، مما يشير إلى اتجاه قوي نحو التوحيد والتبسيط في التصميمات
تمثل التماثيل المكتشفة في موقع عين غزال إحدى أبرز معالم الفن التصويري، حيث تميزت هذه التماثيل بعيونها التي كانت تحاكي بشكل لافت عيون الغزال، من الناحية الجمالية. يُظهر هذا التشابه العميق بين عيون التماثيل وعيون الغزال بعدًا فنيًا ودينيًا، يعكس مدى الاهتمام بالتفاصيل الجمالية ودلالاتها الرمزية. من خلال هذه التماثيل، يمكننا استكشاف جزء من الثقافة والتقاليد التي كانت سائدة في منطقة عين غزال التي لامست الأبعاد الروحية والتعبيرية التي في تلك الفنون
الصورة على اليمين: تمثال عين غزال: زينة تسمى "زينة"، مع آثار رسم على الساق. المجموعة المبكرة، حوالي ٦٧٠٠ قبل الميلاد
الصورة على اليسار: تمثال عين غزال الصغير، الصورة: هاوبت وبيندر
الصور: هاوبت وبيندر
تماثيل عين غزال، تمثال نصفي كبير برأسين، حوالي ٦٥٠٠ قبل الميلاد - متحف الأردن
الصورة: هاوبت وبيندر
عادات الدفن
جاءت عادات الدفن أن الشخص المتوفي يدفن تحت أرضيات البيوت، عند مصطبة الباب في حفرة صغيرة ثم يوضع الميت لفترة حتى يتآكل ويفنى لحمة، ومن ثم يفتح مرة أخرى عليه لفصل الرأس عن الجسد، وكان الميت يوضع على أحد جانبية، أو بشكل قرفصائي، فقد عثر في عين غزال على مرفقات جنائزية من الخرز مصنوع من الحجارة أو شفرة أو شفرتين من الصوان، وعثر على امرأة بداخلها عقد مكون من ثلاثين خرزة مصنوعة من عظام الحيوانات، وهناك جثث عثر عليها في منطقة النفايات وبشكل ممدد والهياكل العظمية محتفظة بالجثث، أما الأطفال قد دفنوا مع البالغين في المدفن نفسه، وهياكل الأطفال احتفظت بجثثها، وجاءت بعض الجماجم المفصولة مطلية بطبقة من القصارة، و استعيض عن العيون بأصداف بحرية في بعض الأحيان أو مثلت بخطوط سوداء اللون
:وربما تكون تقديس للأسلاف أو قد تمثل ناحية عقائدية, وعادات الدفن في عين غزال هناك مثالين
الحالة الأولى: لشخص وجد مقتولا وعظامه مقطعة وبداخل جمجمته قطعة صوانية، وعثر عليها في المنطقة الشرقية، هذا دليل على وجود حالات عنف بين أفراد المجتمع إبان ذلك الوقت وبين المجتمعات المختلفة
الحالة الثانية: لمتوفى عثر عليه مدفون داخل القمامة في المنطقة المركزية في الموقع. وهذا يدل على أن القيمة الاجتماعية للمتوفى لم تكن عالية مما يدلل على وجود طبقات اجتماعية أو تنوع طبقي داخل المجتمع الواحد وكانت عادات الدفن تتم في معظم الأحيان تحت أرضيات البيوت، وتأخذ الجثث بشكل قرفصائي حيث يتم تآكل لحمها، ثم يفتح القبر، ويتم فك الجمجمة عن الجثة، وقد دفنت بعضها تحت عتبات المنازل، وكان بعضها مغطى بطبقة من القصارة، ووضعت الأصداف مكان العين
حدث بهذه الفترة تطور ملحوظ في الذوق الفني عند الإنسان الذي مارس الفنون، والشعائر الدينية، إذ إن عملية التجديد أو تشكيل قصارة الأرضيات قد ساهمت فيها عادات الدفن التي شاعت خلال هذه المرحلة، فدفن المتوفيين تحت أرضيات المنازل واستخدم لتغطية الحفر الدفن بواسطة طبقة من القصارة التي كانت تلصق مؤقتًا لحين يبلى الجسد ويتحلل، لإزالة جمجمة المتوفي فإن طبقة القصارة عادة تزال، أما حفرة الدفن إما أن يصار إليها بطبقة من القصارة، أو يتم تشكيل أرضية جديدة تمامًا للمنزل، ففي إحدى غرف السكن تم العثور على أغطية من القصارة الجيرية كانت تغطي سبعة حفر دفن احتوت على سبعة أشخاص ومجموعة من ثلاثة جماجم، وفي المنطقة الشمالية حيث كشف عن بقايا أرضية من القصارة الجيرية التي طليت بصبغة الأحمر و تعود لغرف كبيرة الحجم يبلغ طولها خمس أمتار تقريبًا
الصورة على اليمين: بقايا شخص مدفون تحت أرضية منزل في عين غزال - مطبعة جامعة كامبريدج
الصورة على اليسار: بقايا شخص مدفون تحت أرضية منزل في عين غزال - عبر سي. بلير/مشروع عين غزال الأثري
عبر صحيفة نيويورك تايمز
ممارسات الدفن
:في دراسة تاريخية حول ممارسات الدفن، هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المدافن
المجموعة الأولى: دفن “الشعب” كانت تعتبر “الدفن نموذجية”, في منتصف الألفية الثامنة قبل الميلاد، إلا أن هذه الطريقة كانت تقتصر على دفن الأفراد تحت أرضيات المنازل، كما اتضح من وجود ١٢ فرداً تم العثور على هياكلهم العظمية تحت الأرضيات، حيث استمر استيطان هذا المنزل لمدة ٤٠٠ سنة
المجموعة الثانية: دفن في مواقع أخرى خارج المنازل, وجد أربعة جماجم لأشخاص من أعضاء أسرة التي لم تكن مدفونة تحت أرضيات المنازل
أما النوع الثالث من ممارسات الدفن، فقد عُرف بـ”دفن القمامة”، وهو أسلوب يُلاحظ فيه دفن الأفراد مع جمجمة سليمة مرتبطة بالهيكل العظمي، بالإضافة إلى وجود النفايات ضمن موقع الدفن. تشير هذه التفاصيل، إلى جانب وضعيات الهياكل العظمية، إلى أن هؤلاء الأشخاص ربما لم يحظوا بالاحترام الكامل بعد وفاتهم، وهو ما يمكن اعتباره انعكاسًا لمكانتهم الاجتماعية المنخفضة أثناء حياتهم.على النقيض، كان الدفن تحت أرضيات المنازل يحمل دلالات رمزية على التمييز الاجتماعي، حيث ارتبط بمرتبة اجتماعية أعلى. يبدو أن اختيار موقع الدفن كان وسيلة لإبراز الفوارق الاجتماعية، إذ أن الدفن داخل المنازل كان يُعد امتيازًا خاصًا يدل على احترام وتقدير أكبر للمتوفى
تميزت جميع المدافن تحت الأرضية خلال تلك الفترة بعملية قطع الرأس، حيث كان الجسد يُدفن أولًا تحت الأرض، ثم يُعاد فتح القبر بعد مرور فترة من الزمن لإزالة الجمجمة، مع الإبقاء على الفك السفلي في مكانه. أما بالنسبة للمرفقات الجنائزية، فقد كانت نادرة جدًا، واقتصرت على عدد محدود من الأدوات الرمزية أو الزخرفية، مثل خرز مصنوع من الحجارة أو شفرة واحدة أو اثنتين من الصوان. ومن الأمثلة اللافتة التي تم اكتشافها في موقع عين غزال، قبر يعود لامرأة يحتوي على ثلاثة خرزات صغيرة، صنعت بدقة من عظام الحيوانات، مما يُبرز أهمية الرمزية والممارسات الطقسية في تلك المدافن
المراجع
Taylor & Francis, Using Phytolith, Geochemical and Ethnographic Analysis to Inform on Site Construction and Activities in the Neolithic of Southwest Asia: Case Studies from Wadi Faynan 16 and ‘Ain Ghazal, Jordan, 17 Aug 2023
Universes in universe, Ain Ghazal statues
Research Gate, Ain ghazal
Cambridge University Press, ’Ain Ghazal, Jordan
أبو غنيمة، خالد محمود 2009؛ معجم مصطلحات ما قبل التاريخ. جامعة اليرموك : اربد – الأردن
طلفاح، جعفر أحمد 1997، ارضيات القصارة في عمارة عين غزال خلال العصر الحجري الحديث.دراسة تحليلية مقارنة. رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا في جامعة اليرموك، اربد – اليرموك
كراسنة، وجيه 1989 ؛ الأدوات العظمية المصنعة في مواقع عين غزال وبسطة ووادي شعيب في المرحلة «ب» من العصر الحجري الحديث ماقبل الفخاري (دراسة تحليلية). رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا. جامعة اليرموك – اربد
كفافي، زيدان عبد الكافي 1990، الأردن في العصور الحجرية، الأردن : لجنة تاريخ الأردن
كفافي، زيدان 2005 ؛ أصل الحضارات الأولى، الرياض : دار القوافل للنشر والتوزيع
النمري، غسان 2002 ؛ عمان في العصر الحجري الحديث. تحليل بنائي لمنحوتات عين غزال، عمان : أمانة عمان الكبرى
النهار، ميسون 1993 ؛ الحلي في موقعي عين غزال وادي الشعيب في العصر الحجري الحديث. دراسة تصنيفية، تحليلية، مقارنة. رسالة جامعية مقدمة لمعهد الآثار والانثروبولوجيا. جامعة اليرموك – اربد
Banning ,E.B From out Left Field Excavation in the South Field ,Ain Ghazal، Modesty and Patience، ed hans george Kafafi، Gebel* and al – ghual ,Yarmouk university، IRbid ,2009
Rollefson، G, and Leanard ,A. 1982.`Excavations at PPNB ” Ain Ghazal, ADAJ26
Rollefson، G, and simmons ,A.H.1984.`The 1983 Season at “Ain Ghazal ” Preliminary Report. ADAJ 28 : 20
Rollefson، G, and simmons ,A.H.1986.`The 1985 Season at “Ain Ghazal ” Preliminary Report. ADAJ 30
Rollefson، G,kafafi ,z; and simmons ,A.H.1989.`The 1989 Season at “Ain Ghazal ” Aperliminary Report. ADAJ 33
Rollefson ,G. 1992 Neolithic Game Board From ” Ain Ghazal ” Jordan. BASOR 286. 1-5