العماليق الأردنيين، جزء: ٩ – الهكسوس و الفراعنة

لعب الهكسوس دورًا محوريًا في التاريخ القديم، حيث شكّل وجودهم نقطة تحول رئيسية في الجغرافيا السياسية للمنطقة. استند نفوذهم إلى تنظيم عسكري واقتصادي متفوق، امتد من وادي عربة وسيناء إلى مصر، وأسهم في صياغة ملامح التحصينات والهياكل الإدارية. برز الأردن كقاعدة استراتيجية لدعمهم، مما أظهر تداخلًا فريدًا بين التاريخين الأردني والمصري في سياق التحالفات الكبرى


استقر الهكسوس في منطقتين استراتيجيتين قبل دخولهم إلى مصر، وكلتاهما تقعان ضمن أراضي المملكة الأردنية الأدومية، التي لعبت دورًا محوريًا في استعداداتهم العسكرية والتنظيمية. كانت المحطة الأولى لهم في وادي عربة، الذي أصبح ميدانًا رئيسيًا لتدريب جنودهم وصناعة العربات الحربية التي شكلت العمود الفقري لقوتهم العسكرية، وعلى رأسها عربة الملك، التي تعد رمزًا لقوتهم ونفوذهم

وقد ارتبط اسم وادي عربة بهذه الحقبة التاريخية نظرًا للدور الذي لعبته المنطقة في تجهيز جيوش الهكسوس. ومن هذا الموقع، انطلق الهكسوس نحو تحقيق طموحاتهم التوسعية التي بلغت ذروتها بالسيطرة على أجزاء واسعة من مصر القديمة

المحطة الثانية في مسار الأحداث كانت منطقة سيناء، التي عُرفت آنذاك بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها، فضلاً عن مناخها المطير الذي جعلها محطة مهمة على الطريق نحو مصر. في تلك الفترة، كانت سيناء تُعد جزءًا من ولاية “أدومية”، التابعة للمملكة الأدومية الأردنية، وتقع على الجانب الغربي من أراضيها. وقد اتخذها الأدوميون قاعدة في تحركاتهم الاستراتيجية باتجاه مصر، عبر الأدوميون طريقهم إلى مصر مرورًا بـ”وادي الطميلات”، الذي كان يُشكل ممرًا طبيعيًا يسهل التنقل بين سيناء ووادي النيل. هذا الطريق لم يكن مجرد معبر جغرافي، بل كان أيضًا شريانًا حيويًا للتجارة والحملات العسكرية، مما أتاح للأدوميين الوصول إلى مصر واحتلالها في تلك المرحلة التاريخية

الفراغ السياسي في شمال الأردن: صعود مملكة باشان وتأثير الهكسوس

تحرك الهكسوس نحو مصر أدى إلى ترك فراغ سياسي في شمال الأردن، مما أفسح المجال أمام ظهور قوى جديدة لملء هذا الفراغ. ومن بين هذه القوى، برز العماليق، الذين يُشار إليهم كثيرًا في النصوص التوراتية، حيث تمكنوا من استغلال الوضع لتأسيس مملكة باشان. سيطرت هذه المملكة على الأراضي التي كانت تحت نفوذ الهكسوس في شمال الأردن، أو ما يمكن تسميته شمال الديار الثمودية، نسبة إلى الأمة الثمودية التي كانت تشكل النسيج السكاني لتلك المنطقة

كان هذا التحول الجيوسياسي جزءًا من التغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة خلال تلك الفترة، حيث عرفت الأراضي الأردنية صعود ممالك محلية لعبت دورًا مهمًا في تشكيل تاريخ المنطقة، وساهمت في التأثير على مسار الأحداث الإقليمية التي ارتبطت بموجات الهجرة والتحالفات القديمة

يشير تحليل تاريخي قدّمه الباحث الراحل عمر مكحل، في دراسة نُشرت بتاريخ ٢ ديسمبر ٢٠٠٨، إلى دور الهكسوس الذين عاشوا في الأردن في تطوير أنماط حضارية متقدمة مقارنة بالكنعانيين في فلسطين. ووفقًا للمكحل، فقد تفوق الهكسوس على الكنعانيين في مجالات مثل هندسة التحصينات العسكرية، وهو ابتكار ساهم في تعزيز قوتهم الدفاعية والهجومية. كما أظهرت الدراسات أنهم عاشوا حياة اجتماعية منتظمة ومستقرة، تعكس تنظيمًا اجتماعيًا متقدمًا

هذا التفوق الحضاري للهكسوس الأردنيين، وفقًا لما أورده الباحث، يسلط الضوء على الطبيعة العسكرية المتميزة التي ورثها الأردنيون عبر العصور. فالأردن، بموقعه الجغرافي الاستراتيجي، ظل على مرّ التاريخ مركزًا للابتكار العسكري والتنظيم الاجتماعي الذي أثر في مسار الحضارات المجاورة

الهكسوس: التأثير الحضاري والعسكري في مصر وبلاد الشام

في مصر، اشتهر الهكسوس بتخطيط المدن والبلدان بأسلوب منظم ومتميز، وامتدت تأثيراتهم إلى الأردن وبلاد كنعان ومصر. شهدت هذه المناطق ازدهارًا تجاريًا كبيرًا، حيث لعب الساحل الشامي المطل على البحر الأبيض المتوسط دورًا محوريًا في تعزيز التجارة عبر موانئه النشطة. تميز جنوب بلاد كنعان، الذي كان تحت سيطرة المملكة الأردنية الأدومية، بوفرة النشاط التجاري، كما كان شمال بلاد كنعان وجنوب لبنان جزءًا من مملكة الهكسوس قبل أن تنتقل السيطرة إلى خليفتها، مملكة باشان الأردنية

كانت هذه المناطق، بما فيها الأردن، تخضع في البداية لحكم مملكة الهكسوس الأردنية ذات الجذور الثمودية، قبل أن يهاجر الهكسوس لاحقًا إلى مصر. ويُظهر هذا المشهد التاريخي مدى تأثير الهكسوس في تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية في المنطقة، حيث تركوا بصمة واضحة على الأنظمة الإدارية والتجارية التي ساهمت في ربط أجزاء واسعة من الشرق الأدنى ببعضها البعض عبر شبكات تجارة حيوية

الصورة على اليمين: المصريون يضربون جواسيس الشاسو (تفاصيل من نقش على جدار معركة قادش)

الصورة على اليسار: رسم مصري قديم تظهر شاسو
الصورة: نسخة طبق الأصل من نينا دي جاريس ديفيز من مقبرة أنن، متحف متروبوليتان للفنون، نيويورك 

كان الأردنيون في العصور القديمة على درجة عالية من التمدن وتحضر، إلى جانب قوتهم العسكرية ومهاراتهم الحربية التي عُرفوا بها على مر التاريخ. أظهر الأردنيون شجاعة فائقة في الحروب، مقرونة بأخلاقهم العالية وروحهم القيادية، ما جعلهم يحظون بمكانة مرموقة بين شعوب المنطقة

وفي إطار الأحداث التاريخية التي تعكس وحدتهم وقوتهم، اتخذ ملوك الأردن قرارًا جماعيًا بالتحرك نحو مصر، وذلك بعد اجتماع حاسم عُقد في منطقة عابل الزيت والعين البيضاء في جنوب الطفيلة. مثّل هذا الاجتماع نموذجًا للقيادة الموحدة والتنسيق بين الممالك الأردنية، حيث اتفق القادة على هذا القرار الاستراتيجي بما يخدم مصالحهم المشتركة ويعزز نفوذهم الإقليمي، و تبرز هذه الواقعة تاريخ الأردن كأرض للأحداث الكبرى ومهدًا للحضارات، حيث لعب أبناؤها دورًا رياديًا في التاريخ الإقليمي من خلال مزيج فريد من القوة العسكرية والقيم الحضارية

شهد التاريخ دورًا بارزًا للهكسوس في مصر، حيث أسسوا مدنًا محصنة وقلاعًا قوية ساعدت في ترسيخ حكمهم على البلاد. وتميز الهكسوس بابتكار نموذج جديد من التحصينات، يختلف عن الهندسة التقليدية للحصون الكنعانية السائدة آنذاك. جاء هذا التطور نتيجة لإدراكهم الحاجة إلى حماية مركباتهم الحربية، التي كانت جزءًا أساسيًا من تفوقهم العسكري، بالإضافة إلى توفير مأوى آمن للرواحل التي تجرها

وكان الهكسوس الأردنيون متفوقين في هذا المجال، فقد أدخلوا تحسينات فريدة على تصميم الحصون، بحيث شملت منشآت مخصصة للمركبات الحربية ورواحلها، مع أسوار عالية ومحصنة تمنع العبث أو السرقة. لم يقتصر الأمر على حماية المعدات فحسب، بل وفر ذلك تسهيلات عملية لحفظ القوة العسكرية والتنقل السريع. وهكذا، تجاوزت تحصيناتهم التقليد الكنعاني، وبرزت كإضافة استراتيجية ساهمت في تعزيز قوتهم وإبراز تفوقهم الحضاري والعسكري، و تجسد هذه التحصينات إرثًا يعكس فهم الهكسوس العميق للأبعاد العسكرية والإدارية في حكمهم، مما جعلهم أحد القوى المؤثرة في تاريخ مصر القديم والمنطقة المحيطة

لعب وجود الهكسوس في مصر دورًا محوريًا في إحداث تحولات جذرية في طبيعة المجتمع المصري ودوره العسكري. إذ يُعدّ الغزو الهكسوسي أحد العوامل التي دفعت الشعب المصري لأول مرة في تاريخه إلى التحول إلى أمة محاربة تسعى لتحقيق السيادة والحرية. وقد أثارت هذه الحقبة رغبة المصريين في استعادة استقلالهم وتعزيز هويتهم الوطنية، مما أدى إلى توحيد صفوفهم تحت قيادة قوية تمكنت من طرد الهكسوس وإعادة بناء الدولة

ولم تقتصر هذه النهضة على الجانب العسكري، بل انعكست على القيم والمبادئ المجتمعية، حيث برزت مفاهيم مثل الحرية والاستقلال والديمقراطية بشكل أوضح، مع تأكيد على دور المرأة ومكانتها في المجتمع. وهكذا، شكلت تلك الفترة نقطة تحول مهمة في تاريخ مصر القديم، إذ ساعدت في تأسيس هوية وطنية قوية ومجتمع قادر على حماية سيادته والدفاع عن حقوقه

صف من الأسرى المقيدين من مشهد لأمنحتب الثالث وتيي، مع "شاسو" بدوي في أقصى اليسار.
الصورة: نسخة طبق الأصل من نينا دي جاريس ديفيز من مقبرة أنن، متحف متروبوليتان للفنون، نيويورك

الهكسوس: أسرار التحصينات وممالك النفوذ

تميزت التحصينات التي أقامها الهكسوس والثموديون في الأردن بتصميم مبتكر يعكس فهمًا عميقًا لفنون الدفاع والهندسة العسكرية. كانت هذه التحصينات تتألف من سياج مستطيل الشكل يبلغ طوله نحو نصف ميل، تحيط به أسوار عالية وسميكة مصنوعة من الطين المرصوص القاسي، ما منحها متانة وقدرة على تحمل الهجمات. لتعزيز الحماية، كان يتم غالبًا حفر خندق خارجي حول الحصن، يُملأ بالماء، ليشكل حاجزًا إضافيًا يصعّب على الأعداء الاقتراب أو اجتياز الأسوار

وتجسد هذا الطراز الدفاعي في العديد من القلاع الشهيرة في الأردن، مثل قلعة عجلون وقلعة الكرك، حيث نرى آثار تلك الخنادق التي أحاطت بهما، والتي لعبت دورًا حاسمًا في حماية هذه المواقع الاستراتيجية. تعكس هذه التحصينات ليس فقط المهارة الهندسية للأردنيين القدماء، بل أيضًا إدراكهم لأهمية الدفاع عن مدنهم ومواقعهم الحيوية ضد التهديدات الخارجية

ففي حوض نهر الأردن، الذي يُعرف اليوم بشمال فلسطين، توجد مواقع تاريخية هامة مثل هازور، التي تعني “جدار” أو “سياج” في اللغة القديمة، والتي تقع اليوم في تل القدح شمال بحيرة طبريا. كانت هذه المنطقة جزءًا من الأراضي الأردنية حتى عام ١٩٢٤، حينما تنازل رئيس الإدارة الانتدابية في الأردن عن هذه المنطقة لصالح فلسطين بموجب اتفاقات سياسية في تلك الفترة. بالإضافة إلى ذلك، يقع حصن شكيم، الذي يُعرف اليوم بموقع بلاطة بالقرب من نابلس الحديثة، وهو موقع تاريخي يظهر فيه التخطيط الهندسي المستطيل الذي تركه الهكسوس. هذه المواقع تشهد على تاريخ طويل من الحضارات التي مرت على المنطقة، وعلى الدور الاستراتيجي الذي لعبته في العصور القديمة

كانت المنطقة التي يشملها النص جزءًا من مملكة الهكسوس الأردنية، التي امتدت شمال الأردن الحالي، شاملةً مناطق حوران وطبريا وغور الأردن على ضفتيه، بالإضافة إلى شمال بلاد كنعان وجنوب بلاد لبنان. كما ضمت مملكة الهكسوس غور بيسان وحتى مدينة أريحا، وصولًا إلى حدود مملكة بيريا في منطقة الغور. كانت هذه المملكة تمثل دولة قوية، حيث أن الهكسوس أسسوا إمبراطورية ذات تأثير كبير في تلك المناطق، مما جعلها واحدة من القوى البارزة في المنطقة في تلك الحقبة

خنوم مع ساتيس وتحتمس الثالث في إلفنتين، وقد فسر بعض العلماء أحد ألقاب الإله بأنه ضارب الشاسو

كانت مدينة لا كيش، المعروفة حاليًا بتل الحسي، إحدى مدن الهكسوس الأردنيين، وتقع شمال مدينة بئر السبع. في العصر الحديث، أصبحت هذه المنطقة جزءًا من أراضي قبيلة الجبارات، حيث تعد من أملاك الشيخ علي المكحل. وقد تم اكتشاف كتابات قديمة في تل الحسي عام ١٨٩١، مما يؤكد ارتباط هذا الموقع بحضارة الهكسوس

أما مدينة شاروحين، الواقعة في تل الفارعة شمال غرب مدينة بئر السبع، فهي أيضًا من المدن التي كانت تحت حكم الهكسوس الأردنيين

وبالنسبة لمدينة أريحا، فقد كانت واحدة من حصون الهكسوس بين عامي ١٧٥٠ و ١٦٠٠ قبل الميلاد. وبعد هذه الفترة، عادت المدينة إلى حضن المملكة الأم، وهي مملكة بيريا الأردنية، التي كانت تتمتع بنفوذ قوي في المنطقة

كانت “بيت شمش”، التي تقع في قرية وخربة عين شمس غرب القدس وعلى بعد عشرين ميلاً منها على طريق يافا – الخليل، تحت إدارة الهكسوس في تلك الفترة. تعد هذه المنطقة إحدى البراهين على قوة مملكة العماليق/الهكسوس في الأردن قبل تحركهم إلى مصر، حيث امتدت سيطرتهم على أراضٍ واسعة من الأردن والكنعانيّة. يشير ذلك إلى سعة نفوذهم وتنوع مصادر قوتهم، مما ساهم في ازدهار مملكتهم. وكان يُطلق عليهم اسم “الشاسو”، وهو مصطلح يعني “شعب الأرض الواسعة” أو “الشاسعة”، في إشارة إلى اتساع أراضيهم وامتدادها عبر مناطق متنوعة، مما يعكس مدى قوتهم وتأثيرهم في المنطقة

فترة الهكسوس في مصر: غزو، تأثيرات ثقافية وصراع من أجل التحرر

بدأ الهكسوس، في التسلل تدريجيًا إلى مصر بطرق هادئة وغير مباشرة، حيث بدأ أثرهم يظهر في مصر منذ حوالي عام ١٩٠٠ قبل الميلاد، خلال منتصف السلالة الثانية عشرة. رغم هذا التسلل البطيء، لم يتمكن الهكسوس من الاستيلاء على السلطة في مصر إلا في حوالي عام ١٧٣٠ قبل الميلاد. وقد شكلوا تهديدًا حقيقيًا للحكم المصري في تلك الفترة، حتى تمكنوا في النهاية من فرض سيطرتهم على جزء كبير من الأراضي المصرية، مؤسسين ما يُعرف بفترة الهكسوس

يعد المؤرخ المصري مانيتو، الذي عاش في فترة حكم بطليموس الأول (٣٠٥-٢٨٥ قبل الميلاد)، واحداً من أبرز الكتاب الذين سجلوا تاريخ مصر القديمة. وعلى الرغم من أهميته الكبيرة في توثيق الأحداث التاريخية، فإن اسمه لا يزال مجهولًا بالنسبة للكثير من المصريين. يعتبر مانيتو من أوائل المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ مصر باللغة اليونانية، وقد تمثل عمله في سرد تاريخ وطنه مصر بأسلوب سردي دقيق، حيث كان أيضًا كاهنًا في معبد سمنوّه

ومع ذلك، فإن مانيتو لم ينصف العرب القدماء والعمالقة في كتاباته، بل اعتبرهم غرباء محتلين وأعداء، رغم أن هؤلاء قد جلبوا العديد من العناصر الحضارية إلى مصر في فترات حكمهم. في روايته حول الاحتلال الهكسوسي لمصر، وصف مانيتو هذا الحدث بشكل يبعث على الانزعاج، حيث ذكر: “لقد نزلت علينا لفحة من غضب الله”، مشيرًا إلى ما اعتبره تهديدًا للأمة المصرية من قبل هؤلاء القادمين من الأراضي الأردنية

على الرغم من رؤيته السلبية تجاه الهكسوس والعرب القدماء، يبقى مانيتو أحد المصادر الرئيسية لفهم تاريخ مصر في العصور القديمة، مما يعكس في الوقت نفسه التوترات الثقافية والسياسية التي شهدتها المنطقة في تلك الحقبة الزمنية

و يذكر أن أقدم مؤلف علمي وصلنا يعود إلى عهد الهكسوس في مصر خلال القرن السابع عشر قبل الميلاد. كانت هذه الحقبة ذات أهمية كبيرة في تطور العلوم والمعرفة، حيث قدم الهكسوس أعظم مساهمة في فهم الرياضيات المصرية، إذ تم وضع أحد أبرز مؤلفات الرياضيات في عام ١٥٨٠ قبل الميلاد خلال فترة حكمهم. وقد نقل الهكسوس العديد من المعتقدات والممارسات الثقافية معهم من الأردن إلى مصر، ومن أبرزها عبادة الإله بعل، الذي كان معبودًا في الأردن من قبل المؤابيين والأدوميين، بالإضافة إلى الهكسوس أنفسهم خلال وجودهم في الأراضي الأردنية قبل انتقالهم إلى مصر

وقد جعل الهكسوس إلههم بعل معادلاً للإله المصري سيت، واستمروا في ممارسة هذه العبادة بعد انتقالهم إلى مصر، حيث تبنَاها الفراعنة من السلالات التالية، خاصة في عهد الرعامسة. يعد فرعون التسخير (الذي استبعد بني إسرائيل)، أحد أبرز الشخصيات في هذا السياق، بالإضافة إلى فرعون الخروج، الذي خرج زمنه بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام. يُذكر أن الهكسوس، الذين حكموا مصر في السلالات الخامسة عشرة والسادسة عشرة، ويعتبرون من أعظم حكام مصر في تلك الفترات

بعد قرون ونصف من حكم الهكسوس لمصر، بدءًا من عام ١٥٨٠ قبل الميلاد، بدأ المصريون حرب تحرير حقيقية ضدهم بقيادة أمير طيبة أحمس الأول، الذي أصبح لاحقًا مؤسس السلالة الثامنة عشر من فراعنة مصر. كانت هذه الحرب نقطة فارقة في تاريخ مصر القديمة، حيث تمكن أحمس الأول من هزيمة الهكسوس وطردهم من الأراضي المصرية، مما مهد الطريق لعودة الاستقرار والسيطرة المصرية على البلاد

الصورة على اليمين: سجين شاسو كما صور في نقوش رمسيس الثالث في مدينة هابو
الصورة  على اليسار: سيتي الأول يقاتل شعب الشاسو في مشهد من الكرنك

توجد رواية تاريخية تشير إلى أن الشاسو، أو الهكسوس، قد حكموا مصر خلال فترة تمتد من أوائل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد حتى أوائل القرن الثامن عشر قبل الميلاد(٢٢١٤-١٧٠٣ قبل الميلاد). ومع ذلك، يستنتج عالم الآثار السير فلندرز بتري من الدراسات والآثار التي عثر عليها أن فترة حكم الهكسوس كانت بين ٢٠٩٨ و ١٥٨٧ قبل الميلاد, كان الهكسوس معروفين بشجاعتهم وقسوتهم، وهي صفات تشابهت مع خصال سكان البادية الأردنية في تلك الفترة. وقد استغل الفراعنة قوتهم في الحروب الداخلية، حيث كان الفراعنة يتعاونون مع الهكسوس في صراعاتهم ضد بعضهم البعض

من خلال دراسة الأحداث التاريخية، يتضح أن تسلل الهكسوس إلى الأراضي الأردنية استغرق فترة طويلة، حيث مروا بمرحلة معقدة من إعادة التأهيل التي مكنت لهم الاندماج تدريجيًا مع المجتمع المصري. وقد حظي الهكسوس بحماية الممالك الأردنية التي شكلت لهم ملاذًا آمنًا، مما سهل لهم الانتقال إلى مصر التي كانت تمتاز بالخصب والموارد الوفيرة، ما جعلها أرضًا قابلة لحكم الأجانب

إدراكًا للمخاطر المحتملة، قرر الملوك الأردنيون تكليف الهكسوس بمهمة السيطرة على مصر، وهي خطوة استراتيجية تهدف إلى غلق بوابة مصر التي كان الفراعنة يستخدمونها للعبور نحو الأردن وشن الهجمات على الممالك الأردنية. وبذلك، رأى الملوك الأردنيون أن أفضل وسيلة للدفاع عن أراضيهم هي الهجوم، مما دفعهم إلى استخدام الهكسوس كأداة في معركتهم ضد تهديدات الفراعنة، وتحقيق
التوازن الإقليمي

سجناء الشاسو يتعرضون للضرب في مشهد من أبو سمبل، رسمه إيبوليتو روسيليني.
الصورة: روسيليني(١٨٣٢-١٨٤٤) في نصب مصر و النوبة

ففي فترة تاريخية مهمة، شكل ملوك مصر تهديدًا للحدود الشرقية، مما دفع ملوك الأردن إلى اتخاذ خطوات استباقية لحماية مملكتهم. فقرّروا عقد مؤتمر يجمعهم لدعم الهكسوس، الذين كانوا في طريقهم إلى مصر للاستيلاء عليها، ليجعلوا منها جبهة صديقة لهم. وقد وجد الهكسوس في عبورهم عبر الممالك الأردنية، بدءًا من الشمال وصولًا إلى الجنوب عبر ممالك عمون، وبيريا، ومؤاب، وأدوم، كل الدعم والتسهيلات اللازمة، حيث سهلوا لهم عبور أراضيهم بشكل كبير، فانضم الكثير من أبناء الممالك الأردنية إلى الهكسوس في مسيرتهم، إما كمحاربين أو كمهاجرين، حيث كانت هجرة كاملة لشعب بأسره، مشابهة لتلك التي حدثت لليمنيين بعد انهيار سد مأرب. وبالاستقرار في مصر، أصبح الهكسوس جزءًا من المجتمع المصري، ولم ينفذوا أي حركات عسكرية ضد الأردنيين. بل على العكس، ساهموا في تسهيل دخول الأردنيين إلى الأراضي المصرية، حيث سمح لهم بممارسة الرعي في المنطقة الشرقية، بما في ذلك نهر النيل والدلتا، مما أرسى نوعًا من التعاون المشترك بين الطرفين

استمر حكم الهكسوس، وهم قبائل ثمودية عملاقة، على مصر حتى ظهر أحمس، أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة، الذي حكم بين عامي ١٥٩٠ و ١٥٤٥ قبل الميلاد. يُعتبر أحمس البطل الثالث في معركة التحرير من سيطرة الهكسوس على مصر، حيث قاد حملة ناجحة لتحرير البلاد. بدأ أحمس حملته العسكرية بهجوم على عاصمتهم “أورايس”، ثم شَنَّ هجومًا مكثفًا على آخر معاقلهم في منطقة “شاروحين”، الواقعة بالقرب من العريش في شمال سيناء (تل الفارعة شمال غرب مدينة بئر السبع). استمر الحصار لمدة ثلاث سنوات، ليتمكن في النهاية من طرد الهكسوس وعودة السيادة المصرية على أراضيها

و هناك في الأردن بدأ الصدام الحقيقي بين اليهود والعماليق الأدوميين الثموديين خلال المرحلة الأولى من تاريخهم، وذلك بعد خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونية. في تلك الفترة، كانت المملكة الأردنية الأدومية تحت حكم الملك حدد بن بدد، الذي كانت أراضيه تشمل منطقة سيناء. نشأ هذا الصدام في إطارين مختلفين: الأول كان إطار التبعية الجغرافية والاجتماعية والدينية، حيث تمتع بني إسرائيل بحرية العبادة في الأراضي الأدومية، في حين كان الإطار الثاني يتعلق بالإدارة الثنائية التي جمعت بين الملك الأدومي حدد بن بدد والفرعون رمسيس الثاني (الذي عرف بلقب فرعون التسخير) وابنه مرنبتاح (الذي عرف بفرعون الخروج)

كانت هذه الفترة مرحلة حرجة بين اليهود والأدوميين، حيث شهدت المملكة الأردنية الأدومية تفاعلات مع مصر القديمة في سياق سياسي معقد، تراوحت بين التعاون والصدام، ما أثر في تطور العلاقات بين الأطراف المختلفة في المنطقة،و تذكر التوراة أن العمالقة، الذين وصفهم القرآن الكريم بـ “القوم الجبارين”، كانوا شعبًا أردنيًا أدوميًا، استوطنوا في الجزء الغربي من المملكة الأدومية الأردنية، في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سيناء الأدومية، بالقرب من البحر الأبيض المتوسط. وقد تعرض بني إسرائيل للهجوم من قبل هؤلاء العمالقة المنهكين عند خروجهم من مصر، حيث تمكنوا من أسر جميع مقاتليهم

ويرجح أن هذا الهجوم كان أحد الأسباب التي أدت إلى الكراهية الشديدة التي أظهرها المؤرخون اليهود والمستشرقون تجاه العمالقة، حيث وصفوهم بالهمجية ولقبوهم بـ “ملوك الرعاة” أو “الهكسوس”، في محاولة لتشويه صورتهم في التاريخ. هذا التحريف التاريخي يعكس الحقد الذي كان يكنه هؤلاء المؤرخون تجاه العمالقة، وأيضا من قبيل التنافس والصراع الطويل بين اليهود وغيرهم من الشعوب في المنطقة


مراجع

د . احمد عويدي العبادي, الهكسوس و الفراعنة
The PastThe Shasu and Egypt
WikipediaShasu

Previous:
العماليق الأردنيين، جزء: ٨ – الهكسوس الثموديين وعلاقاتهم بالمؤابيين الأردنيين
Next:
العماليق الأردنيين، جزء: ١١– المزيد من البراهين التاريخية على أن الشاسو هم أردنيون