المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١١ – أول جامعة للعلوم البحرية ولبناء السفن في العالم
يعد الملك حدد بن بدد أحد أبرز القادة الأردنيين الأدوميين الذين أسهموا في تطوير علوم الملاحة والهندسة البحرية في العالم القديم. شهدت مملكته ازدهارًا علميًا وعسكريًا، حيث أسس أول جامعة بحرية، وابتكر نهجًا سياسيًا فريدًا قائمًا على الحكمة والحزم. انعكس هذا التقدم على العلاقات الدولية لمملكته، وعلى قوتها البحرية التي فرضت سيطرتها على أهم المسطحات المائية
بنى الملك حدد بن بدد أول جامعة متخصصة في تعليم الملاحة, العلوم البحرية ولبناء السفن في العالم، بالإضافة إلى بناء السفن والقوارب والمعديات. كانت هذه الجامعة الأدومية الأردنية تستقطب طلابًا من مختلف الحضارات، بما في ذلك الفينيقيين، والمصريين الفراعنة، وسكان اليمن، والحبشة، وبلاد الرافدين، فضلًا عن القاطنين على سواحل البحرين الأبيض والأحمر وبحر العرب. أسهم هذا الانفتاح في تعزيز الوئام بين الملك حدد وملوك تلك البلدان، كما أدى إلى تقوية الروابط بين الأدوميين الأردنيين والشعوب الأخرى، مثل الثموديين والحبشيين والزنج، مما جعل المملكة بيئة حاضنة لمختلف الثقافات، وساهم في اختفاء العداوات ضد الملك حدد ومملكته. وهكذا، كان الملك حدد أول من ابتكر هذا النهج في العالم
وقد أبدع الأدوميون في صناعة السفن، كما برع إخوانهم الهكسوس الثموديون في تصميم العربات الحربية البرية، وتطوير أسلحة القتال لراكبي العربات، إلى جانب ابتكار عربات النقل التي تجرها الخيول. وقد مكنتهم هذه التقنيات العسكرية المتطورة من السيطرة على مصر، نظرًا لحداثتها وتفوقها على الأسلحة المستخدمة من قبل الفراعنة في ذلك الوقت، ما يعد دليلًا على تقدم الأردنيين وسبقهم في الإبداع العسكري والتكنولوجي
وتعد المنطقة الجغرافية التي تقع فيها مملكة أدوم من أغنى المناطق الطبيعية التي ساعدت في تطور صناعاتها البحرية. فقد كان وادي عربة مليئًا بالأشجار التي استخدمت في صناعة السفن، مثل أشجار التوت والبلوط والعرعر، كما كان يتم استيراد أخشاب الأرز من جبل لبنان لتعزيز صناعة السفن. إضافة إلى ذلك، كانت المنطقة غنية بالموارد الأخرى مثل النحاس والحديد والقار المستخرج من البحر الميت، مما ساهم في دعم الأنشطة الصناعية المتعلقة ببناء السفن والعربات الحربية
وبأمر من ملوك الأردن، قام الهكسوس الأردنيون ببناء عربات جيشهم في وادي العربة، حيث كانت الغابات الكثيفة تمتد فيه وفي الجبال الأدومية المجاورة شرقًا وغربًا. لهذا السبب، أطلق عليه اسم “وادي العربة”، أي المكان الذي شهد صناعة العربة الملكية وسائر العربات العسكرية والمدنية التي كانت تُجرّ بالخيول. وقد كان يُعرف سابقًا باسم “وادي الريَّان”، نظرًا لكونه واحة خضراء تزخر بالمزارع والحدائق الغنّاء، وتنبض بالحياة بفضل ينابيعها المتدفقة في كل مكان
وانطلقت الرحلة من منطقة تعرف الآن باسم “أقطر”، شمال العقبة في وادي عربة، حيث كان ذلك مركز تجمع الجيش قبل انطلاقه. ورافق وداعه ملك أدوم وقادة جيشه وكبار رجال دولته، إذ كانت أراضي وادي عربة وخليج العقبة وسيناء وسواحل البحر الأبيض المتوسط بأكملها جزءًا من المملكة الأردنية الأدومية. كما أن سيناء وسواحلها المطلة على البحرين الأبيض والأحمر كانت ضمن أراضي أدوم الأردنية أيضًا
قاد ملك الهكسوس جيشه في مقدمة شعبه، تحيط به مواكب من رجاله وجيشه، برفقة أدلاء من قادة وجنود المملكة الأدومية، بالإضافة إلى قطاعات من الجيوش الأردنية، بما فيها القوات الأدومية. وتبعهم طابور طويل يضم آلاف العربات المحملة بالجنود والمدنيين ومؤنهم، تجرها الخيول والبغال، بينما رافقتها قوافل الجمال وسائر أنواع الماشية
أما الأدوميون، فقد أبدعوا في تطوير هندسة وبناء السفن، بما يتناسب مع مهاراتهم وإمكاناتهم الفنية، ويتماشى مع حاجاتهم المتجددة. استندت تصاميمهم إلى خبراتهم في مواجهة الرياح والأمواج، مما منحهم تفوقًا على مختلف الأساطيل البحرية في جميع الظروف، ليس فقط استنادًا إلى حركة الرياح، بل وفقًا لمتطلبات توسعهم البحري في المسطحات المائية الكبرى، مثل بحر الظلمات، بحر العرب، والبحر الأدومي (البحر الأحمر). كما صنعوا سفنًا مخصصة للرحلات الطويلة التي تدوم لأشهر، مزودة بمخازن للأسلحة والطعام، وخزانات لمياه الشرب والاستخدامات الأخرى، إلى جانب أشرعة احتياطية، وثكنات للجنود، ومرافق صحية، بالإضافة إلى أدوات الملاحة مثل البوصلة بدائية”، ومراصد النجوم، وأنظمة رصد المد والجزر، واتجاهات الرياح والتيارات البحرية”
توسع جامعة العلوم البحرية ودورها في تدريب الفينيقيين والمصريين
واستمرارًا لتميزهم في مجال الملاحة، قام الأدوميون بتوسيع جامعة العلوم البحرية في عصيون جابر، حيث استقطبت الطلاب من مختلف الحضارات والممالك، بما في ذلك الفينيقيين والمصريين، لتعليمهم فنون الملاحة البحرية. هذه الجامعة أصبحت مركزًا بارزًا في العالم القديم لتعليم الطلاب على تقنيات الملاحة وصناعة السفن. الفينيقيون على وجه الخصوص استفادوا بشكل كبير من هذه الجامعة حيث بدأوا في بناء سفن مخصصة لاكتشاف العالم الجديد والرحلات التجارية، بموافقة الأدوميين الذين كانوا يدربونهم على تقنيات جديدة للملاحة عبر المحيط الأطلسي وبحر العرب
وقد أولى الملك حدد اهتمامًا بالغًا بهذه الجامعة حتى أصبحت منارة علمية بارزة في العالم القديم. ومن أجل بسط السيطرة على البحار، أنشأ الأدوميون قوة تفتيش بحرية، حيث كانت سفنهم تجوب أعماق البحر وقناة البحرين، مانعةً أي سفينة غريبة من الإبحار أو دخول المياه الإقليمية الأدومية
وقد شهد الأسطول البحري الأدومي ازدهارًا كبيرًا في عهد الملك حدد بن بدد، حيث تضاعفت قوته مرات عديدة، حتى أصبح أقوى أسطول بحري في البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، وبحر العرب. وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة الكهف
أَمَا السَفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا” (الكهف: ٧٩)”
التعاون البحري بين الأدوميين والفينيقيين وتبادل القطاعات البحرية
شهدت العلاقات بين الأدوميين والفينيقيين تعاونًا ملحوظًا في المجال البحري. فقد تبادل الطرفان الخبرات البحرية والتقنيات المتعلقة بصناعة السفن والملاحة، كما قاموا بتبادل القطاعات البحرية لتعزيز التعاون بينهما. الفينيقيون، الذين كانوا يحتاجون إلى سفن متطورة لاستكشاف الأراضي البعيدة، استفادوا من هذه الشراكة مع الأدوميين لبناء سفن جديدة، كما حصلوا على تدريب متخصص في عصيون جابر. من جانبهم، قام الأدوميون بنقل قسم من قواتهم البحرية إلى البحر الأبيض المتوسط كملاذ آمن في حال تعرضهم لخطر من جانب الفراعنة أو أي تهديد آخر
موقع عصيون جابر الإستراتيجي ودوره في صناعة السفن
تمكنت مملكة أدوم من استغلال موقعها الجغرافي المتميز لتطوير قاعدة بحرية استراتيجية في منطقة عصيون جابر على البحر الأحمر. كان هذا الموقع بعيدًا قليلاً عن البحر، ما ساعد على تأمين الحماية اللازمة ضد الهجمات المفاجئة سواء من الأعداء أو الأمواج العاتية. تمتاز المنطقة بتحصين طبيعي حيث كان الميناء الذي أُقيم بالقرب من قناة البحرين يشكل مركزًا هامًا لصناعة السفن وصيانتها. كان الحوض الجاف الذي أنشأه الأدوميون في هذا الموقع متعدد الاستخدامات، كما كان يتيح للميناء الحماية اللازمة من الأعداء، حيث كان أي مهاجم مضطراً لعبور القناة قبل أن يصل إلى الميناء، مما منح الفرصة للدفاع عن الميناء بشكل فعال
إستراتيجية الطلاء والتمويه للسفن واستخدامها في البحر
كان الأدوميون يبدعون في العديد من الجوانب البحرية، ومن بينها الطلاء المميز لسفنهم، حيث كانوا يطليّون السفن المعادية بعد إعادتها إلى الخدمة بألوان مبتكرة تشمل الأرجواني، الأبيض، الأسود والأخضر، وذلك بهدف التمويه والتخفي عن أنظار الأعداء. علاوة على ذلك، كان الأدوميون يستعيدون السفن المعادية ويحوّلونها إلى جزء من أسطولهم البحري، ما عزز قوتهم في السيطرة على المسطحات المائية المجاورة. كما كانت السفن الأدومية تتمتع بتصاميم مميزة تتناسب مع مهامها العسكرية والمدنية، وتُستخدم بشكل متنوع سواء في الحروب أو لأغراض تجارية ونقل الركاب والموارد
الجانب السياسي للملك حدد بن بدد
اتبع الأدوميون، وخصوصًا في عهد الملك حدد بن بدد، سياسة حكيمة قائمة على حسن الجوار وكسب الأصدقاء، متبنين مبدأ “صفر عداوة وصفر مشاكل”. كما اعتمدوا نهجًا سياسيًا يجمع بين الحلم والحزم، إضافة إلى مبدأ “عين الرضا لضبط عين الغضب”، إلى جانب العديد من الأسس السياسية الأخرى
كان الملك حدد بن بدد أول من ابتكر هذه النظريات السياسية وطبقها بفعالية في حكمه، سواء في علاقاته مع شعبه أو مع الممالك الأردنية الأخرى. وقد شكّلت هذه المبادئ منهجًا ثابتًا في تعامله مع الداخل والخارج، حيث انتهج أسلوب التفاوض المدعوم بالقوة، والحلم المقرون بالحزم في التعامل مع الإسرائيليين. فإن التزموا بالسلم، تركهم وشأنهم، وإلا كان السيف هو الفيصل
بفضل هذه السياسة الحكيمة، حرص الملك حدد على التنسيق المستمر مع الدول المجاورة والبحرية، وسعى لتحويل الأعداء إلى أصدقاء كما فعل مع الفينيقيين وملك الكنعانيين، أو إلى حلفاء كما كان الحال مع الفراعنة قبل الغرق والخروج. كما عمل على تعزيز العلاقات مع الممالك الثمودية في الأردن، مثل المؤابية، العمونية، العمورية، الباشانية، بيريا، وبلعام، إضافة إلى ممالك شمال جزيرة العرب الثمودية والفينيقيين، الذين كانوا يشكلون قوة بحرية مؤثرة
تميّز الملك حدد بن بدد بذكائه السياسي وحنكته الدبلوماسية، فعقد معاهدات مع الأمم والدول لتجنب الحروب وتقليل تكلفتها. ومن تجليات هذا النهج السياسي الاتفاقية التي وُقعت بين النبي موسى عليه السلام – بصفته ممثلًا لبني إسرائيل – والملك حدد بن بدد، ممثلًا للأمة الثمودية الأردنية والأدوميين. وكانت هذه الاتفاقية، وفقًا لمجريات الأحداث، مذلّة ومهينة للإسرائيليين
صناعة الحرير والشماغ الأردني كجزء من الهوية الأدومية
تُظهر الأدلة التاريخية أن أدوم كانت من أولى الممالك و المجتمعات التي اهتمت بصناعة الحرير بشكل واسع. في عهد الملك حدد بن بدد، ازدهرت هذه الصناعة بشكل كبير، حيث تم تصنيع الشماغات الأردنية الشهيرة في قرية شمّاخ، والتي كانت تقع في جبال الشوبك. من الجدير بالذكر أن الشماغ كان يُصدر إلى العديد من البلدان مثل بلاد الرافدين، حيث كان يشير في اللغة السومرية إلى غطاء الرأس. تعدّ هذه الصناعة جزءًا من الهوية الثقافية والوطنية للأردن، حيث كانت تمثل رمزًا للشموخ والفخر
المراجع
د . احمد عويدي العبادي, اول جامعة للعلوم البحرية في العالم هي اردنية بناها الملك حدد بن بدد
د . احمد عويدي العبادي, المملكة الأردنية الأدومية, ، عمان، الأردن