المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١٤ – إصلاحات الملك حدد بن بدد وانجازاته وقناة البحرين
الملك حدد بن بدد كان مثالًا للحكمة والوطنيات، حيث استطاع أن يحافظ على ازدهار مملكته ويحقق تطورًا اقتصاديًا ملحوظًا. من أبرز إنجازاته قناة البحرين التي ربطت البحر الأحمر بالبحر الميت، مما سهل حركة التجارة والنقل بين المناطق. بالإضافة إلى ذلك، كانت مواقفه الحاسمة في مواجهة بني إسرائيل وسعيه المستمر للدفاع عن مملكته ورفاهية شعبه
كان الملك حدد بن بدد في منتهى الوطنية والذكاء والشجاعة والبراعة والدهاء، والقدرة على الحزم والحلم معًا، والمرونة والصلابة مقترنتين، والمحافظة على توازنه داخليًا وخارجيًا، في أحلك الظروف حتى مع أعدائه بني إسرائيل وموسى عليه السلام. ومع أصدقائه وحلفائه: الفراعنة، والمديانيين، والمؤابيين، والكنعانيين، ومع تعدد وتباين العقائد لدى رعيته
الملك حدد عزز التحالف مع الفراعنة، واستفاد من ذلك أيّما فائدة في زمنهم وبعد غرقهم، حيث استحوذ على مخلفاتهم وممتلكاتهم، من الأسطول والقلاع والجنود والكنوز، بعد غرق الفرعون في مياه ذراع السويس المجاور لمملكة حدد الأدومية. وكان الملك حدد بن بدد يقدم التحالف والصداقة على العداوة، ويؤثر المصلحة على الصراع، ويقدم المصير على العاطفة والحب. وكان يهتم ببلده ورفاهية شعبه، وازدهار مملكته، وأمنها وبنائها وهيبتها في الخارج
وقد توسعت مملكته في زمنه، حيث شدد قبضته على أطراف المملكة لتصل إلى شواطئ وموانئ البحر الأبيض المتوسط، وتهيمن على البحر الأدومي برمته وهو البحر الأحمر
الملك حدد بن بدد استغل كثرة الأخشاب في غابات بلاده، والمنتجات الزراعية والطبيعية في بلاد أدوم الأردنية، وكان وادي العربة زمنه يعج بغابات الأشجار، والنباتات العطرية والطبية، والأحجار الكريمة، ومعادن الذهب والنحاس والحديد والمنغنيز، فضلاً عن القار والزفت والملح في جنوب البحر الميت، وكلها زادت من ثروة مملكته، وصار يصدر هذه المنتجات إلى الخارج. وكان يفرق بين الحرب والعداوة من جهة، والتجارة من جهة أخرى. فاستمرت تجارة بلاده حتى زمن الحرب، فالحرب شيء، والتجارة وازدهار بلاده ورفاهية شعبه شيء آخر
فقد كان عدواً لموسى وبني إسرائيل، ومحارباً لهم، ورافضاً لوجودهم ومخططاتهم، لكنه باعهم الطعام والمنتجات والمعادن، وبخاصة النحاس، مقابل ما كانوا يدفعونه من النقود المصرية الذهبية، ومن الكنوز التي نهبوها أو استعاروها من المصريين، حيث انتهت إلى جيوب وخزائن الأدوميين
الملك حدد بن بدد لم يكن فاسداً، بل كان مهتماً ببلده وشعبه، ولم يبن القصور لنفسه، ولم نعثر له على قصور، ولم يأمر الناس بعبادته، بل أمرهم بحب وطنهم، وعبادة من يشاؤون، ولم يتدخل في الحريات الشخصية والدينية والعلاقات الاجتماعية، ولم يسمح لأسرته أن تنهب البلاد، كما أن أسرته لم تحمل ألقاباً ملكية
ولم تكن له طغمة حاكمة ولا بطانة فاسدة، ولم يكن جباراً في الأرض، بل كان يشاور الملوك الأدوميين والملأ من القوم، فصارت قراراته تعبر عن إرادة الجميع، وبدعم الجميع، وكان محبوباً, وقد كرس هذا المنهج السياسي من الديمقراطية وحب الوطن والحفاظ على مقدرات ومنجزات الوطن، وبقيت هذه سنة الملوك الأدوميين من بعده
قناة البحرين الأردنية / قناة حدد بن بدد
قناة الملك حدد بن بدد هي ممر مائي تاريخي كان يربط البحر الأحمر بالبحر الميت. ينسب هذا المشروع إلى الملك الأدومي الأردني حدد بن بدد، ملك مملكة أدوم القديمة. فقد قام الملك حدد بتوسيع واستكمال هذه القناة لتعزيز التجارة والملاحة بين البحرين. يشار إلى أن هذا المشروع يعتبر إنجازًا هندسيًا بارزًا في ذلك الوقت، حيث إن الدول الحديثة، رغم تقنياتها المتقدمة، تجد صعوبة في إعادة حفر أو فتح مثل هذه القناة
وكانت المملكة الأردنية الحورية، وهي دولة العماليق، قد شقت جزءًا كبيرًا من القناة، في محاولة لإيصال البحرين معًا، إلا أن تباين مستوى ارتفاع الأرض بين البحرين أوقفهم عند الحد الذي تحولت فيه قناة البحرين إلى ذراع بحري للبحر الأحمر، ولكن الملك العظيم المؤسس حدد وسعها وعمل لها الصيانة اللازمة وسميت باسمه، أي قناة الملك حدد بن بدد
كانت القناة تسلك طريقًا متعرجًا حسب الارتفاعات وسهولة الحفر، وكانت مشروعًا وطنيًا أردنيًا شارك فيه الشعب الأدومي ومعه الشعب المؤابي كليهما، بما فيهم أهل مدين، وأهل مملكة بيريا الأردنية، لأنه كان يخدم الجميع ويسهل وصول البضائع إلى منطقة الكرك في جنوب البحر الميت، ويسهل تصدير بضائع وإنتاج هذه الممالك الأردنية إلى مصر وبلاد كنعان ودول حوض البحر الكبير، وهو البحر الأبيض المتوسط، وإلى سواحل إفريقيا
صورة تصورية للقناة التاريخية للملك حدد بن بدد: شريان التجارة القديمة بين البحر الأحمر والبحر الميت
كما ساهمت القناة في ازدهار الزراعة والرعاية والتجارة والصناعة والحياة الاجتماعية في وادي العربة، وغور المزرعة وفيفة، بسبب سهولة التصدير، ونقل الإنتاج، وسهولة وصول العمال، وتوفر المراعي وازدهار الحياة الرعوية أيضًا، بسبب توفر الأعلاف والمراعي، والحظائر الآمنة، والبساتين المروية من ينابيع الأرض، ومياه السيول النابعة من الجبال الشرقية والغربية لوادي العربة، التي كانت متوفرة وبقي منها قليل تم جفافه بعد ١٩٢١م
وكانت كلها (وادي العربة شرقيه وغربيه) أراضي أدومية أردنية في الضفتين الشرقية والغربية لوادي العربة، هذا فضلًا عن المياه القادمة من السيول والينابيع النابعة من جبال الشراة. حيث أقامت المملكة الأدومية، ومن قبلها الحورية، سدودًا لجمع وتخزين الماء، وقد كان يتم توسيعها وصيانتها من حين إلى آخر لتلبية حاجات التوسع في الزراعة، وبخاصة زمن الأنباط، حيث تم توسيعها وتطويرها، وقامت عليها ولا زالت البساتين
لقد تأثرت القناة بتراكم الرمال والرياح وتأثيرات التصحر والتغيرات العامة في سطح الوادي في عدة مواقع. ومع ذلك، تم صيانتها وتوسيعها في فترة الدولة الأدومية بشكل عام، وبجهود الملك حدد وسلفه الملك حوشام بشكل خاص. استمرت القناة لأكثر من خمسمائة سنة بعد عهدهم، وكانت تستخدم في صيد السمك كما ورد في القرآن الكريم
قال تعالى: “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ” (الأعراف ١٦٣)
وبناءً على ذلك فقد قامت الدولة الأدومية، باعتماد واستخدام هذه القناة، لنقل الإنتاج من الملح والقار والأعشاب العطرية والطبية والمعادن والأخشاب والحرير من البحر الميت ووادي العربة، في قوارب كبيرة، وهي أحمال يتعذر نقلها على الدواب، ويسهل نقلها في القوارب، حيث تحتاج إلى كثير من الدواب لحمل المنتجات بينما تؤدي القوارب هذه المهمات في وقت أقل وأقصر وأسرع، وبحمولة أكبر وأكثر, وكانت بضاعة إنتاج البحر الميت يجري نقلها على الدواب من الإبل والبغال والحمير إلى نهاية ذراع القناة، ثم يتم وضعها في القوارب إلى ميناء عصيون جابر
كانت منتجات البحر الميت، ومفرزاته مطلوبة لمزارع وحاجات الدولة الأدومية الأردنية، وللمصريين وبلاد كنعان من الملح والقار واللقاح. وحيث ازدهرت التجارة زمن حدد بن بدد ومن قبله، حيث كان وادي العربة والبحر الميت يشكلان أهم المصادر الطبيعية للدخل الوطني للدولة، وهو ما كان عليه الحال زمن الدولة الحورية الأردنية قبل قيام الأدومية
كما وفرت القناة ثروة سمكية للسكان في جانبي وادي العربة، وللعابرين في الاستراحات والمحطات التي كانت تنتشر على ضفاف القناة، التي كانت تصب بها الينابيع من ضفتي الوادي من جبال الشراة الشرقية وجبال الغرب، حيث كانت الأسماك تأتي من البحر الأحمر في المياه التي يستطيع السمك العيش فيها ويتحملها، وهي ملوحة البحر الأحمر
ولم تصلها ملوحة البحر الميت الذي كان يسمى البحر المالح، وكان غوره يسمى الوادي المالح، بينما كان بقية الوادي يسمى وادي العربة بأقسامه التي تبدأ مما يسمى الآن غور المزرعة وغور فيفة (من أغوار الكرك) إلى أن يصل شاطئ البحر الأحمر، وتشمل موقع إقط
وكان السمك يجد غذاءه في القناة، وكانت ظروف تكاثره موائمة بشكل آمن، مما وفر ثروة سمكية هائلة. كما أن السمك المجفف كان يستخدم علفًا للمواشي، وسمادًا للمزروعات، وكان يتم تجفيفه وتمليحه من ماء البحر الميت، وتصديره إلى بلاد كنعان ومصر ومؤاب والممالك الأردنية الأخرى، وتخزينه لدى الأدوميين. وهم من أوائل الشعوب الذين عرفوا تجفيف السمك واللحوم الحيوانية المقددة المملحة بماء البحر الميت وتخزينه. وبقيت عادة تجفيف وتمليح اللحوم موجودة عند الأردنيين إلى نهاية الستينات من القرن العشرين الميلادي
ويمكن القول إن بداية شق القناة ربما بدأ منذ مئات السنين، أي زمن الحوريين أسلاف الأدوميين، وإنهم، أي الحوريون، بنوا عليها منصات بحرية وقوارب وسفن خفيفة انطلقت عبر البحر الأحمر, ولكن القناة اكتملت زمن الملك حدد بن بدد، الذي تعامل معها كشريان حيوي، وأيضًا حاجز حماية للجزء الشرقي من مملكته، إذا عدا عليها أحد من الغرب، وحاجز حماية للجانب الغربي من مملكته إذا عدا عليها أحد من الشرق
قناة البحرين ودور الملك حدد بن بدد وأثر حملة الملك أمصيا على أدوم
وقد بقيت قناة البحرين، قناة حدد بن بدد، لقرون طويلة، ونجد إشارة إليها فيما ورد في القرآن الكريم وما فرضه الملك اليهودي أَمَصْيَا ابن يوآش، ملك يهوذا، الذي جاء بعد النبي سليمان (القرن العاشر قبل الميلاد)
أما الملك اليهودي أمصيا، فهو ابن يوآش، وقد تسلم مهام الحكم في الخامسة والعشرين من عمره، بالنيابة عن أبيه الذي كان مريضًا. ثم اعتلى العرش بعد اغتيال أبيه، فقتل من اغتالوه، لكنه عفا عن أولادهم. ثم استأجر مائة ألف من جنود إسرائيل ليذهبوا معه في حملة للقضاء على أدوم واحتلالها، واحتلال عاصمتهم بصيرا والسلع
هذا الملك اليهودي هزم الأدوميين في وادي الملح، أي في وادي البحر الميت، وأخذ سالع (احتلها)، وهي التي تقع جنوب بصيرا عاصمة الأدوميين. لكنه أحضر معه في عودته أوثان أدوم وأقامها آلهة له، وبذلك أثرت عليه أدوم فتحوَّل إلى الوثنية بدلًا من الدين اليهودي
أما الإسرائيليون الذين صرفوا وبقوا في بلاد كنعان، أي في فلسطين، فقد نهبوا مدن يهوذا الواقعة شمال بيت حورون (بيت عورا). فحارب أمصيا إسرائيل، لكنه انهزم في بيت شمس وأخذ أسيرًا. ثم قام يهوآش ملك إسرائيل بهدم جزء من سور أورشليم، وأخذ الخزائن وبعض الرهائن معه إلى السامرة
ثم لما حدثت مؤامرة على أمصيا في أورشليم، هرب إلى لخيش، وهي تل الدوير في جبل الخليل، فقتلوه هناك. وقد حكم مدة تسعة وعشرين عامًا، من سبعمائة وتسعة وتسعين إلى سبعمائة وواحد وسبعين قبل الميلاد (سفر الملوك الثاني ١٤: ١-٢٠ وسفر أخبار الأيام الثاني ٢٥: ١-٢٨)
المراجع
د . احمد عويدي العبادي , إصلاحات الملك حدد بن بدد وانجازاته ومنها قناة البحري