المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١٨ – اتفاقية الرعي بين الملك حدد والفرعون رمسيس الثاني
تناولت هذه الاتفاقية التاريخية بين الملك حدد بن بدد والفرعون رمسيس الثاني قضية رعي الأدوميين لمواشيهم في الأراضي المصرية، مما يعكس العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين المملكتين. كان الأدوميون يعتمدون على تربية المواشي بأعداد كبيرة، وكانوا يلجؤون إلى وادي النيل في أوقات الجفاف، وفق اتفاقيات تضمن لهم الحماية وحقوق الرعي. ومن خلال هذه العلاقات، استفاد الفراعنة من الماشية ومشتقاتها، بينما حصل الأدوميون على ملاذ آمن لمواشيهم في فصول الجفاف
اتفاقية بين الملك حدد بن بدد والفرعون رمسيس الثاني لرعي الأدوميين في أرض مصر
كان الأدوميون يهتمون بتربية الماشية بمختلف أنواعها وبأعداد كبيرة جدًا، وقد وصف القرآن الكريم هذا الوضع عند الحديث عن مدين، التي كانت جزءًا من أدوم، حيث كانوا يتجمعون حول الماء لري مواشيهم العديدة. كما جاء في قوله تعالى “وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)” (سورة القصص)
تظهر كلمة “أمة من الناس” العدد الكبير من الرعاة ومساعديهم الذين كانوا يساعدون في سقي المواشي، مما يدل على كثرة القطيع لدرجة أن الراعي لم يكن قادرًا على إتمام هذه المهمة بمفرده. كانت الحاجة إلى المساعدة من أهل الماشية ملحة بسبب العدد الكبير للقطيع. كما أن كلمة “الرعاة” تشير إلى كثرة كل من الرعاة والمواشي معًا. ولم توضح الآية ما إذا كانت المواشي تتكون من أغنام أو بقر أو إبل أو حمير، مما يعني أن هناك تنوعًا في أنواع المواشي، على الرغم من أن الغالبية العظمى كانت من الأغنام والماعز، إذ إن الإبل كانت تذهب في رحلات طويلة إلى مناطق بعيدة، ولم يكن يصطحبها سوى الرجال، وكانت ترد إلى الماء مرة واحدة فقط كل أسبوعين في الصيف، ونادرًا في الشتاء
عندما كان الماء نادرًا أو قليلًا بسبب الجفاف أو الطقس الحار من جهة، أو بسبب زيادة أعداد المواشي الناتجة عن المواليد من جهة أخرى، كان الأدوميون يرحلون إلى أماكن أخرى بحثًا عن الماء والكلأ والأمان في وادي النيل. وكانوا يحصلون على إذن من الفرعون بموجب اتفاق مع الملك حدد بن بدد، بالإضافة إلى الملوك الذين سبقوه. وكانت هذه الاتفاقية بين البلدين توفر الأمان والحماية للناس ومواشيهم، فتضمن لهم عدم التعرض للقتل أو السجن أو الغرامات، وتمنع مصادرة مواشيهم أو نهبها، وذلك لأن الفرعون كان قد وافق على دخول هذه المواشي إلى أراضي مصر بموجب الاتفاقية
كان الفراعنة يستفيدون من وجود المواشي في بلادهم لما تقدمه من إنتاج وفوائد متعددة، مثل اللحوم والأوبار والشعر والصوف الرخيص الثمن، والتي كان المصريون بحاجة إليها في صناعاتهم واستخداماتهم اليومية. ولأن معظم مواشي وادي النيل الأليفة كانت من بقر الجاموس، فإن الملك الريان بن الوليد، ملك يوسف عليه السلام، ذكر في رؤياه التي فسرها يوسف عليه السلام (قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (سورة يوسف: 43). لم يذكر في الرؤيا جمالًا أو ماعزًا أو خيولًا تأكل بعضها، بل ركز على بقر الجاموس
كما ورد في القرآن الكريم في سياق بني إسرائيل عندما قال موسى لقومه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (سورة البقرة: ٦٧)، حيث كانت البقر أكثر أنواع المواشي التي يقتنيها بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر
كان الرعي في الأراضي المصرية غير مجاني للآدوميين، بل كان يتم مقابل دفع أجور معقولة، وهو ما كان يعود بالنفع على المصريين. كما كان يتم الاستفادة من روث وسماد المواشي في تسميد الأراضي الزراعية. إضافة إلى ذلك، كان المصريون يشترون الخيل والبغال والمواشي لاستخدامها في أغراض متعددة
كما لعبت الثروة الحيوانية دورًا في تبادل المصالح بين المصريين والآدوميين، مما ساهم في تحالفات بين الطرفين. وكان هناك أوقات تمر على أدوم تشح فيها المياه، حيث كان هناك مصدر واحد لسقي المواشي، كما في ماء مدين، الذي وردته بنات شعيب الحفيد. ويذكر القرآن الكريم كيف كان الرعاة يتجمعون لسقي مواشيهم: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ)، وقد حال دون سقيا مواشي بنات شعيب إلا بعد أن اكتفى الرعاة، فتمكن موسى من سقي مواشيهما، وكانت بداية عمله مع شعيب وما تلاها من أحداث وردت في القرآن الكريم
قام القرآن الكريم بتوثيق حالة تُظهر أن الماء كان يتناقص في نهاية الصيف، حيث تزداد الحاجة إلى المزيد من المياه بسبب الحرارة الشديدة، بالإضافة إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية. كما أن كثرة المواشي كانت نتيجة لموسم المواليد الذي بدأ في الربيع ومطلع الصيف. من المعتاد أن تنخفض موارد المياه أو تجف خلال فصل الصيف، مما يشير إلى أن سيدنا موسى عليه السلام وصل إلى ماء مدين في هذه الفترة، في شهر أغسطس أو سبتمبر، أو بينهما، في هذا الوقت من السنة، يكثر جفاف الينابيع والموارد المائية
قال تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) سورة القصص
من خلال هذه الآية الكريمة، يتضح أن الأيام التي سافر فيها موسى من مصر إلى مدين كانت في وقت يمتد فيه النهار، أي في شهر أغسطس أو سبتمبر أو بينهما. وهذا يعني أن مدة المسير كانت أقصر مقارنة بفصل الشتاء، حيث الأيام تكون أقصر
أما بخصوص الاتفاقيات التي تخص السماح للمواشي الأدومية والتبادل التجاري والعلاقات الاجتماعية بين العشائر الأردنية والمصرية، فقد تم توقيعها في زمن الملك الأدومي حشام، سلف الملك حدد بن بدد من جهة، وفرعون مصر رمسيس الثاني من جهة أخرى. ثم قام الملك حدد بن بدد بتعزيز هذه الاتفاقيات مع كل من رمسيس الثاني وولده مرنبتاح. وعلى الرغم من الخلاف بين العلماء والفقهاء حول هوية فرعون الخروج، هل كان رمسيس الثاني أم ابنه مرنبتاح، إلا أن علم التشريح أثبت أن مرنبتاح هو فرعون الخروج، حيث خرج بني إسرائيل من مصر في عهده. بينما يُسمى والده رمسيس الثاني “فرعون التسخير”، لأنه استعبد بني إسرائيل وفرض عليهم العمل بالسخرة
هناك إجماع علمي، مستند إلى علم التشريح وفحص المومياوات، يشير إلى أن مرنبتاح هو فرعون الخروج، وأن رمسيس الثاني توفي في أواخر سنوات دعوة موسى لفرعون للإيمان بالله والسماح لبني إسرائيل بالخروج معه إلى أرض كنعان. كانت المناطق الجنوبية من كنعان تحت السيطرة المشتركة بين الفراعنة والأدوميين، حيث كانت الأرض في الأصل جزءًا من المملكة الأدومية الأردنية، لكن بعد غرق فرعون، ضم الملك حدد بن بدد الأرض كاملة إلى مملكته، لتصبح تحت سيطرة أدوم بشكل منفرد
وكانت أدوم في تحالف مع الفراعنة، حيث كان هناك اتفاق بين ملوك أدوم والفراعنة على أن تكون للفرعون قلاع وحاميات في جنوب أرض كنعان داخل المملكة الأدومية الممتدة حتى البحر الأبيض المتوسط. أما بقية أرض كنعان في الشمال، فكانت خاضعة للفرعون
كانت هذه القلاع والحاميات مشتركة بين قوات المملكتين الأدومية والفرعونية، حيث كان كل منهما يعتمد على الآخر في الدفاع ضد الأعداء القادمين من البحر أو الشمال. ولذلك كان الفرعون حريصًا على بقاء بني إسرائيل تحت سلطته وعدم خروجهم عن سيطرته، لأن ذلك كان سيؤدي إلى تهديد جزء من مملكته في فلسطين. وكان حدد بن بدد حليفًا دائمًا للفرعون الأب والابن، حيث كانت مصالحهما مشتركة، وكان يكره بني إسرائيل ويعتبرهم تهديدًا حقيقيًا على بلاده وشعبه وهويته، تمامًا كما كان الفرعون يرى بني إسرائيل
هناك أيضًا دليل آخر يدعمه مؤيدو نظرية “مرنبتاح فرعون الخروج”، وهو ما أشار إليه عالم الآثار سايس، الذي ذكر أن الآثار المصرية تقتصر حادثة الخروج على فترة حكم الفرعون مرنبتاح. من بين الوثائق المحفوظة في المتحف البريطاني توجد “ورقة أنسطاسي السادسة”، التي تتضمن خطابًا من كاتب الملك مرنبتاح إلى رئيسه، يذكر فيه أن بعض بدو “شاسو” (الذين يمثلون الأدوميين) قد سُمح لهم، وفقًا للتعليمات، باجتياز الحصن في إقليم سكوث (تل المسخوطة) في وادي طميلات، ليروّعوا ماشيتهم بالقرب من بتوم. وتعني كلمة “شاسو” الواسع أو الشاسع، وهي تشير إلى الأشخاص الذين جاؤوا من المناطق الواسعة أو البادية، أي من الديار الأردنية. وهذه الكلمة كانت تطلق على الهكسوس الذين جاؤوا من الأردن
نص الخطاب الذي وجهه كاتب الفرعون مرنبتاح إلى الفرعون كان كما يلي: “أمر آخر، يا سيدي، لقد أنهينا مراقبة مرور قبائل الشاسو التابعة لأدوم من حصن مرنبتاح حتب حرماعت، له الحياة والصحة والفلاح في سكوث، نحو برك بتوم، من أجل توفير الطعام لهم ولماشيتهم في الأراضي التابعة للفرعون، له الحياة والصحة والفلاح، وهو الشمس المشرقة لكل أرض مصر”. (مصر القديمة، سليم حسن، جـ6 ص588)
وتظهر وثائق فرعونية أخرى أن الحراسة في وادي الطميلات كانت مشددة للغاية، كما كانت المراقبة عالية على الطريق الرئيسي المؤدي إلى آسيا في قلعة سيلة (تل أبو صيفة الحالي). وقد وصل إلينا أجزاء من يوميات موظف في إحدى المدن الواقعة على حدود بلاد كنعان في عهد مرنبتاح، حيث دون فيها أسماء المبعوثين والمهام التي كلفوا بها عند مرورهم عبر هذا الحصن في طريقهم إلى بلاد كنعان. وكان المرور عبره محظوراً في عهد رمسيس الثاني إلا لمن كان يحمل تصريحاً بالخروج. مرّ وقت طويل قبل أن يدرس الفرعون الموضوع مع مستشاريه للتحقق مما إذا كان هؤلاء الرعاة جواسيس أو أعواناً لدولة أجنبية تخطط لغزو مصر
المراجع
د . احمد عويدي العبادي, اتفاقية الرعي بين الملك حدد والفرعون
سليم حسن, موسوعة مصر القديمة – الجزء الرابع
Alan H. Gardiner Egyptian Hieratic Texts – Series I: Literary Texts of the New Kingdom ، Part I، Leipzig 1911