المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٢ – النشأة والتأسيس

تعتبر بيئة الأردن الجغرافية القاسية تحديًا كبيرًا أمام سكانه، لكن هذه الطبيعة الصعبة ساهمت في تشكيل شخصية الأردنيين الأدوميين، الذين استطاعوا التكيف معها بشجاعة وإصرار. فقد اختار الأدوميون الاستقرار في المناطق الجبلية العالية التي وفرت لهم الأمان، لكن ذلك تطلب منهم عزيمة كبيرة لبناء مستوطناتهم وشق طرقهم عبر الوديان والجبال. إن قدرة الأدوميين على استغلال هذه التضاريس القاسية لتأمين حياتهم وتطوير حضارتهم جعلت منهم نموذجًا في الصمود والازدهار

فرضت الطبيعة الجغرافية للأردن واقعًا فرض على الأردنيين التكيف مع بيئة جبلية وعرة، ما ساهم في صقل شخصيتهم بسمات القوة والإصرار والتحدي. فقد أثرت الأودية والتضاريس القاسية في تشكيل نمط حياتهم، ودفعهم ذلك لاختيار السبل الأصعب دائمًا. ويظهر هذا جليًا في حياة الأدوميين، الذين اختاروا الاستقرار في مناطق جبلية مرتفعة تتجاوز ٤٠٠٠ قدم فوق مستوى سطح البحر، حيث وفرت التضاريس الحادة لهم الأمن، لكنها تطلبت منهم عزيمة لا تلين لبناء المستوطنات وشق الطرق والمسالك

استوطن الأدوميون منطقتي الجبل والشراه، وهما من أكثر مناطق الأردن ارتفاعًا. منطقة الجبل تمتد بين قلعة عنزة وجبل ضانا، وتتميز بصخورها البركانية وأوديتها العميقة. أما منطقة الشراه، فتنحدر باتجاه معان وتطل على وادي حزمة، وتمتد جنوبًا إلى حدود وادي رم، وتغطيها الصخور الكلسية في معظمها

كان الأدوميون بارعين في شق الطرق عبر الجبال والوديان، مما أتاح لهم ربط مدنهم وقراهم، وكانت هذه الطرق شريانًا رئيسيًا للقوافل التجارية العابرة. ولم يقتصر إبداعهم على الطرق، بل امتد إلى جر المياه وتخزينها، حيث أنشأوا قنوات ري مبتكرة، مستغلين المياه الجوفية وينابيع الجبال، بالإضافة إلى المياه التي تتجمع في الأودية. كما كشفت الاكتشافات الأثرية عن مواقع مخصصة لتخزين الحبوب والغلال، ما يعكس قدرتهم على تطويع التضاريس القاسية وتحويلها إلى مساحات زراعية مزدهرة. إلى جانب ذلك، استفاد الأدوميون من الثروات الطبيعية، مثل النحاس الذي كان متوفرًا بكثرة في وادي عربة وضانا، ليؤكدوا قدرتهم على الازدهار وسط بيئة طبيعية صعبة

النشأة والظروف التي أدت إلى تأسيس مملكة أدوم

مع بداية العصر الحديدي الثاني (القرن التاسع قبل الميلاد)، بدأت ملامح تأسيس مملكة أدومية موحدة تظهر، حيث تأثر هذا التأسيس بشكل كبير بالعوامل الوطنية والسيادة على الأراضي الأردنية. وكان انهيار نظام الدولة المدينة في نهاية العصر البرونزي المتأخر نتيجة مجموعة من العوامل، أحد العوامل الأساسية التي مهدت لظهور المملكة. إذ عجز النظام السياسي السابق عن تلبية احتياجات الأردنيين الأوائل المتزايدة في مختلف الجوانب

استوطن الأدوميون في منطقتين رئيسيتين: الجبل والشراه، وهما من أعلى مناطق الأردن. تمتد منطقة الجبل بين قلعة عنزة وجبل ضانا، وتتميز بصخورها البركانية وأوديتها العميقة. أما منطقة الشراه، فهي تمتد باتجاه معان وتطل على وادي حزمة، وتنحدر جنوبًا إلى حدود وادي رم، وتغطيها الصخور الكلسية في غالبيتها

 سلسلة جبال الشراة
الصورة على اليمين: قرية بصيرا، لواء بصيرا، محافظة الطفيلة آذار 1914, المصدر: صور قديمة تحكي الأردن

خلال العصر البرونزي (٣٣٠٠ ق.م – ١٢٠٠ ق.م)، كان الأدوميون يعيشون في مدن وقرى وتجمعات بدوية، كل منها تحت حكم ملك أو زعيم أو شيخ. ومع حلول العصر الحديدي الأول، ظهرت تحديات كبيرة، كان أبرزها التهديدات الخارجية وحاجة المنطقة لحماية الطرق التجارية والمدن. وقد أدت هذه التحديات، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية بين الملوك والزعماء، إلى ظهور قائد قوي نجح في توحيد المناطق تحت سلطته، مما أسفر عن قيام مملكة أدوم

تأسيس مملكة أدوم الأردنية

على قمم جبال أدوم الشامخة، وفي ممراتها الوعرة، بنى الأردنيون الأدوميون القدامى مملكتهم المزدهرة. شيدوا المدن، وأقاموا الحصون، وزرعوا الأرض، واستخرجوا ثروات معادنها. عاشوا حياةً مليئة بالصراع المستمر، سواء في مواجهة قسوة الطبيعة أو طمع الأعداء، تاركين لنا إرثًا عظيمًا ظهر بعضه على مر السنين، في حين يظل جزء كبير منه مدفونًا تحت رمال الصحاري، وداخل تربة سهولنا وودياننا، وبين صخور جبالنا

الصورة على اليمين: الطفيلة
historyofjordan.com :المصدر

الصورة على اليسار: محمية ضانا
Dana Biosphere Reserve :المصدر

مع بداية العصر الحديدي الثاني، أصبحت الظروف مهيأة لظهور مملكة أدومية موحدة ذات سيادة، وذلك في سياق التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة. ففي أواخر العصر البرونزي المتأخر، بدأ نظام “الدولة المدينة” في التلاشي، إذ لم يعد قادرًا على تلبية احتياجات الأدوميين الأردنيين الأوائل الذين حققوا تقدمًا ملحوظًا في مختلف المجالات. خلال العصر البرونزي، كان الأدوميون يعيشون في تجمعات متنوعة من مدن وقرى ومجتمعات بدوية صغيرة، تديرها ملوك أو زعماء أو شيوخ. ومع تزايد التهديدات الخارجية وضرورة حماية السكان وتأمين الطرق التجارية، بدأت ملامح الوحدة السياسية بالظهور. وفي خضم التنافس بين الزعماء المحليين، برز الأقوى منهم ليؤسس مملكة أدوم

وادي رم

كما تشير بعض الروايات التاريخية إلى أن الملك داود، حاكم المملكة الإسرائيلية الموحدة، شن حملة بقيادة يؤاب ضد الأدوميين، ارتكب خلالها مجازر مروعة حالت دون إنشاء دولتهم المستقلة في بادئ الأمر. لكن عقب وفاة سليمان وانقسام المملكة الإسرائيلية إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا، استطاع الأدوميون الأردنيون تحت قيادة ملك موحد أن يحققوا استقلالهم، بل ووجهوا هزيمة نكراء لمملكة يهوذا. لاحقوا جيوشها حتى تخومها، وأحرقوا سفنها الراسية في ميناء عصيون جابر الأدومي، ما شكل بداية لحقبة جديدة في تاريخ مملكة أدوم

على صعيد آخر، تشير روايات تاريخية أقدم إلى أن مملكة أدوم الأردنية قد حكمها ثمانية ملوك قبل ظهور الممالك العبرية. وتروي التوراة أن النبي موسى طلب إذنًا بالمرور من أراضي الأدوميين، لكنهم رفضوا وواجهوه بجيش. ورغم هزيمتهم في المعركة، فر ملك أدوم حدد بن بدد إلى مصر حيث تزوج ابنة الفرعون، قبل أن يعود لاستعادة عرشه

أما الأدلة الأثرية، فتؤكد أن مملكة أدوم الأردنية بدأت بالتبلور مع بداية العصر الحديدي الثاني، حيث ظهرت مدن جديدة مثل بصيرا (عاصمة أدوم)، طولان، أم البيارة، وتل خليفة

لا شك أن الأردنيين الأدوميين نقشوا أسماءهم في صفحات التاريخ بفضل نضالهم المستمر ضد الطامعين. أتقنوا فنون الدبلوماسية، وأقاموا علاقات قوية مع إمبراطوريات كبرى مثل آشور ومصر، ما أكسبهم مكانة مميزة وأتاح لهم الحفاظ على نفوذهم في ظل تلك القوى العظمى

المراجع

إرث الأردن, نشأة مملكة أدوم الأردنية
د. زيدان عبد الكافي كفافي ، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان

Previous:
المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١ – مقدمة
Next:
المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٣ – الآثار والمواقع الأثرية