المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٢٠ – حروب الأدوميون الأردنيين و الإسرائيليين
تعد مملكة أدوم الأردنية واحدة من أهم الممالك القديمة التي نشأت و لعبت دورًا مهمًا في المنطقة. تعرض الأدوميون لصراعات عديدة مع الإسرائيليين، كما ورد في النصوص الدينية، وشهدت أراضيهم العديد من الحروب والاحتلالات المتعاقبة. ورغم ذلك، احتفظوا بهويتهم وثقافتهم، مما ساهم في استمرار إرثهم عبر التاريخ
كان الأدوميون الأردنيون كثيرًا ما يشنون الهجمات على الإسرائيليين، كما ورد في سفر تثنية “لاَ تَكْرَهْ أَدُومِيًّا لأَنَّهُ أَخُوكَ. لاَ تَكْرَهْ مِصْرِيًّا لأَنَّكَ كُنْتَ نَزِيلًا فِي أَرْضِهِ” (سفر تثنية ٢٣: ٧)، مما أدى إلى اندلاع مناوشات وحروب عديدة بينهم. حارب الملك اليهودي شاؤول (المعروف في القرآن الكريم باسم طالوت) الأدوميين وتحالف الممالك الأردنية. وكان شاؤول أول ملوك بني إسرائيل، وقد اختاره النبي صموئيل بأمر من الله سبحانه بعد طلب بني إسرائيل لملك يقودهم في الحرب
في عهد النبي داود عليه السلام (١٠١١ ق.م. – ٩٧١ ق.م.)، احتل الإسرائيليون أراضي آدوم الأردنية وسيطروا على ميناء عصيون جابر الأدومي على البحر الأحمر. ومن هناك، أرسل الملك سليمان(٩٩٠ ق.م. – ٩٣١ ق.م.) العديد من الرحلات البحرية، التي شارك فيها الأدوميون إلى جانب رجالاته. وبعد وفاة سليمان، تمرد الأدوميون مجددًا واستعادوا حريتهم من الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنهم وقعوا لاحقًا تحت سيطرة الآشوريين بقيادة تغلث فلاسر، الذي حكم الدولة الآشورية بين ٧٤٥ و ٧٢٧ ق.م
ونجد في التوراة إشارات تعكس سياسة التطهير العرقي والإبادة بحق الأردنيين كلما سنحت الفرصة للإسرائيليين للسيطرة عليهم. ففي سفر الملوك الأول (١١: ١٥-١٦)
وَحَدَثَ لَمَّا كَانَ دَاوُدُ فِي أَدُومَ (أي عند احتلالها)، عِنْدَ صُعُودِ يُوآبَ رَئِيسِ الْجَيْشِ لِدَفْنِ الْقَتْلَى، وَضَرَبَ كُلَّ ذَكَرٍ فِي أَدُومَ لِأَنَّ يُوآبَ وَكُلَّ إِسْرَائِيلَ أَقَامُوا هُنَاكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَفْنَوْا كُلَّ ذَكَرٍ فِي أَدُومَ
وَضَرَبَ كُلَّ ذَكَرٍ فِي أَدُومَ: أي قتلوا جميع الذكور
يظهر هذا النص بوضوح الفخر بالإبادة الجماعية التي ارتُكبت بحق الأردنيين، حيث جرى القضاء على جميع الذكور في أدوم خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي بقيادة الملك داود
وفي سفر صموئيل الثاني (٨: ١٣-١٤)، نجد وصفًا آخر للسيطرة الإسرائيلية على أدوم
وَنَصَبَ دَاوُدُ تَذْكَارًا عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ ضَرْبِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَرَامَ فِي وَادِي الْمِلْحِ. وَجَعَلَ فِي أَدُومَ مُحَافِظِينَ، وَضَعَ مُحَافِظِينَ فِي أَدُومَ كُلِّهَا
يُظهر هذا النص كيف قام داود بإبادة الجيش الآرامي، ثم أخضع مملكة أدوم الأردنية، وعين عليها حكامًا إداريين لضمان السيطرة عليها. ومع ذلك، لم يدم هذا الاحتلال طويلًا، إذ اشتهرت أدوم بثوراتها المستمرة ورفضها الخضوع للحكم الأجنبي، مما جعلها مصدر قلق دائم للإسرائيليين
وفي عصر الحروب المكابية، تعرض الأدوميون للقمع على يد الإسرائيليين، وأجبروا على اعتناق اليهودية. غير أنهم احتفظوا بكراهيتهم القديمة لليهود، واكتفوا بإظهار التبعية الشكلية للديانة اليهودية، في حين حافظوا سرًا على معتقداتهم الأصلية، حتى تمكنوا في النهاية من تحرير أنفسهم وأرضهم من الاحتلال الإسرائيلي
ومع قيام الإمبراطورية الرومانية، صعد أحد الأدوميين، الذي كان والده قد تحول سابقًا إلى اليهودية، ليصبح ملكًا على اليهودية. يعرف هذا الأدومي في التاريخ باسم هيرودس الكبير، الحاكم الطاغية الذي أمر بارتكاب مذبحة في بيت لحم في محاولة لقتل المسيح الطفل، كما ورد في إنجيل متى
“حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَب الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ».” (إنجيل متى ٢: ١٦-١٨)
هيرودس الكبير
أما المكابيون (بالعبرية: مكابيم أو مقابيم)، فهم مجموعة من المحاربين اليهود المتمردين الذين سيطروا على يهودا، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية السلوقية اليونانية. وقد أسسوا السلالة الحشمونية، التي حكمت من عام ١٦٧ قبل الميلاد إلى ٣٧ قبل الميلاد، وكانت مملكة مستقلة تمامًا في الفترة ما بين ١١٠ و ٦٣ قبل الميلاد
أعاد المكابيون إحياء التعاليم اليهودية جزئيًا من خلال فرض التحول القسري إلى اليهودية، كما وسّعوا حدود مملكة يهودا عبر الغزو، وسعوا إلى تقليل تأثير الثقافة الهلنستية واليهودية الهلنستية
أما الدولة السلوقية، أو الإمبراطورية السلوقية، فهي دولة إغريقية تأسست في غرب آسيا خلال العصر الهلنستي، واستمرت من عام ٣١٢ قبل الميلاد حتى ٦٣ قبل الميلاد. وقد أسسها سلوقس الأول نيكاتور (المنتصر) بعد تقسيم إرث الإمبراطورية المقدونية التي أسسها الإسكندر الأكبر
:وورد في سفر الملوك
إذْ إِنَّ يُوآبَ وَكُلَّ جَيْشِهِ أَقَامُوا هُنَاكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، أَفْنَوْا خِلالَهَا كُلَّ ذَكَرٍ فِي أَدُومَ
وَحَدَثَ لَمَّا كَانَ دَاوُدُ فِي أَدُومَ، عِنْدَ صُعُودِ يُوآبَ رَئِيسِ الْجَيْشِ لِدَفْنِ الْقَتْلَى، وَضَرْبِ كُلِّ ذَكَرٍ فِي أَدُومَ
سفر الملوك (١١: ١٥-١٦)
ويتضح أن داود أرسل أبيشاي أولًا، ثم لحقه يؤاب، واشتعلت الحرب تحت إشراف داود، حيث قاد أبيشاي القتال ضد جيش أرام وقتل منهم حوالي ٦٠٠٠ رجل، ثم أكمل يؤاب المعركة ضد أدوم، وأقام هناك وقتل ١٢٠٠٠ رجل، ليصل العدد الكلي للقتلى إلى ١٨٠٠٠ رجل. يصف هذا النص حربًا قادها النبي الملك داود ضد تحالف الأدوميين الأردنيين والآراميين السوريين، حيث انقسم جيشه إلى قوتين: واحدة بقيادة يؤاب، والأخرى بقيادة أبيشاي. وقد دارت المعارك في وادي بحر الملح (البحر الميت) وانتهت بمجزرة كبيرة، وفقًا للنص التوراتي
بعد وفاة الملك الأدومي العربي الأردني هيرودس، الذي كان قد اعتنق اليهودية، بدأ اسم الأدوميين بالتلاشي تدريجيًا من التاريخ، وتحولوا إلى الأنباط. ومع مرور الوقت، استقر الأدوميون الباقون في جنوب بلاد كنعان، بينما حلّ الأنباط مكانهم
وردت نبوءة في سفر حزقيال بشأن دمار الأدوميين، حيث جاء فيه: “كَمَا فَرِحْتَ عَلَى مِيرَاثِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ خَرِبَ كَذَلِكَ أَفْعَلُ بِكَ. تَكُونُ خَرَابًا يَا جَبَلَ سَعِيرَ أَنْتَ وَكُلُّ أَدُومَ بِأَجْمَعِهَا، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ” (حزقيال٣٥: ١٥). وعلى الرغم من محاولات أدوم المستمرة لبسط سيطرتها على اليهود، إلا أن هذه النبوءة قد تحققت في نهاية المطاف
أما هيرودس أرخيلاوس (توفي عام ١٨ م)، فكان أحد الملوك اليهود أو المتهوّدين الذين حكموا تحت سلطة الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول. وهو ابن هيرودس الأول، الذي كان من أصول أدومية أردنية. قبيل وفاة هيرودس الأول، قسّم مملكته بين أبنائه الثلاثة، فكانت مقاطعتي اليهودية والسامرة من نصيب أرخيلاوس
بدأ أرخيلاوس حكمه بوحشية، حيث أمر بقتل ثلاثة آلاف رجل من ذوي النفوذ، مما أدى إلى توتر علاقاته مع القيادات اليهودية من جهة، ومع الإمبراطورية الرومانية من جهة أخرى. وبسبب هذه الاضطرابات، قررت روما عزله بعد ست سنوات من الحكم، ونفته إلى بلاد الغال، كما حولت مملكته إلى ولاية رومانية مباشرة
أما هيرودس الكبير (٧٣ ق.م – ٢ م)، فقد كان ابن أنتيباتر الأدومي الأردني الثمودي العربي من زوجته النبطية الأردنية. عين حاكمًا على الجليل، ثم أصبح ملكًا على المقاطعة اليهودية، حيث بسط نفوذه على المنطقة الممتدة من هضبة الجولان شمالًا إلى البحر الميت جنوبًا. اتسمت فترة حكمه بازدهار ثقافي واقتصادي ملحوظ، إذ كان حليفًا قويًا للإمبراطورية الرومانية، وفي الوقت ذاته تبنى الطابع اليوناني-الروماني في أعماله. إلا أن هذا التوجه واجه معارضة شديدة من بعض الفئات اليهودية التي رفضت سياساته الثقافية والإدارية
كان مقره في مدينة القدس، أو أورشليم، واشتهر بمشاريع البناء الفاخرة التي أطلقها هناك، وأبرزها تشييد معبد القدس الكبير المعروف باسم هيكل سليمان. كما قام بمشاريع عمرانية أخرى في أنحاء مملكته، مثل إعادة بناء مدينة السامرة وتسميتها سبسطية، تكريمًا للإمبراطور أغسطس قيصر وفق التسمية اليونانية. ويظهر ذكر أرخيلاوس بشكل عرضي في ختام الإصحاح الثاني من إنجيل متى
ورغم أن الباحثين يرون أن نشأة مملكة أدوم الأردنية تظل من الألغاز التي لم تفكك بعد بالكامل، بسبب قلة الحفريات الأثرية المخصصة لهذا الغرض، إلى جانب التشويه المتعمد في الرواية التوراتية المتعلقة بتاريخ الأدوميين وغيرهم من الشعوب والممالك الأردنية، إلا أن هذا التشويه أثّر أيضًا على علماء الآثار التوراتيين الذين سعوا لتفسير المكتشفات الأثرية وفقًا للرواية التوراتية بدلاً من الحقائق العلمية المستخلصة من الحفريات. ولم يتم الالتفات إلى أن الحضارة الأدومية الأردنية هي إحدى الحضارات العريقة
ورغم ذلك، فإن الدكتور احمد عويدي العبادي أوجز في هذا النص حول الظروف التي أدت إلى نشوء مملكة أدوم الأردنية، وبدايات تأسيسها، مع توضيح جغرافيا أدوم، طبيعة سكانها، والإرث التاريخي الثمودي الذي يتوافق مع موقعها ومع الأمة الثمودية قبل قيام المملكة. كما أن الأدوميين لم يكونوا غرباء عن الأردن، بل كانوا جزءًا من الشعب الحوري الثمودي العربي الأردني، والتغيير الذي حدث كان في التسمية فقط، حيث تحول الاسم من الحوري إلى الأدومي
وقد استمرت الحضارة الحورية، من حيث الثقافة واللغة والدين وآلهتهم، وانتقلت إلى الأدوميين الذين ورثوا أرض الحوريين وأصبحوا خلفاءهم. كما ورثوا أساطيلهم وتابعوا حياتهم بنفس الوتيرة التي كانت سائدة في عهد الحوريين
وبذلك نجد أن التغيير كان في العنوان السياسي فقط، حيث استبدلت الهوية السياسية من الحوري إلى الأدومي، بينما استمرت الأرض والشعب والثقافة والعلاقات التجارية، إلى جانب الثروة الزراعية والصناعية والحيوانية، فضلاً عن امتداد المملكة وجغرافيتها
بمعنى آخر، لم يطرأ تغيير جوهري على الحياة، ولم تأتِ دولة جديدة لتقضي على رعايا الدولة السابقة، بل لم يكن هناك احتلال أو انقلاب، وإنما كان الأمر مجرد ملء للفراغ السياسي، حيث حلت مجموعة مكان أخرى انتهت سيادتها وهيبتها
أما الإله قوس، فقد كان الإله الرئيسي للحوريين، ثم أصبح الأهم لدى الأدوميين الأردنيين. وقد توصل الحوريون إلى عبادته بعد قرون من تعدد الآلهة، في استجابة لحاجات المجتمع والمملكة والأفراد الروحية. وكان “قوس” في أصله إلهًا أردنيًا، انتشرت عبادته في جنوب الأردن، وخاصة على ضفاف وادي عربة، خلال فترة المملكة الحورية الأردنية، واستمر معبودًا في العهدين الحوري والأدومي
تصوير نبطي للإلهة أترعتا، ويعتقد أن النسر الموجود على رأسها هو رمز للإله قوس
وقد ورد اسم “قوس” مقترنًا بأسماء عدد من ملوك أدوم، وهو نهج شائع لدى الشعوب الثمودية الأردنية القديمة، حيث كانت الأسماء تركب مع أسماء الآلهة. ومن بين هذه الأسماء “قوس ملك”، وهو اسم ملكي يُظهر اعتراف صاحبه بعبوديته للآلهة، وإيمانه بها، واعتقاده بأنها تحميه ويدافع عنها
المراجع
د . احمد عويدي العبادي , حروب الأدوميون الاردنيون و الإسرائيليين