المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٢٣ – أسباب وعوامل انتهاء وتلاشي مملكة أدوم
تاريخ الدول والحضارات مليء بالتغيرات والتحولات التي تشبه إلى حد كبير دورة حياة الإنسان. مثلما يمر الإنسان بمراحل مختلفة من النشوء والقوة والضعف، فإن الدول تمر أيضًا بمراحل من النشوء والازدهار والتراجع. في هذا السياق، نجد أن المملكة الأدومية تمثل نموذجًا مثيرًا لهذا التغير التاريخي الذي شهده العديد من الممالك القديمة في منطقة الأردن، حيث مرت بتجارب سياسية، اقتصادية، وطبيعية قادتها في النهاية إلى الانحسار
إن تاريخ الدول والحضارات يشبه في كثير من جوانبه دورة حياة الإنسان، إذ تمر الدول بمراحل من النشوء، والازدهار، ثم التراجع والانحسار. فكما يمر الإنسان بمراحل الطفولة، الفتوة، القوة، ثم الهرم والشيخوخة، فإن الدول أيضًا تخضع لهذا القانون الطبيعي للحياة. فالممالك تنشأ، تزدهر، ثم تتلاشى لتحل محلها كيانات جديدة. وقد استمرت المملكة الأدومية لما يزيد عن أربعة آلاف عام، وهي مدة طويلة في عمر الدول، ما يجعل التغيير والتحولات أمرًا لا مفر منه، شأنها في ذلك شأن الكائنات الحية مثل الإنسان والشجر
ومع مرور الزمن، واجهت المملكة الأدومية شحًّا في الموارد نتيجة دورات طبيعية من القحط، الجفاف، والتصحر. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة، كما في قصة يوسف عليه السلام، حيث مرت مصر وبلاد الشام، بما فيها الأردن، بسبع سنوات عجاف أثرت على استقرارها. ومثل أي كيان يستمر لآلاف السنين، وصلت المملكة الأدومية إلى مرحلة من التراجع الطبيعي نتيجة نضوب الموارد، مما أثر على قدرتها على البقاء والازدهار
إن جميع الحضارات تمر بفترات من القوة والرخاء، تليها مراحل من الضعف والاضمحلال. وعندما تصل الدولة إلى مرحلة البطر والترف الزائد، فإن ذلك غالبًا ما يكون مقدمة لزوال النعمة كنتيجة حتمية للتاريخ وقوانين الطبيعة. فالتاريخ مليء بالأمثلة التي توضح كيف أن الإسراف والاستقرار الزائف قد يؤديان إلى انهيار الدول والممالك
أما من الناحية السياسية، فقد كان النظام السياسي في الممالك الأردنية القديمة مختلفًا عن نظيراتها في وادي النيل والرافدين، حيث كانت تقوم على الديمقراطية والانتخاب، مما ساهم في استقرارها وإطالة عمرها السياسي. وبينما كانت بعض الممالك الأخرى تعبد ملوكها باعتبارهم آلهة، كانت الممالك الأردنية ترى في الملك شخصية قيادية يتم اختيارها من قبل مجلس الدولة (الملأ) وفق نظام ملكي انتخابي، وليس وراثيًا، مما منحها استقرارًا سياسيًا أطول
وقد تميزت المملكة الأردنية الأدومية بنظام يجمع بين الاستقرار الملكي والاختيار الشعبي، حيث كان اختيار الملك يتم عبر مجلس الدولة وليس عبر التوريث المطلق. وهذا النظام عزز الاستقرار السياسي لفترات طويلة، لكنه في النهاية لم يكن كافيًا لمنع المملكة من الانحسار والتلاشي مع تعاقب العصور. فبالرغم من قوة النظام السياسي والمرونة التي كان يتمتع بها، إلا أن العوامل الطبيعية والاقتصادية والتغيرات التاريخية أدت إلى انحسار المملكة واندثارها، شأنها شأن العديد من الحضارات القديمة التي لم تصمد أمام عوامل الزمن وتحولات التاريخ
لا يطلق لقب “الملك” إلا على صاحب العرش، وعندما يفقد هذا الشخص منصبه، ينتزع منه اللقب. ولا يمنح اللقب لزوجة الملك أو أبنائه أو والدته. ففي زمن الوثنية، كان الأردنيون يرون أن أسرة الملك هي مجرد أسرة عادية في المملكة، ولا تتمتع بأي امتيازات أو مخصصات تتجاوز حقوق أي فرد آخر في المملكة. كان أبناء الملك يعيشون حياة عادية؛ فقد تجد الابن يعمل في الزراعة أو التجارة أو يملك حيوانات، وإذا كان مؤهلاً، فبإمكانه أن يرتقي بحسب مؤهلاته الشخصية. وهذا يوضح أن الملك ميشع وصل إلى العرش بسبب كفاءاته، من عبقرية ووطنية وأخلاق رفيعة، وليس بسبب كون والده ملكاً. هذا النظام كان من الأسباب التي ساهمت في استدامة الممالك الأردنية لآلاف السنين
وعلى النقيض من ذلك، نجد في تاريخ ممالك النيل والرافدين أن النظام الوراثي كان سائدًا، مما أدى إلى فساد داخلي وتآمر بين أفراد الأسرة الملكية، بما في ذلك الخيانة والصراعات بين الأبناء والزوجات. وكانت الممالك هناك تستمر لفترة قصيرة، غالبًا قرن أو أقل، قبل أن تنقض على حكمها مملكة جديدة. وقد أشار القرآن إلى فساد النظام الوراثي على لسان الملكة بلقيس، حيث قالت: “إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ” (سورة النمل، 34)
كان الأردنيون، على العكس من ذلك، ملوكًا ناجحين، يتسمون بالتواضع ويعودون إلى طبقات الشعب، لأنهم نشأوا منها. ومع تدرجهم في المناصب والخبرات، وصلوا إلى عضوية المجالس العليا، حيث تم اختيارهم ملوكًا. ومن أبرز هؤلاء: الملك الحارث الرابع، والملك ميشع الثائر المحرر، والملك حدد بن بدد المؤسس، والملك بولاق بن صفور المقاتل، والملكة ماوية أرملة الملك معاوية الجذامي، والملكة بلقيس الأردنية
أما العلاقات مع ممالك وادي النيل والرافدين، فقد كانت في أغلبها قائمة على التحالف والصداقة والتعاون المشترك. ولكن عندما تتحول هذه العلاقات إلى عداء، كان الأردنيون يخسرون الكثير. كان تحالف الأدوميين والمؤابيين مع الفراعنة يشكل تحالفًا قويًا، حيث منحهم القدرة على تجنب الاجتياح الفرعوني أو الحروب مع ممالك النيل والرافدين
كان ملوك الرافدين ينظمون حملات احتلالية تجاه الممالك الأردنية، تنتهي إما بالتحالف أو الخضوع الأردني، أو بالتهجير الجماعي للأردنيين إلى بلاد الرافدين أو مناطق أخرى. كان منهج ممالك الرافدين يتسم بالتطهير العرقي وتهجير السكان من أوطانهم إلى أراضٍ أخرى، ومن خلال هذه السياسة تم تهجير العديد من الأردنيين إلى العراق وفارس وآسيا الصغرى
وكانت الجيوش قوية في كل مملكة، حيث لعبت دورًا هامًا في مقاومة وهزيمة الإسرائيليين في الحروب، رغم وجود أنبياء معهم. كما اعتادت الممالك الأردنية على دعم بعضها البعض
عندما قرر هيرودس الكبير، آخر ملك أدومي منتخب في الأردن، توريث العرش لابنه، رفض الأدوميون هذا النظام وطردوه. فهرب إلى منطقة دوما قرب الخليل في بلاد كنعان، حيث اعتنق اليهودية بدعم من الرومان وأسس مملكة وراثية في تلك المنطقة، لكن هذه المملكة لم تستمر طويلاً، وانفصلت عن المملكة الأم التي تحولت إلى مملكة نبطية
ازدادت هجرة أتباع هيرودس الكبير غربًا بسبب التحركات القبلية للأردنيين من الديار الثمودية في شمال جزيرة العرب، الذين كانوا من رعايا الأدوميين. هؤلاء القبائل كانوا من مؤيدي الانتصار للنظام الانتخابي للعرش، ورغم أن هؤلاء القبائل كانوا بعيدين عن العاصمة، إلا أنهم أيدوا الهجرة غربًا باتجاه جنوب بلاد كنعان
حدث فراغ سياسي واجتماعي في المملكة الأدومية بالأردن، مما سهل سيطرة الأنباط على الحكم، بينما تحركت القبائل الثمودية الأردنية من الشرق لملء هذا الفراغ، خوفًا من أي احتلال أجنبي قد يهدد المملكة الأدومية. وهكذا، أصبحوا مواطنين في مملكة الأنباط التي كانت قد سيطرت على الحكم، رغم كونهم في الأصل من رعايا الأدوميين
ظهر الأنباط لأول مرة في السجلات التاريخية في القرن السادس قبل الميلاد، وأسسوا مملكتهم في أراضي مملكة إدوم بحلول النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد. سرعان ما التف الأردنيون حولهم بسبب عاداتهم في النظام الملكي الانتخابي والإدارة المستقرة. وصلت مملكة الأنباط إلى ذروتها في زمن الملك الحارث الرابع، الذي كان محبًا لشعبه ومخلصًا لهم
خضعت أرض الأردن للحكم الفارسي لمدة قرنين (٥٣٩-٣٣٣ ق.م)، تلاه الحكم اليوناني لمدة ثلاثة قرون (٣٣٢-٤٦ ق.م)، حيث كانت منطقة شمال الأردن مركزًا لتحالف المدن العشر (الديكابولس)، التي ورثت مملكة باشان الأردنية القديمة. ثم جاء الحكم الروماني لأربعة قرون تقريبًا (٦٤ ق.م – ٣٩٥ م)، تلاه الحكم البيزنطي لمدة قرن ونصف تقريبًا (٣٩٥ – ٥٣٥ م)
كان الأردن عبر مختلف عصوره مأهولًا بالسكان ومزدهرًا بالقرى والمدن المباركة، كما ورد في القرآن الكريم والتوراة، حيث وصفه الله تعالى بجنات تجري من تحتها الأنهار، في قوله تعالى: “وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ” (سورة سبأ: 18). تعني “قُرًى ظَاهِرَةً” القرى المتصلة، والتي هي قرى ثمودية عربية أردنية، حيث كان الناس يقطعون المسافات بين القرى ويعيشون في ظل الازدهار. وهذا يعد دليلًا على أن الأردن كانت أرضًا مزدهرة
وكانت الأردن في تلك الفترة تتمتع بالأمن والرخاء، وكانت جنات تجري من تحتها الأنهار، تنعم بالأمان والخيرات والموارد الوفيرة. وعندما انحرف بعض أهلها، بعث الله لهم رسله، وعندما رفضوا دعوة الأنبياء، حلّ عليهم عذاب الله، فالشواهد من آثار المدن والقرى البائدة ما زالت باقية حتى اليوم كدليل على ذلك
وبعد الفتح الإسلامي، أصبحت أرض الأردن مسرحًا للأحداث الهامة في التاريخ الإسلامي، إذ كانت نقطة انطلاق الجيوش الإسلامية لفتح بلاد الشام، ومصر، وشمال أفريقيا، والأندلس. فقد شهدت معركة مؤتة (٨ هـ)، ومعركة طبقة فحل (١٣ هـ)، ومعركة اليرموك (١٥ هـ)، ومعركة حطين (١١٨٧ م)، ومعركة عين جالوت (١٢٦٠ م). كما كانت مسرحًا لحادثة التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، في أذرُح، جنوب الأردن،في ٣ رمضان ٣٧ هـ الموافق ١٤ فبراير ٦٥٨ م. وقد كانت أرض الأردن مهدًا لنشوء الدعوة العباسية
وفي العصر الإسلامي، تعاقبت على أرض الأردن العديد من الحضارات: الأموية البناءة، والعباسية الهدامة، والصليبية، والأيوبية، والمماليك، والعثمانيون. وكان الأمويون(٤١ – ١٣٢ هـ) الأفضل في بناء الأردن، حيث شيدوا العديد من القصور الصحراوية مثل قصر عمرة، وقصور المشتّى، والحرّانة، والموقر، والطوبة، والقسطل، وغيرها من القصور التي كانت تمثل ملاذات آمنة
بعد طردهم، استقر الأدوميون في الأراضي الممتدة من تلال الخليل الجنوبية إلى الحدود الشمالية لبئر السبع في الفترة الفارسية. وكانوا يسمون في النسخة الإغريقية “إدوميا” أو “إدومايا”، وقد تعامل الإغريق معهم كشعب وليس كمملكة، وأطلقوا على منطقتهم الجديدة اسم إدوميا
المراجع
د . احمد عويدي العبادي , أسباب وعوامل انتهاء وتلاشي المملكة الأردنية الأدومية