المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٤ – الحدود والمدن
تمثل مملكة أدوم الأردنية إحدى المملكة العريقة التي تركت بصمتها في تاريخ المنطقة. ورغم تغير حدودها عبر العصور، إلا أنها ظلت تحتفظ بمراكزها المهمة، مثل بصيرا وسالع والبترا. يعكس التراث الأدومي تنوعًا ثقافيًا واقتصاديًا، حيث ازدهرت المدن، ونشطت التجارة، ولعبت الطبيعة الجغرافية دورًا محوريًا في نشأتها واستمرارها
تظل العديد من الأسرار العميقة المتعلقة بمملكة أدوم الأردنية مخفية تحت الرمال والصخور، حيث لم تكشف بعد بعض جوانب هذه المملكة القديمة. لم تكن حدود مملكة أدوم الأردنية ثابتة طوال فترة وجودها، بل شهدت توسعات وانكماشات وفقًا للظروف السياسية والحروب التي خاضها الأدوميون. ففي بعض الفترات، تمكن أجدادنا الأدوميون من توسيع نفوذهم، بينما انحسر ذلك النفوذ في فترات أخرى. ورغم هذه التغيرات، تبقى السهول الخصبة الواقعة تحت الأمطار، بين وادي الحسا ورأس النقب، العمود الفقري لنفوذ الأدوميين. هناك، حيث تنبع المياه من الصخور، كانت الأرض توفر الحياة لشعبهم
تتحدد حدود مملكة أدوم الأردنية الأكثر وضوحًا بين وادي الحسا في الشمال، وصحراء الحسمى وخليج العقبة في الجنوب. كما امتدت حدود مملكة أدوم إلى الغرب من وادي عربة، وشرقًا إلى حافة الجبال وبداية الصحراء، بما في ذلك جبال الشراة ومنطقة الشوبك التي كانت من أهم مراكز الأدوميين، إضافة إلى البصيرة ومواقع أخرى في الطفيلة. وصلت حدود المملكة إلى ميناء تل خليفة على خليج العقبة، فضلاً عن وادي عربة ووادي رم والبترا
أما من حيث الجيران والدول المحيطة، فكانت مملكة مؤاب الأردنية تحد مملكة أدوم من الشمال، بينما كانت مملكة يهوذا تحدها من الغرب. من جهة الجنوب والشرق، كانت الصحراء الممتدة مأهولة بالقبائل والعشائر البدوية الأردنية، التي كانت تحت النفوذ الأدومي وتساهم في حماية الحدود الشرقية والجنوبية للمملكة من أي اعتداءات من قبائل نجد والعراق
أهم المدن وأهميتها التاريخية للمملكة الأدومية
من أبرز مدن الأدوميين، كانت بصيرا التي تعد العاصمة السياسية، ومدينة السلع التي كانت مركزًا للأمن. أما عصيون جابر، فقد كانت العاصمة البحرية، حيث كان الأدوميون يوجهون أنظارهم نحو البحار والغرب. تيماء كانت عاصمتهم نحو شمال جزيرة العرب، بينما كانت معان مركزًا للعلاقات التجارية البرية القادمة من الجنوب. من جهة أخرى، كانت فينون (أو فينان) عاصمة التعدين، وأدوماتو (أو الجوف) عاصمة البادية الشرقية. بالإضافة إلى هذه المدن، هناك العديد من المدن الأخرى
كما كان هناك العديد من المدن الدينية التي لها أدوار روحية مهمة في مختلف أنحاء البلاد. من أبرزها البيضاء، التي عرفت بعدة أسماء مثل قدس، قادس، قدش، وقادش بالقرب من البتراء. وكان هناك قادس برنيع في شمال شرق سيناء الأدومية، وغرندل شرقي بصيرا، التي كانت منبع سيل كبير يغذي بصيرا، مما جعلها تعتبر مدينة مقدسة نظرًا لأهمية المياه فيها، حيث كانت المياه أساس الحياة. كان وادي سيل غرندل محاطًا بالبيوت والبساتين، ما جعلها واحدة من أهم مدن المملكة الأردنية الأدومية. كما كان هناك واحة بنفس الاسم في وادي العربة
بالنسبة لبصيرا، فقد كانت عاصمة الأدوميين، في حين كانت سعير عاصمة الولاية الغربية في أدوميا. أما سلع أو سالع، فكانت إحدى المدن المهمة، كما كانت البتراء، قبل أن يسيطر عليها الأنباط، عاصمة لمملكتهم التي أصبحت فيما بعد مملكة الأنباط الأردنية، وهي ثاني أعظم مملكة أردنية بعد المملكة الأدومية. المملكة الأنبطية شهدت فترة حكم أحد أعظم ملوك الأردن في التاريخ، الملك الحارث الرابع. كما ضمت المملكة الأردنية الأدومية أعظم ملك في تاريخ الأردن، الملك حدد بن بدد. من جهة أخرى، كانت الملكة بلقيس ملكة سبأ الأردنية الأدومية، تُعتبر أعظم ملكة أردنية في التاريخ
وادي فينان
مدينة عصيون جابر البحرية كانت واحدة من المدن المهمة المطلة على ميناء البحر الأحمر، إلى جانب مدينة عارد (أو عراد) الواقعة في شمال سيناء وجنوب النقب، وهي مناطق تعود تاريخيًا للأراضي الأدومية الأردنية. وقد كانت عارد مركزًا روحانيًا مقدسًا، حيث أضفيت على أحد تلالها صفة القدسية. كما توجد في محيطها مدينة سوسيا شمال عراد، بالإضافة إلى أيلة وأسدود
أما مدينة عراد الأدومية الأردنية تاريخيًا، فهي اليوم مدينة للكيان المحتل وتقع في صحراء النقب، وهي منطقة كانت يومًا ما جزءًا من الأراضي الأدومية الأردنية منذ أعمق فترات التاريخ. تقع المدينة شمال شرق بئر السبع، وقد أسس الاحتلال الإسرائيلي بلدة فيها عام ١٩٦٢ على أنقاض قرية “تل عراد” الأدومية الأردنية، التي أصبحت لاحقًا فلسطينية. واليوم، يسكنها مزيج من المهاجرين اليهود الأشكناز والأفارقة، إلى جانب السكان العرب الأصليين الذين بقوا بعد نكبة ١٩٤٨
تشتهر مدينة عراد الأدومية الأردنية، التي تقع غرب البحر الميت، بهوائها النقي والجاف، مما جعلها وجهة مثالية لعلاج مرضى الربو. وقد كان التل مأهولًا بالسكان خلال المرحلتين الأولى والثانية من العصر البرونزي القديم، الذي امتد بين ٣٣٠٠ و ١٢٠٠ قبل الميلاد، وكان محصنًا بشكل خاص خلال المرحلة الثانية من هذا العصر
كانت سوسيا أو سوسية جزءًا من المملكة الأردنية الأدومية، وهي اليوم قرية فلسطينية تقع شرق مدينة يطا في محافظة الخليل. تشتهر بكروم الزيتون وتصنف سياسيًا ضمن المناطق (ج)، حيث تخضع للسيطرة الأمنية للاحتلال
أما سالع (الطفيلة)، فهو اسم أدومي عربي، استعار العبرانيون معناه ليشير إلى “الصخرة” في لغتهم، وكانت تعد من أكثر المواقع تحصينًا في أرض أدوم. لجأ إليها الأدوميون كملاذ آمن وقلعة منيعة لا تقهر في أوقات الحصار والحروب، حيث شكلت حصنًا لسكان العاصمة بصيرا والمناطق المحيطة بها عند حدوث أي تهديد أمني أو اجتياح عسكري. وقد ورد وصف النبي عوبديا لثقة الأدوميين بها في سفر عوبديا٣
سالع (الطفيلة)
أما معنى “سالع” في العربية، فهو يشير إلى الشق الطبيعي أو النحت في الصخر، كما يعني “الصخرة”. يقع جبل سالع في جبال الطفيلة، التي تعد امتدادًا لجبال البتراء. يطلق اسم “سالع” أو “سِلْع” على الجبل الواقع في الجزء الجنوبي من محافظة الطفيلة جنوب الأردن، ويوجد جبل آخر بنفس الاسم في ديار هذيل بين السعودية والإمارات، وجبل “سلع” في المدينة المنورة. يُطلق مصطلح “السلوع” على الشقوق والطرق الضيقة في الجبال الصخرية، مما يجعل “سالع” أو “سلع” تعني الجبل ذو الممرات الطبيعية التي تشق الصخور، ما يسمح باستخدامها كطرق لعبور الإنسان والحيوانات
من الجدير بالذكر أن العصر البرونزي في الشرق الأدنى بدأ حوالي عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد واستمر حتى ١٢٠٠ قبل الميلاد، بينما ظهر في أوروبا بين عامي ٢٥٠٠ و ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وفي أوروبا الغربية بين عامي ١٨٠٠ و ٩٠٠ قبل الميلاد. يوضح تاريخ العصر البرونزي في منطقتنا مدى عمق الدولة الأدومية وتجذرها في التاريخ الأردني، إذ إنها وُجدت قبل بني إسرائيل بآلاف السنين
تل الخليفة وعصر النحاس: مركز صهر المعادن في مملكة أدوم الأردنية
كما جرت في تل الخليفة تنقيبات أثرية في الفترة ما بين عامي ١٩٣٧ و١٩٤٠، فكشفت هذه التنقيبات التي أجراها نيلسون كلوك عن أفران كانت تُستعمل لصهر المعادن، وخاصة النحاس، ولم يعثر حتى الآن على ما يشابهها في مواطن استخراج النحاس في العالم القديم. كما عثر على كمية وافرة من الفخار بأنماط مختلفة، بالإضافة إلى ختم عليه كتابة
وعثر فيها كذلك على معبد يشبه في طرازه المعابد التي اكتشفت في مجدو ولخيش في فلسطين. ودلت هذه التنقيبات على أن الموضع كان مأهولًا من عام ١٠٠٠ حتى ٦٠٠ ق.م، وما قبل ذلك بقرون طويلة
كما أن وجود أفران صهر النحاس في عصيون جابر يشير إلى أنه كان يتم نقل النحاس الخام من فينان إلى عصيون جابر (الميناء البحري على خليج العقبة) عبر القوارب التي كانت تمخر عباب قناة البحرين/ قناة حدد بن بدد. وكانت ولاية أيلة تمتلك أفرانها، وكذلك ولاية فينون/فينيان، رغم أن منجم النحاس كان في ولاية فينان، لكن جميعهم كانوا مواطنين أدوميين
ولكن يبدو أن الحاجة إلى النحاس الأدومي أدت إلى زيادة الإنتاج، والتي بدورها أدت إلى زيادة الأفران، وتوزيعها في أكثر من مكان لغايات استراتيجية
آدم كلارك وتفسيره للنصوص المقدسة: دراسة في مصادر سفر التكوين وأخبار الأيام
وقال آدم كلارك مصححًا لهذه العبارة: آدم كلارك بريطاني وعالم ديني في التوراة، وُلد في ١٧٦٠ وتوفي في ١٨٣٢. اشتهر بتعليقاته على الكتاب المقدس التي استغرقت كتابتها وتدوينها ٤٠ سنة، وكان من أهم مصادر الثيولوجيا الميثودية لقرنين، وقد يكون أشمل تعليق على الكتاب المقدس كتبه شخص بمفرده
يقول المستر كلارك إن سفر التكوين ٣٦: ٣١-٣٩ مأخوذ من ١ أخبار ١: ٤٣-٥٠
٤٣ هؤُلاءِ هُمُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا فِي أَرْضِ أَدُومَ قَبْلَمَا مَلَكَ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: بَالِعُ بْنُ بَعُورَ، وَاسْمُ مَدِينَتِهِ دِنْهَابَةُ
٤٤ وَمَاتَ بَالِعُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ يُوبَابُ بْنُ زَارَحَ مِنْ بُصْرَةَ
٤٥ وَمَاتَ يُوبَابُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ حُوشَامُ مِنْ أَرْضِ التَّيْمَانِيِّ
٤٦ وَمَاتَ حُوشَامُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ هَدَدُ بْنُ بَدَدَ الَّذِي كَسَّرَ مِدْيَانَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ، وَاسْمُ مَدِينَتِهِ عَوِيتُ
٤٧ وَمَاتَ هَدَدُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ سِمْلَةُ مِنْ مَسْرِيقَةَ
٤٨ وَمَاتَ سِمْلَةُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ شَاوُلُ مِنْ رَحُوبُوتِ النَهْرِ
٤٩ وَمَاتَ شَاوُلُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ بَعْلُ حَانَانَ بْنُ عَكْبُورَ
٥٠ وَمَاتَ بَعْلُ حَانَانَ فَمَلَكَ مَكَانَهُ هَدَدُ، وَاسْمُ مَدِينَتِهِ فَاعِي، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ مَهِي طَبْئِيلُ بِنْتُ مَطْرِدَ بِنْتِ مَاءِ ذَهَبٍ
٥١ وَمَاتَ هَدَدُ. فَكَانَتْ أُمَرَاءُ أَدُومَ: أَمِيرُ تِمْنَاعَ، أَمِيرُ عَلْوَةَ، أَمِيرُ يَتِيتَ
٥٢ أَمِيرُ أُهُولِيبَامَةَ، أَمِيرُ أَيْلَةَ، أَمِيرُ فِينُونَ
٥٣ أَمِيرُ قِينَا، أَمِيرُ تَيْمَانَ، أَمِيرُ مِبْصَارَ
٥٤ أَمِيرُ مَجْدِيئِيلَ، أَمِيرُ عِيرَامَ هؤُلاءِ أُمَرَاءُ أَدُومَ
والاحتمال الأرجح أن هذا الكلام كان مكتوبًا على الحاشية، فظن الناقل أنها جزء من الأصل
المدن والمواقع الأدومية
بصيرة – بصيرا
تعد بصيرة من أبرز المدن الأردنية الأدومية، ويعتقد أن الأدوميين قد اختاروها لتكون عاصمتهم نظرًا لتحصينها الطبيعي. تقع بصيرة على بعد ٣٠ كم جنوب وادي الحسا. تنقسم المدينة إلى منطقتين رئيسيتين: الأولى هي الضاحية العلوية التي تحتوي على قصر ومعبد، ومن المحتمل أن هذا الجزء كان يقطنه الملك أو حاكم المدينة بالإضافة إلى كبار القادة ورجال الدين والأثرياء. أما الضاحية الثانية فهي السفلية، التي كانت تضم مساكن عامة الناس مثل صغار التجار والمزارعين والجنود وغيرهم
أم البيارة
هي قرية هادئة تطل على العاصمة الأردنية النبطية البتراء من الجهة الغربية. وتتمثل أهمية الموقع في اكتشاف ختم يعود للملك الأردني الأدومي “قوس جبر”
تل الخليفة
هو من أبرز المواقع الأردنية الأدومية، ويقع في رأس خليج العقبة. كان الموقع يضم قلعة وحصنًا، وعُثر فيه على بقايا فخارية متطورة بالإضافة إلى مستوردات من مصر. يعتقد العلماء أن تل الخليفة هو نفسه ميناء عصيون جابر، الذي كان يستخدم لصناعة السفن في مملكة يهوذا، حيث سيطر عليه الأنباط الأدوميون بعد أن هزموا مملكة يهوذا وأحرقوا أسطولها البحري
غريره
بنى الأردنيون الأدوميين مدينة غريره على قمة مرتفعة وحصينة عند رأس وادي دلاغة، جنوب مدينة البتراء وعلى الطريق المؤدي إلى وادي عربة. وقد أحيطت هذه القمة بجدران مزدوجة، وفي وسط المدينة تم العثور على بقايا منزل كبير يتألف من عدة حجرات وساحة مكشوفة مزودة بأعمدة، بالإضافة إلى شرفة مرتفعة تطل على المنطقة. كما تم العثور على العديد من المنازل والأبنية والآبار، فضلاً عن القبور
الطفيلة
مدينة أسسها الأدوميون، وتقع على مسافة ٢٣ كم جنوب وادي الحسا. تحتوي المدينة على حصن محاط بمجموعة من المنازل، كما تضم عدة ينابيع كانت تُستخدم لأغراض الشرب والزراعة. يعتقد العديد من الباحثين أن مدينة الطفيلة هي نفسها مدينة توفل التي تم ذكرها في النصوص التاريخية القديمة
المراجع
د . احمد عويدي العبادي, المدن الادومية الأردنية
إرث الأردن, حدود مملكة أدوم الأردنية وأهم المدن
د. خير نمر ياسين، الأدوميون، الجامعة الأردنية ، عمان