المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٨ – أول ازدهار صناعي مبكر في التاريخ

يعد اكتشاف النحاس من أعظم الإنجازات التي أسهمت في تطور الحضارات القديمة، إذ شكل بداية ازدهار صناعية مبكرة غيرت مسار التاريخ. لعب الأردنيون الأدوميون دورًا محوريًا في تطوير صناعة النحاس، مما جعلهم روادًا في هذا المجال. وقد أسهمت هذه الصناعة في ازدهار مملكة أدوم الأردنية وتعزيز مكانتها الاقتصادية في العالم القديم

كان اكتشاف النحاس بمثابة “ثورة” صناعية حقيقية، بل يمكن اعتباره أول ازدهار صناعي مبكر في التاريخ. كان الأردنيون الأدوميون من رواد هذه الازدهار الصناعي، حيث إن النحاس كان أول معدن يتم تصنيعه وتحويله إلى أدوات دقيقة، بعد أن كانت الأدوات مقتصرة على الصوان الذي يصعب تشكيله. كما أن عملية تصنيع النحاس تعد من أقدم عمليات التصنيع التي أحدثت تحولًا جوهريًا في المادة الخام، مما أسهم في تطوير الأدوات وتحسين حياة الإنسان

لقد كان الأردنيون الأدوميون من أوائل الشعوب التي اكتشفت النحاس وعملت على تصنيعه. وتشير الاكتشافات الأثرية في وادي عربة إلى أن الأردنيين الأدوميين بدأوا في تصنيع النحاس منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حيث كانت المنطقة تزخر بكميات هائلة من خامات النحاس. وكانت مملكة أدوم الأردنية من أهم مراكز إنتاج النحاس المصنع في العالم القديم، مما منحها دورًا محوريًا في التطور الصناعي للحضارات القديمة

عملية تصنيع النحاس

أظهر الأردنيون الأدوميون براعة استثنائية وتطورًا كبيرًا في استخراج وتصنيع النحاس، مما يعكس مستوىً متقدمًا من المعرفة والتقنيات في تلك الحقبة من التاريخ. إذ أن إنتاج النحاس يتطلب عدة مراحل معقدة وجهودًا كبيرة

اكتشف الأدوميون على خامات النحاس في وادي عربة، حيث استخدمت هذه الخامات في البداية دون أي عمليات تصنيع، وذلك عبر تشكيلها على هيئة خرز لصناعة الحلي، أو كعناصر زخرفية على التماثيل

ومع اكتشافهم لأساليب تصنيع النحاس، دفعهم ذلك للبحث والتنقيب عن المزيد من خاماته، خاصة بعد استهلاك المخزون السطحي. وقد كشفت الحفريات الأثرية عن وجود مناجم تعود للعصر الحديدي، إبان مملكة أدوم الأردنية، حيث قاموا بحفر الأنفاق والخنادق للوصول إلى أعماق الأرض، بحثًا عن أفضل وأغنى الخامات بالنحاس، مستخدمين تقنيات دقيقة تتطلب جهدًا وتنظيمًا عاليين

التجهيز والصهر

لا يتواجد النحاس في الطبيعة بصورته النقية الجاهزة للاستخدام، بل يأتي على شكل حجارة تحتاج إلى معالجة. لذلك، كانت الخطوة الأولى التي اتخذها الأدوميون، رواد صناعة النحاس، بعد استخراج حجارة الأزوريت النحاسية، هي تقطيعها وتكسيرها بما يتناسب مع أحجام الأفران المتوفرة، تمهيدًا لبدء عملية الصهر

مرت عملية صهر النحاس بمراحل من التطور، فالبداية كانت باستخدام أفران بسيطة لإنتاج كميات محدودة تلبي الاحتياجات المحلية، ثم تطورت الأساليب مع ازدياد الطلب، ليصبح الإنتاج على نطاق واسع بهدف التصدير بكميات تجارية ضخمة

وتعد عملية صهر النحاس من أكثر العمليات تعقيدًا، حيث تتطلب درجات حرارة مرتفعة تصل إلى ١١٠٠ درجة مئوية، وهو ما يصعب تحقيقه في الأفران المفتوحة. لذلك، ابتكر الأردنيون الأدوميون أفرانًا صغيرة تناسب احتياجاتهم المحلية، واستخدموا عيدان القصب لبث الأكسجين داخلها، مع تغليف أطرافها بطبقة من الصلصال الفخاري لحمايتها من الاحتراق

وإذ كانت التجارة من أهم المهن التي طورها الأردنيون الأوائل عبر التاريخ، ومثلت مصدرًا رئيسيًا للدخل. لذلك، لم يقتصر الأدوميون على تصنيع النحاس للاستهلاك المحلي، بل توسّعوا ليصبحوا من أبرز مصدّري النحاس في العالم القديم. وقد استلزم ذلك تطوير تقنيات إنتاجية متقدمة لتوفير كميات كبيرة من النحاس تكفي للتصدير

في وادي عربة، أنشأ الأدوميون أفران صهر ضخمة قادرة على معالجة كميات كبيرة من النحاس، كما طوّروا آليات لضخ الأكسجين داخل هذه الأفران، فابتكروا أداة تُعرف بـ”الكير”، المصنوعة من الجلد والخشب، والتي تحتوي على أنبوب طويل مغلف بالصلصال الفخاري لحمايته من الاحتراق داخل الفرن. إضافة إلى ذلك، أثبت تحليل اللقى الأثرية للنحاس في وادي عربة أن الأدوميين اكتشفوا مواد تضاف إلى النحاس لتقليل درجة الحرارة اللازمة لصهره، مما عزز من كفاءتهم الإنتاجية ومكانتهم التجارية

الأدوات والسبائك

بعد صهر النحاس وفصله عن الشوائب ليصبح سائلاً نقياً، تبدأ مرحلة تشكيله إلى أدوات. كان الأدوميون يصنعون قوالب فخارية بأشكال الأدوات المطلوبة، ثم يسكبون فيها النحاس المصهور، ويتركونه ليبرد ويتصلب. ومع ازدهار تجارة النحاس، لم تقتصر الحاجة على صبه في قوالب الأدوات، بل برزت ضرورة إنتاج سبائك ذات معايير موحدة. وهكذا ابتكروا سبائك على شكل (تي) بوزن ثابت، مما عزز مكانة النحاس الأردني الأدومي ومنحه ثقة واسعة في الأسواق العالمية

صناعة النحاس كانت الأساس في نشأة مملكة أدوم الأردنية

لفترة طويلة، اعتقد الباحثون الآثاريون أن مملكة أدوم الأردنية لم تتأسس قبل القرن السابع قبل الميلاد، بناءً على المسوحات والتنقيبات الأثرية التي أجروها. إلا أن الاكتشافات الأثرية في وادي فينان بوادي عربة، ولا سيما حول مناجم النحاس، أحدثت مفاجأة كبيرة، حيث كشفت أن استخراج النحاس وتصنيعه في المنطقة بدأ منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وقد شكّل هذا النشاط النواة التي قامت عليها مملكة أدوم الأردنية، حيث كان وادي عربة مركز المملكة قبل انتقالها إلى بصيرا. وكانت صناعة النحاس وتصديره النشاط الاقتصادي الأساسي عند نشأة المملكة، قبل أن تتحول لاحقًا إلى التجارة والوساطة التجارية كمصدر رئيسي لاقتصادها

لماذا تعتبر صناعة النحاس دليلاً على نشوء مملكة أدوم الأردنية؟

إن استخراج خامات النحاس ومعالجتها من خلال الصهر لفصل المعدن النقي عن الشوائب، ثم صبه في قوالب وتجهيزه للاستعمال أو التجارة، يعد عملية معقدة ومتقدمة لا يمكن لمجتمع بدائي بسيط القيام بها

وتشير الاكتشافات الأثرية الحديثة في وادي عربة إلى أن الأردنيين الأدوميين بدأوا بتطوير هذه التقنيات منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حيث كشفت الحفريات أن تصنيع النحاس بشكل تجاري بدأ في ذلك الوقت. وقد أثار هذا الاكتشاف جدلاً بين علماء الآثار، إذ كان الاعتقاد السائد أن مملكة أدوم الأردنية تأسست في القرن السابع قبل الميلاد. غير أن نتائج الحفريات الأخيرة نقضت هذا الاعتقاد، حيث أكدت أن صناعة النحاس لا يمكن أن تزدهر دون وجود دولة قادرة على تنظيم هذا القطاع، وذلك لأن هذه الصناعة تتطلب مجتمعًا معقدًا ومنظمًا، إضافةً إلى وجود مهن مساندة تضمن استمرار الحياة لهذا المجتمع الناشئ، وفيما يلي أبرز العوامل والمبررات التي تؤكد ذلك

التنظيم السياسي والإداري

لا شك أن استخراج خامات النحاس ومعالجتها وتحويلها إلى منتج جاهز للتصدير يمثل عملية معقدة تتجاوز إمكانيات المجتمعات البسيطة. إذ يتطلب تنظيم العمل وتوزيع المهام وضمان استمرارية المجتمع وجود سلطة سياسية قادرة على فرض القوانين ومراقبة سير العمل، إلى جانب منظومة إدارية فعالة تدير عملية الإنتاج والحياة بشكل عام. كما أن مناطق الإنتاج تحتاج إلى حماية عسكرية لمواجهة أي تهديدات من غزو أو نهب أو تخريب، فضلاً عن تأمين طرق النقل التي ينقل عبرها النحاس إلى وجهات التصدير. ومن هذا المنطلق، لا شك أن نشأة الدولة الأردنية الأدومية ارتبطت بتطور صناعة النحاس وازدهارها

الطقوس الدينية

منذ أقدم العصور، ارتبطت الطقوس الدينية بالأنشطة الإنتاجية ووسائل تلبية الاحتياجات. ويشير الباحثون إلى أن الأردنيين الأدوميين طوروا دون شك منظومة دينية متكاملة، تتمحور حول عملية إنتاج النحاس، حيث ارتبطت طقوسهم بمختلف مراحل تصنيعه

المهن المساندة

يتطلب المجتمع المنتج لسلعة ثمينة كالنحاس تلبية احتياجاته الأساسية بالإضافة إلى توفير بعض جوانب الرفاهية، نظرًا لما يتمتع به من ثراء طبيعي. لذلك، كان لا بد من وجود مجموعة من المهن الضرورية لتلبية متطلبات الحياة والمعيشة. في قلب مملكة أدوم الأردنية، التي نشأت حول مناجم ومصاهر النحاس، برزت العديد من المهن المساندة، مثل الزراعة، ونقل المياه، ورعاية المواشي، إلى جانب وجود التجار الذين وفروا المواد غير المتاحة محليًا في بيئة وادي عربة الصحراوية

من وادي فينان في وادي عربة جنوبي الأردن، إلى عين غزال في عمان وسط البلاد، ومنذ آلاف السنين، كان الأوائل من الأردنيين ينقلون خام النحاس غير المعالج، ليزينوا به عيون تماثيل عين غزال التي تروي قصة البشرية الأولى. ومن وادي فينان، أضاءت نيران أشعلت على يد عزائم لا تعرف الكلل، لتضيء دروب الإنسانية في عصورها المظلمة. وكان النحاس في فينان الأردني القديم هو من المصادر الطبيعية التي مهدت الطريق للبشرية نحو الحضارة بأرقى أشكالها، معلنة بذلك بداية الازدهار الصناعي الأولى في العالم. فالنحاس في فينان ليس مجرد معدن ظهر في العصر السليماني فقط، بل هو جزء من تاريخ طويل، حيث كان هناك من يروي أن فينان لم يكن خاليًا من النحاس كما تقول بعض الروايات التلمودية

استخرج الحوريون النحاس منذ أكثر من ١٠٬٠٠٠ عام قبل الميلاد، وتبعهم الأدوميون قبل حوالي ٤٠٠٠ عام. ثم جاء النبي سليمان عليه السلام، حوالي ١٠٠٠ عام قبل الميلاد، أي بعد مرور عشرة آلاف عام على بدء الأردنيين في استغلال النحاس. استعان النبي سليمان عليه السلام بعمال مهرة من الأدوميين، لأن بني إسرائيل لم يكونوا قادرين على استخراج النحاس. وبعد الأدوميين، جاء الأنباط، ورغم استغلال النحاس عبر آلاف السنين، لا يزال متوفرًا بكميات كبيرة وقابلًا للاستخراج تجاريًا حتى اليوم

كان الملك حدد بن بدد ينظر إلى النحاس كمورد طبيعي استراتيجي، وأسهم بشكل كبير في ازدهار الدولة الأدومية وزيادة ثروتها، مما عزز قوة المملكة ومكّن الملك من تنفيذ مشاريع تطوير البلاد ونهضتها

وبعد ثلاثة قرون، احتل النبي سليمان عليه السلام وادي العربة لاستخراج النحاس لتلبية احتياجاته، معتمداً على العمال الأدوميين المهرة لخبرتهم الكبيرة في هذا المجال. ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي لأدوم لم يدم طويلاً، إلا أنهم لم يتمكنوا من إتقان مهنة تعدين النحاس والذهب والفضة

كانت أدوم في القرن العاشر الميلادي وما قبله تمتد غربًا، لتشمل جنوب ما عُرف لاحقًا ببلاد كنعان (فلسطين) حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط. وقد عثر علماء الآثار على جدار قديم يعود إلى زمن النبي سليمان عليه السلام في القرن العاشر قبل الميلاد بجنوب أرض كنعان، ما يشير إلى الحرب التي خاضها النبي داود عليه السلام ضد أدوم عندما بسط سيطرته عليها، كما ورد في سفر صموئيل الثاني ٨. وهذا يدل على أن النبي داود عليه السلام استولى على أدوم من الأدوميين، حيث كانت جنوب بلاد كنعان جزءًا من أدوم الواقعة في الأردن. وبعد ذلك، تمكن الأدوميون من استعادة منطقتهم وإعادتها إلى وطنهم الأم في الأردن

وتذكر التوراة في سفر صموئيل الثاني (٨:١٣) أن النبي داود عليه السلام أقام نصبًا تذكاريًا عند عودته بعد انتصاره على ١٨ ألفًا من الأراميين في وادي الملح (منطقة البحر الميت). كما شهدت المنطقة حربًا عنيفة بين داود وأدوم، اضطر خلالها داود إلى استخدام الأدوميين في استخراج النحاس من خلال العمل القسري

وَنَصَبَ دَاوُدُ تَذْكَارًا عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ ضَرْبِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ أَرَامَ فِي وَادِي الْمِلْحِ” صموئيل الثاني ٨:١٣” 

استمر استخراج النحاس من منجم أدومي خلال عهد النبي سليمان عليه السلام، حيث واصل تشغيله لإنتاج كميات كبيرة من النحاس لاستخدامها في مشاريعه الإنشائية المختلفة. كما ورد في الكتاب المقدس، فقد كان يولي اهتمامًا كبيرًا بالعمال. ومع ذلك، يشك الدكتور أحمد عويدي العبادي في هذا الأمر، مشيرًا إلى أن أراضي أدوم كانت خصبة وتوفر أنواعًا متعددة من الطعام التي كانت معتمدة في تلك العصور

المراجع

إرث الأردن, مملكة أدوم الأردنية- الثورة الصناعية الأولى
د. أحمد عويدي العبادي, الأردن المدرسة الأولى في الثورة الصناعية في العالم
د. زيدان عبد الكافي كفافي، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية)، دار ورد، عمان

Previous:
المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٧ – العلاقات والتحالفات الداخلية والخارجية 
Next:
المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١٠ – الملوك