المملكة الأردنية الأدومية جزء: ٩ – الملك المؤسس حدد بن بدد
الملك حدد بن بدد يعتبر من أعظم الملوك في التاريخ الأردني القديم، حيث أسس إمبراطورية أدومية قوية امتدت على رقعة واسعة من الأراضي، وترك بصمة واضحة في التاريخ من خلال إنجازاته السياسية والاقتصادية. كان حكمه عهدًا من التقدم الحضاري والعسكري، حيث أسس أول جامعة للعلوم البحرية وطور التجارة والصناعة في مملكته. هذا المقال يستعرض أبرز جوانب حكمه، بما في ذلك سياسة الانفتاح الديني والتحالفات الاستراتيجية التي ساهمت في نهضة دولة الأدوميين وازدهارها
يعد الملك حدد بن بدد أحد أعظم القادة في التاريخ الأردني القديم، حيث أسس “إمبراطورية” أدومية شامخة امتدت على رقعة واسعة، وسيطرت بشكل كامل على البحر الأحمر، الذي كان يعرف آنذاك بـ البحر الأدومي، إلى جانب البحر الميت. وقد استمرت هذه الإمبراطورية الأردنية الأدومية لعدة قرون، حتى جاء الأنباط ليخلفوا الأدوميين في حكم المنطقة
لم يكن حكم الملك حدد مجرد توسع جغرافي، بل كان عهدًا من التطور الحضاري والعسكري. فقد أنشأ أسطولًا بحريًا قويًا مكنه من بسط السيطرة الكاملة على البحر الأحمر، وأسس جامعة للعلوم البحرية في ميناء عصيون جابر (منطقة العقبة حاليًا)، ما يعكس ريادته, في تنمية المعرفة والملاحة البحرية، وشهدت فترة حكم الملك حدد ازدهارًا اقتصاديًا كبيرًا، حيث تطورت الصناعة، والتعدين، والزراعة، والتجارة، كما اتسمت سياسته بالحكمة والانفتاح، إذ كفل حرية التعبير والعبادة
تأمين وحدة الدولة وإرساء الحكم الذاتي
كان الملك حدد بن بدد رجل دولة بامتياز، إذ عمل على تأمين وحدة الدولة أرضًا وهويةً وشعبًا، وابتكر نظامًا سياسيًا متقدمًا تمثل في منحه حكمًا ذاتيًا موسعًا للمديانيين، وهو ما يعتبر من أوائل النماذج للحكم الذاتي في التاريخ. وعلى الرغم من هذا الانفتاح، فقد كان صارمًا في الحفاظ على وحدة دولته، إذ سحق أي تمرد داخلي وقضى على محاولات التآمر مع أعدائه، لا سيما مع الملك المصري أحمس، الذي كان خصمًا لكل من فرعون مصر والملك حدد بن بدد
إرث الملك حدد بن بدد
ظل إرث الملك حدد خالدًا في تاريخ الأردن القديم، إذ أسس دولة قوية كانت بمثابة قلب العالم القديم في التجارة والسياسة، وأسهمت إنجازاته في تشكيل ملامح الحضارة الأدومية الأردنية التي امتدت لقرون. لقد كان قائدًا استثنائيًا، جمع بين الحزم والقوة والانفتاح والازدهار، ما جعل عهده أحد أعظم العصور في تاريخ المنطقة
مملكة أدوم الأردنية كانت غنية بالموارد الطبيعية، إذ شكلت مصدرًا رئيسًا للنحاس، والأحجار الكريمة، والملح، والقار، والأعشاب الطبية والعطرية، والأسمدة الطبيعية، بالإضافة إلى المنغنيز وأدوات التحنيط. فلم يكتف الملك حدد بن بدد باستغلال هذه الثروات، بل عمل على تطوير صناعاتها، فجلب الحرفيين الفينيقيين إلى بلاده، ليصنعوا الأدوات، والأواني، والأسلحة، والقوارب، والتحف، مما أسهم في ازدهار التجارة المحلية والدولية. وهكذا، كان حدد بن بدد من أوائل الملوك الذين أسسوا مشاريع الاستثمار الخارجي والمناطق الاقتصادية الحرة، ما عزز مكانة مملكته في التجارة الإقليمية. ولم تكن أدوم مجرد مملكة تجارية وصناعية، بل كانت أيضًا قوة زراعية غنية بالإنتاج الطبيعي والحيواني. كما أسس الملك حدد بن بدد جامعة للعلوم البحرية في عصيون جابر (إيلة، أو إيلات الحالية)، حيث كان التدريس يجرى بالحروف الفينيقية، التي كانت الأبجدية الرسمية للغة الأدومية
الأبجدية الأدومية، مصدر: إرث الاردن
أما نظام الحكم في أدوم، فقد كان فريدًا، إذ لم يكن وراثيًا، بل ملكيًا بالانتخاب. تألفت المملكة من ولايات يديرها حكام يتم اختيارهم من قبل وجهاء المجتمع، ليشكلوا مجلس الدولة، الذي ينتخب بدوره الملك من بين الحكام عبر تصويت يجري بمشاركة قادة الجيش، وكبار المسؤولين، ووجهاء القوم. اعتمد الملك حدد بن بدد في حكمه على ثلاثة ركائز أساسية: الوطنية، والشرعية، والهوية. وتميز بعقلية سياسية بارعة في بناء التحالفات، فكان يسعى إلى تحقيق الاستقرار والنمو عبر الدبلوماسية والتعاون الإقليمي، متجنبًا الحروب قدر المستطاع، لإيمانه بأنها تهلك البلاد وتستنزف مواردها. ومن خلال تحالفاته الذكية مع الفراعنة وملوك كنعان وحكام المنطقة، نجح في تحقيق نهضة اقتصادية واستقرار سياسي لمملكته، ما جعلها نموذجًا يحتذى به في إدارة الدول خلال تلك الحقبة
أسس الملك حدد بن بدد
أول جامعة للعلوم البحرية في التاريخ
حدد بن بدد، الملك الأردني المؤسس، تميز بقدرته الفائقة على استغلال الفرص السياسية والاقتصادية لتعزيز نفوذه وترسيخ حكمه. فعندما طلب بنو إسرائيل من نبيهم موسى عليه السلام تزويدهم بالبقول والخضروات، مثل الفول والعدس والبصل والقثاء والثوم، رأى في ذلك فرصة استراتيجية لتحويل مملكته إلى مركز تجاري رئيسي يلبي احتياجاتهم. ومن خلال فرض شروط صارمة، تمكن من استنزاف ثرواتهم التي جلبوها معهم من مصر، محولًا حاجتهم إلى مصدر اقتصادي يدعم قوة مملكته ويوسع نفوذه.اعتلى الملك حدد بن بدد عرش المملكة الأردنية الأدومية عبر الانتخاب واختيار مجلس ولايات الدولة، ليصبح قائدًا استثنائيًا حكم لما يقارب نصف قرن. خلال فترة حكمه، خلد اسمه في التاريخ كواحد من أعظم الملوك الأردنيين، محققًا إنجازات فريدة لم يسبقه إليها أحد من ملوك الأدوميين أو غيرهم. شهدت المملكة في عهده نهضة غير مسبوقة، حيث ترسخت أركان الاستقرار والأمن والحرية والعدالة. وأرسى أسس الدولة الوطنية التي ضمن فيها المواطنون حقوقًا متساوية وواجبات عادلة، ليصبح بحق الملك المؤسس الذي وضع اللبنات الأولى لنظام حكم يسوده العدل والحرية للجميع
عاش الملك حدد بن بدد في عهد رعمسيس الثاني وابنه مرنبتاح، حيث شهد فترة التسخير الفرعوني وحقبة غرق الفرعون والتيه الذي استمر أربعين عامًا. وعلى الرغم من التحديات الكبرى التي أحاطت بعصره، فإنه ظل ثابتًا في الحكم دون تردد أو ضعف، محافظًا على حقوق بلاده وشعبه، وراسخًا في قيادته حتى وفاته قبل انتهاء التيه. لقد كان ملكًا لا يُضاهى، استطاع أن يحقق لدولته ما لم يستطع تحقيقه أي ملك آخر
الملك الأردني المؤسس حدد بن بدد: قائد حكيم ورمز للعدالة
شهدت المملكة الأردنية الأدومية في عهد الملك المؤسس حدد بن بدد نموذجًا متفردًا في الحكم والإدارة، حيث كان نظام الحكم قائماً على اختيار الملك من بين حكام الأقاليم، وفق آلية دقيقة تضمن وصول الأكفأ والأجدر إلى سدة العرش. لم يكن انتقال الحكم قائماً على الوراثة، بل على القدرة والكفاءة، وهو ما أكدته المصادر التاريخية، ومنها العهد القديم، الذي أشار إلى تعاقب ملوك من أقاليم وعائلات مختلفة، ما يعكس طبيعة النظام السياسي القائم على التنوع والعدالة
كان الملك حدد بن بدد يجسد قوة الدولة وهيبتها، لكنه لم يكن فوقها، بل كانت الدولة والشعب في صدارة الأولويات. لقد كان الحكم عند الأدوميين الأردنيين مسؤولية عظيمة تتطلب الحنكة والإدارة الرشيدة، ولهذا لم تكن العاطفة أو القرابة عوامل مؤثرة في اختيار الملوك، بل كانت الكفاءة والقدرة على مواجهة التحديات وبناء الدولة وتأمين استقرارها. فحكمه ارتكز على تحقيق الأمن والاستقرار، وتنمية البلاد، وتأمين التجارة، وضمان ازدهارها الداخلي والخارجي، مع حماية حدود المملكة ومصالح شعبها
إلى جانب مهارته في الحكم، كان عهد حدد بن بدد رمزًا للحرية الدينية والتسامح، إذ وفّر لكل من عبر أراضي المملكة حرية العبادة والتعبير، مما عزز مكانة المملكة الأردنية الأدومية كمحطة رئيسية للقوافل التجارية التي مرت عبرها من شتى بقاع الأرض. لقد أدرك أن التسامح الديني ليس مجرد قيمة أخلاقية، بل ركيزة أساسية لازدهار الاقتصاد والتجارة. فالتجار والعابرون كانوا يشعرون بالأمان على أنفسهم وأموالهم، ما جعل المملكة وجهة مفضلة للتبادل التجاري والتفاعل الحضاري
وتشير بعض المصادر إلى أن الحرية الدينية التي اتسم بها عهده ظهرت في سياقات مختلفة، ومنها ما ورد في سورة الكهف عن زمن حكمه، إذ لم يواجه المؤمنون بالله الواحد أي اضطهاد، بل كانوا يتمتعون بحرية العبادة. وهذا يعكس مدى رقي الدولة الأردنية الأدومية في إدارة التنوع الديني، ويجعل من الملك حدد بن بدد نموذجًا فريدًا في التاريخ السياسي القديم للحكم العادل والإدارة الحكيمة
تميزت دولة الأدوميين، تحت حكم الملك المؤسس حدد بن بدد، بنهج سياسي فريد يرتكز على الحرية الدينية والتسامح العقائدي. فقد كانت المعتقدات المختلفة تمارس بحرية تامة، حيث لم يكن هناك قمع لأي فكر ديني، سواء كان القائمون عليه من عبدة الأصنام أو من المؤمنين بالإله الواحد. ومع ذلك، كان هناك قانون صارم يحظر الإساءة إلى عقائد الآخرين، أو تدمير أصنامهم، أو السخرية من عباداتهم، مما كفل بيئة من التعايش السلمي بين جميع الطوائف
وقد انعكس هذا النهج المتسامح إيجابياً على ازدهار الاقتصاد والتجارة، حيث استقطبت الدولة الأدومية القوافل التجارية من مختلف أنحاء المنطقة. فكان لكل محطة استراحة معبد يتيح للتجار ممارسة شعائرهم الدينية، بغض النظر عن معتقداتهم. وإذا كان المعبد يضم أتباع ديانات متعددة، تم ترتيب أوقات مخصصة لكل مجموعة لتأدية طقوسها، ثم تحفظ أصنامهم في زاوية المعبد لحين عودة أتباعها
كان الكهنة الأدوميون يشرفون على تنظيم هذه الممارسات، ويضمنون عدم المساس بأي معتقد أو رمز ديني، مقابل هبات يقدمها المتعبدون. ونتيجة لهذا التنظيم الدقيق، كشفت الحفريات الأثرية عن وجود عدة أصنام متجاورة، مما يعكس سياسة الاحتفاظ بها لتلبية احتياجات القوافل التجارية المتعاقبة
لقد كانت هذه السياسة، التي أرساها الملك حدد بن بدد، قرارًا استراتيجيًا وطنياً عزز الاستقرار الداخلي، ورسخ مكانة الأدوميين كقوة تجارية وحضارية كبرى. وقد مكنهم هذا النهج من الاستمرار والازدهار لآلاف السنين بل والتوسع الجغرافي، بفضل أسلافهم الحوريين الأردنيين. وهكذا، لم تكن عقيدتهم الدينية قائمة فقط على التعدد والتنوع، بل كانت عقيدتهم السياسية تستند إلى فكر مستنير يؤمن بحرية الاختيار والتعايش السلمي، ما جعل دولتهم مثالًا يُحتذى به في الاستقرار والرخاء
التحالفات الإقليمية ونهضة الدولة
:لم يكن الملك حدد قائدًا عسكريًا فقط، بل كان دبلوماسيًا بارعًا، إذ عقد تحالفات استراتيجية مع العديد من الملوك، أبرزهم
فرعون التسخير (رمسيس الثاني) وابنه فرعون الخروج (مرنبتاح) –
ملك مؤاب بولاق بن صفور، إلى جانب ملوك عمون وباشان، مما عزز الوحدة بين ممالك الأردن القديمة –
ملك فينيقيا، الذي كان شريكًا تجاريًا مهم –
الملك حدد والاتفاق مع النبي موسى عليه السلام
لعب الملك حدد دورًا محوريًا في الأحداث التاريخية المرتبطة ببني إسرائيل، حيث تشير الآية ٦١ من سورة البقرة إلى الاتفاق الذي أبرمه مع النبي موسى عليه السلام، والذي وضع بني إسرائيل تحت الذلة والمسكنة وفق مشيئة الله تعالى. كما يُعتقد أن الإشارة إليه وردت أيضًا في الآية ٧٩ من سورة الكهف، بينما تحدثت التوراة في عدة مواضع عن هذا الاتفاق الذي حدد مصير بني إسرائيل في فترة التيه
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا” ( سورة الكهف ٧٩ )”
رسالة سيدنا موسى عليه السلام الاولى الى ملك الاردن الملك الادومي المؤسس حدد بن بدد
وَأَرْسَلَ مُوسَى رُسُلًا مِنْ قَادَشَ إِلَى مَلِكِ أَدُومَ: «هكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ: قَدْ عَرَفْتَ كُلَّ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أَصَابَتْنَا” (عد ٢٠: ١٤)”
كان الملك حدد هو من فرض الحصار على بني إسرائيل في صحراء التيه، مانعًا أي فرد منهم من مغادرة المنطقة المخصصة لهم، وقام بإعدام كل من حاول تجاوز الحدود
وبعد وفاة الملك المؤسس حدد بن بدد، شهدت مملكة أدوم الأردنية تحولات جذرية، إذ تحالف المديانيون مع بني إسرائيل ضد الأدوميين، ما سمح للإسرائيليين بالعبور عبر الأراضي الأردنية نحو البر الشرقي لنهر الأردن، ومنه إلى أرض كنعان بعد أربعين عامًا من التيه. غير أن الإسرائيليين انقلبوا على حلفائهم المديانيين، فأبادوهم غدرًا، وشردوا من بقي منهم
المراجع
د. أحمد عويدي العبادي, الملك حدد بن بدد
د. أحمد عويدي العبادي, الملك حدد بن بدد – الحلقة الثانية