الغساسنة، جزء: ٩ – المرأة الأردنية الغسانية
تتمتع المرأة الأردنية الغسانية بتاريخ طويل مليء بالقوة والشجاعة، حيث لعبت دوراً مهماً في مختلف مجالات الحياة. من الملكات المحاربات إلى الراهبات الملتزمات، قدمت العديد من الشخصيات النسائية الغسانية نماذج ملهمة في السلم والحرب والدين من الملكة ماوية إلى الأميرات الغساسنيات اللواتي شاركن في معارك تاريخية وشؤون دينية
المرأة الأردنية الغسانية
شخصيات نسائية ألهمت المرأة الغسانية
استمدت المرأة الغسانية إلهامها من نماذج نسائية بدوية بارزة، حيث خلّدت ذكرى الملكة البدوية ماوية التي قادت جيوش القبائل في البادية الأردنية الشرقية، وشنّت هجمات شرسة على المصالح الرومانية في المنطقة، مدمّرة إياها بقوة دفعت الرومان إلى عقد اتفاقية صلح معها
كانت الملكة ماوية مثالاً يحتذى للغسانيات، وخاصة الأميرات، ليس فقط في ميادين السلم والحرب، بل أيضًا في المجال الديني. فقد كانت تتبع المسيحية المونوفيزية، وهو مذهب ديني يؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة تجمع بين الطبيعتين البشرية والإلهية. تمكنت الملكة ماوية بفضل نفوذها من فرض هذا المذهب على الرومان، وإجبارهم على الاعتراف به وتعيين القس يعقوب البرادعي مسؤولاً عن المسيحيين من البدو والحضر في الشرق. ظل الأردنيون الغساسنة متمسكين بهذا المذهب، واستمرت شخصية الملكة ماوية تُجسد بالنسبة لهم نموذج الملكة الشجاعة والراعية
لم يكن تأثير المرأة الأردنية الغسانية مقتصرًا على الملكة ماوية، بل امتد ليشمل نماذج أخرى من التاريخ، مثل زنوبيا (الزباء) ملكة تدمر، التي قادت مقاومة طويلة ضد الرومان للدفاع عن مملكتها، وأيضًا مارتيا أوتا سيلا سيفيرا، الملكة الرومانية وزوجة الإمبراطور فيليب العربي. ساهمت هذه الملكة في إرساء حالة من السلم الديني، تمتع خلالها مسيحيو الشرق بالاستقرار بعيدًا عن الاضطهاد
وعلى الرغم من العلاقات المتوترة أحيانًا بين الغساسنة وبعض القبائل العربية، مثل النزاع الذي دار بين الملك الغساني الحارث بن أبي شمر وبني تغلب بسبب سوء استقبالهم له، استطاع الغساسنة تعزيز حضورهم كقوة سياسية مركزية. مثّلت مملكتهم حواضر ومدناً أردنية كانت شاهدة على قوة المرأة الغسانية وتأثيرها الممتد في شتى المجالات
في المقابل، بذل الغساسنة جهودًا حثيثة للدفاع عن وجودهم في المنطقة، مؤمّنين مصالحهم السياسية ومصالح حليفتهم القوية الإمبراطورية الرومانية بشجاعة وثبات
المرأة الغسانية الملكة
الملكة مارية
الملكة الغسانية مارية، التي تنسب إليها أعظم ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة المعروف بـ “الحارث بن مارية” (٥٢٩ – ٥٦٩ م). أشاد الشاعر حسان بن ثابت بالملك الحارث في مرثيته الشهيرة
أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضلِ
كانت الملكة مارية إحدى أميرات مملكة كندة الواقعة شمال الجزيرة العربية. ارتبطت بالأمير الغساني جبلة في زواج جمع بين القوة والسياسة. قاد الزوجان حملة عسكرية شرسة ضد الرومان في فلسطين عام ٥٠٠ ميلادي، ما أثار قلق الإمبراطورية الرومانية من التهديد المتزايد الذي يمثله تحالف الغساسنة مع القبائل الأردنية ضدهم
الأميرة حليمة
تعد الأميرة حليمة واحدة من أشهر الأميرات الغساسنيات، وارتبط اسمها بأشهر معركة في تاريخهم، المعروفة بـ”يوم حليمة”. في عام ٥٤٤ ميلادي، تجدد الصراع بين الغساسنة والمناذرة، وهو نزاع طويل الأمد كان يتصاعد بين الحين والآخر. كانت هذه المعركة تدور حول منطقة استراتيجية هامة تُدعى ستراتا، الواقعة جنوب تدمر، التي كانت تعد نقطة حيوية للقوافل التجارية ومرعى للقبائل البدوية
بدأ المنذر، ملك المناذرة، الهجوم على الأراضي الغسانية، متوغلاً في مناطق نفوذهم. لكن الحارث بن جبلة، ملك الغساسنة، تصدى للهجوم بكل قوة، وانتهت المعركة بانتصار حاسم للغساسنة. حيث تمكن الحارث من هزيمة المنذر بالقرب من قنسرين، ما زاد من توتر العلاقات بين الفرس والروم، وتبادلت الإمبراطوريتان التهم والتراشق السياسي
وقد خلدت الأدبيات الجاهلية هذه المعركة، حيث تغنى الشاعر حسان بن ثابت بـ “زمن حليمة” في أشعاره قائلاً
وتَحسبهم ماتوا زمين حليمَة وإن تأتهم تَحمد ندامهم غَدا
كما ذُكرت معركة “يوم حليمة” في الموروث الشعبي، حيث يقال: “ما يوم حليمة بسِر”، في إشارة إلى الشهرة الكبيرة لهذا اليوم
وقد قادت الأميرة حليمة جيش وطنها إلى النصر، حيث كانت مسؤولة عن توفير المؤونة والعتاد، فضلاً عن تمريض الجرحى. كما شاركت في هذا النصر أميرة غسانية أخرى تدعى أميرة هند
لا عجب في أن تقود الأميرة حليمة جيش الغساسنة، فقد كانت حفيدة الملكة مارية التي قادت الحروب ضد الحامية الرومانية في فلسطين، وجدها جبلة الذي خاض معارك حاسمة ضد الروم. سميت العديد من الأماكن في المنطقة بأسمائها، مثل وادي حليمة ومرج حليمة، ما يخلد ذكراها في الذاكرة الشعبية والأدب، ويضرب بها المثل في حب الوطن والإخلاص له
الملكة الرعلاء
كانت الملكة الرعلاء إحدى ملكات غسان، وقد نسبت إليها ابنها عدي بن الرعلاء. شاركت في معركة عين أباغ الشهيرة، التي دارت بين المناذرة والغساسنة. وقد أنشد عدي بن الرعلاء في هذه المعركة شعراً جاء فيه مطلعه
كم تركنا بالعين عين أباغ من ملوك وسوقة أكفاء
أمطرتهم سحائب الموت تترى إن في الموت راحة الأشقياء
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
ملكات غسانيات أخريات
استنادًا إلى المصادر الشعرية مثل ديوان النابغة وديوان حسان بن ثابت، يمكننا التعرف على العديد من الملكات مثل سلمى، فاختة، الدلفى، ليلى، وهند (حيث ينسب إلى إحداهن الملك الغساني النعمان بن هند). ورغم أن المصادر الأخرى تفتقر إلى تفاصيل حول الحروب التي شاركت فيها هؤلاء الملكات أو الإنجازات التي حققنها، فإن السياق العام يشير إلى أن النساء الغساسنيات كانت تحظى بفرص كبيرة للإنجاز والمساهمة. وكان من المتوقع من الملكات أن يقمن بواجباتهن تجاه شعوبهم بكل التزام
المرأة الغسانية الفنانة
لا شك أن المرأة التي شاركت في الحرب والسلم وكانت حجر الزاوية في المجتمع الأردني الغساني، تركت أيضًا بصمة واضحة في الفنون. وعلى الرغم من نقص المصادر التاريخية الموثوقة، يُعد شعر حسان بن ثابت مصدرًا مهمًا يمنحنا لمحة عن الحياة الاجتماعية للغساسنة، ويعتبره الباحثون وثيقة اجتماعية غنية بالتفاصيل
في أشعاره، يصف حسان بن ثابت بدقة مجالس الغناء، ويذكر “المُسمِعة” أي المغنية، مشيرًا إلى ملابسهن التي تتشابه مع ملابس نساء المجتمع الغساني، مع إضافة الحلي الفاخرة التي يحصلن عليها من عائدات غنائهن. كما يذكر أسماء مغنيات كن يترددن على مجلسه، مثل ليلى وزينب وشذى والنادرة وأم عمر والعامرة ولميس
وكانت للمغنيات في المجتمع الغساني العديد من الألقاب الوظيفية إلى جانب “المُسمِعة”، مثل “مدجِنة”، “داجنة”، “صادحة”، و”رومية”. يمكن اعتبار تنوع هذه التسميات دليلاً على أهمية الغناء والمغنيات في المجتمع الغساني. ولا يمكننا أن نغفل عن الثورة الشعرية التي أحدثتها القيان (المغنيات) في أوزان البحور الشعرية، حيث شكلت وجودهن حافزًا للشعراء للإبداع والتجديد في أشعارهم
الشهيدات الغسانيات
خلدت الملكات الغسانيات ذكرى الشهيدات اللواتي ضحين بحياتهن دفاعًا عن دينهن في وجه الاضطهاد الديني. ففي عام ٥٢٠ ميلادي، قُتل حوالي ١٠٠ امرأة من نجران، التي كانت تحت حكم مملكة كندة ثم تحت حكم الغساسنة. وقد استقبلت الملكات الغسانيات النساء المهاجرات من نجران وقدمن لهن ملاذًا آمنًا، ومن بينهن امرأة تُدعى “رُحُم”، التي ذُكرت كثيرًا كقائدة روحية وملهمة لشعراء الغساسنة
إحدى القصص المؤثرة هي قصة الشهيدة ثاؤذتي وبناتها الثلاث: انسيموس، إبرابيوس، ولانديوس، بالإضافة إلى أبنائها الطبيبين قزمان ودميان. كانت ثاؤذتي امرأة طيبة القلب، قامت بتربية أبنائها على الوفاء للمسيحية. شجعت ابنيها، قزمان ودميان، على دراسة الطب وتقديم العلاج للمحتاجين دون مقابل، بينما كرست بناتها الثلاث حياتهن للكنيسة عبر الرهبنة
كانت ثاؤذوتي معروفة بطيبتها وحنانها، وقد ربّت أبناءها على قيم الإيمان والإخلاص للمسيحية. لكن عندما ارتد الإمبراطور دقلديانوس عن المسيحية وأطلق حملة قمع وتعذيب ضد المؤمنين، واجهت ثاؤذوتي وعائلتها أشد أنواع الاضطهاد. وقفت بشجاعة أمام الإمبراطور لتدين أفعاله القاسية، فأمر بإعدامها بقطع رأسها. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من جسدها حتى ناشد ابنها القديس قزمان سكان المدينة أن يظهروا الرحمة ويدفنوها، وهو ما قاموا به في النهاية. أغضب ذلك الإمبراطور دقلديانوس، فقرر تنفيذ حكم الإعدام في بقية أفراد عائلتها
وفقاً للروايات المسيحية، اعتبر استشهاد ثاؤذوتي وأبنائها شهادة إيمان عظيمة، وذكر أنهم نالوا “إكليل الحياة”. وقد صورت ثاؤذوتي في الأيقونات وهي ترتدي هذا الإكليل تكريماً لبطولتها. كما بنيت في مدينة جرش واحدة من أقدم وأكبر الكنائس تخليداً لذكرى ابنيها القديسين قزمان ودميان، لتبقى تضحيات هذه الأسرة رمزاً للإيمان الراسخ في وجه الاضطهاد
تصوير لثاؤذتي وعائلتها
المرأة والحج
كان المجتمع الغساني في الأردن يعج بالحماسة في موسم الحج المسيحي، حيث كانت المرأة تشارك في الطقوس الدينية بشكل أكبر من الرجال. يذكر الأصفهاني إحدى الأميرات الغسانيات، تدعى ليلى، التي كانت تهتم بالحجاج، تقدم لهم المأوى والطعام، وتساعدهم في رحلتهم. يمكننا الجزم بأن المرأة الغسانية، بفضل رحلات الحج، تمتعت بحرية تنقل كبيرة وامتلكت ذمة مالية مستقلة، مما مكنها من تمويل رحلاتها أو مساعدة الحجاج الآخرين
حظيت المرأة الأردنية الغسانية بلقب “الحاجّة”، وكان من يحمل هذا اللقب يحظى باحترام بالغ. وكان هذا اللقب يرتبط في البداية بصفية بنت ثعلبة، وهي امرأة غسانية قدمت “حق الجوار” للأميرة هند بنت النعمان، آخر أميرة من سلالة المناذرة، التي كانت بدورها مسيحية. وُصِفت صفية بنت ثعلبة بالحاجّة أو الحجيجة (صيغة تصغير وتحبب) وكانت شاعرة مبدعة، ولا تزال الأبيات التي أنشدتها في حادثة إعطاء الأمان للأميرة هند تخلد حسن خلقها
أحيوا الجوار فقد أماتته معا كل الأعارب يا بني شيبان
ما العذر قد لفت ثيابي حرة مغروسة في الدر والمرجان
بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى ذات الحجال وصفوة النعمان
كان الغساسنة من المؤمنين المخلصين الذين يحرصون على الاحتفال بالأعياد المسيحية، وكانت المرأة الغسانية مرتبطة روحياً بعيد السيدة مريم العذراء. وفي سجلات الكنيسة، نادراً ما يُذكر الذكور في هذه المناسبات، بينما كانت النساء الغسانيات هن من يتولين التحضير لهذه الأيام المقدسة
لم تقتصر حياة الرهبنة على الرجال فقط، بل كانت النساء الغسانيات أكثر ميلاً لهذه الحياة، “التأسي بالمسيح” كان أسلوب حياة تتبعه الراهبات، حيث ينعزلن عن الملذات ويخصصن حياتهن للعبادة وأعمال الخير. وقد تغنى الشاعر امرؤ القيس، الذي يُنسب إلى الغساسنة من جهة والدته، بـ “الرواهب – الراهبات”، كما ورد ذكرهن في شعر حسان بن ثابت. وكان تنظيم الرهبنة للنساء الغسانيات يفرق بين الراهبات العاديات والراهبة الأم التي كانت تُسمى حيجمانة أو هيجمانة
المراجع
أبحاث إرث الأردن, المرأة الأردنية الغسانية، ملكة ومحاربة وأكثر
أبحاث إرث الأردن، الحياة الاجتماعية عند الغساسنة الأردنيون
الأسد، ناصر الدين . (1969)، القيان والغناء في العصر الجاهلي (ط2)، دار المعارف – مصر
Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part Dumbarton Oaks, Harvard University (1996)
العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق – سورية