ثقافة الغسولية، جزء: ٣ – النجمة الغسولية

تعد اللوحات الجدارية المكتشفة في موقع تليلات الغسول بالأردن، ومنها النجمة الغسولية، من أبرز الشواهد على تطور الفنون البصرية في العصر الحجري النحاسي. تعكس هذه الجداريات المعقدة جوانب من الحياة الاجتماعية والدينية للمجتمع الغسولي، وتتميز بتصاميم هندسية دقيقة ومشاهد تصويرية تحمل دلالات ثقافية ودينية هامة. تكشف هذه الأعمال الفنية عن تقنيات زخرفية متقدمة، مما يجعلها وثيقة بصرية فريدة في تاريخ الفنون ما قبل الكتابة

اللوحات الجدارية التي تعود إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد من موقع تليلات الغسول في الأردن تعتبر من أبرز الشواهد على تطور الفنون البصرية في العصر الحجري النحاسي (٤٧٠٠-٣٧٠٠ قبل الميلاد)، تحمل هذه الجداريات، التي تمثل إحدى أقدم وسائل التواصل البصري في مجتمعات ما قبل الكتابة، قيمة ثقافية وفنية بالغة الأهمية. تتميز الجداريات بتصاميمها الهندسية المعقدة ومشاهدها التي تعكس تركيبة مجتمعية متطورة وربما تصور مناظر طبيعية مبكرة. أنتجت هذه الأعمال باستخدام تقنية “البون فريسكو” على يد فنانين متخصصين، مما يجعلها وثيقة بصرية فريدة تكشف جوانب غنية من ثقافة لم تحظ بالكثير من الدراسة. هذه الجداريات تمثل معلمًا بارزًا في تاريخ الفنون التصويرية لعصور ما قبل التاريخ، وتطرح تساؤلات مثيرة حول دور الفن في تشكيل الهويات الثقافية لتلك المجتمعات

تم اكتشاف اللوحات الجدارية متعددة الألوان في موقع تل غسول قرب البحر الميت في الأردن عام ١٩٣١، وهو اكتشاف أثار دهشة المجتمع الأثري (مالون ١٩٣٤). فقد كان هذا الفن الجداري متعدد الألوان على نطاق واسع غير معروف في عصور ما قبل التاريخ حتى ذلك الحين. في الواقع، أدهشت التطورات التقنية والبراعة الأيقونية لهذه الأعمال الفنية العلماء، مما دفعهم للاعتقاد بأن الثقافة التي أُنتجت فيها هذه اللوحات، والمعروفة باسم الثقافة الغسولية (نسبةً إلى تل غسول)، لا يمكن أن تكون من عصور ما قبل التاريخ. إلا أنه أصبح من المعروف اليوم أن الثقافة الغسولية امتدت لنحو ألف عام (حوالي ٤٧٠٠-٣٧٠٠ ق.م)، وشغلت موقعًا محوريًا بين مجتمعات العصر الحجري الحديث القروية في الألفية السادسة قبل الميلاد، وبداية العصر البرونزي المبكر في الألفيتين الرابعة والثالثة قبل الميلاد

وعلى الرغم من العثور على جص جداري ملون في حفريات سابقة، مثل تلك التي أجريت في هيراكونبوليس “نخن” (العاصمة الدينية والسياسية لصعيد مصر وهي من أقدم مدن مصر القديمة)، إلا أن اللوحات الجدارية الغسولية المكتشفة تتميز بمواضيع هندسية معقدة وتصويرية فريدة، تحمل طابعاً هندسياً متقناً مزينة بألوان رائعة متعددة. يشكل هذا الموقع مرحلة انتقالية بين الفنون غير المكتملة نسبياً في العصر الحجري الحديث والفن الرسمي الذي ازدهر في العصر البرونزي المبكر. ويظل هذا التحول محط اهتمام، حيث يعتبر الفن الجداري الغسولي نقطة تقاطع بين هذين التقليدين المتميزين، إذ يمزج بين عناصر من كلاهما، بينما يقدم بعضاً من أجمل الإبداعات الفنية المعروفة في العالم القديم

الشخصيات البارزة (العصر النحاسي الأوسط حوالي ٤٢٠٠ قبل الميلاد)

لوحة الشخصيات البارزة

امتدت اللوحة المرسومة على امتداد قاعدة جدار يبلغ طوله ٤٫٥ أمتار وارتفاعه نصف متر، مكونة الجزء السفلي من مشهد أكبر بكثير. يصور المشهد الجانبي زوجين من الأقدام، أحدهما يرتدي صندلًا، وكلاهما مستندان إلى مساند أقدام. خلفهما تظهر أربعة أو خمسة أزواج أخرى من الأقدام التي تبدو واقفة. الشكلان الجالسان والواقفون يظهرون على خط أرضي أصفر مميز، ويواجهون نجمة حمراء وصفراء، بينما يظهر في الجزء السفلي شخص صغير داكن البشرة فوق خط الأرض

يحمل هذا المشهد المجزأ أهمية فنية بارزة بفضل ظهور الخط الأرضي في مرحلة مبكرة جدًا، إضافة إلى أهميته الأثرية باعتباره دليلًا على التنظيم الاجتماعي. بينما اقترح إليوت أن المشهد قد يمثل مصلين يقدمون الولاء لزوجين إلهيين أو لكاهن وكاهنة في طقوس دينية، يرى ستاغر أن سواء كان المشهد يصور عالم الآلهة أو الحكام البشريين، فإن الرمزية الهرمية للوحة واضحة. تقدم هذه الاكتشافات من إن جيدي ونحال مشمار وغاسول دليلاً على وجود نخبة دينية أو كهنوتية نشطة في المجتمع الكالكوليتي

النجمة الغسولية (العصر الحجري النحاسي المتأخر ٤٠٠٠ -٣٩٠٠ ق.م) 

لوحة جدارية مذهلة تنتمي هذه اللوحة الجدارية المجزأة إلى جدار يمتد على مساحة ٨ × ٥٫٥ متر. وكانت محاطة بقطع فخارية وصوان وعظام عالية الجودة كانت الحجرة الكبيرة المزخرفة تنتمي إلى مجمع متعدد الغرف يحتوي على سبعة مدافن للرضع وقطعة خزفية غير عادية ذات تصميم غير عادي لطيور ورباعي الأرجل، مما دفع المنقبين إلى التفكير فيما إذا كان المبنى ربما كان ملاذاً منزلياً من نوع ما

تتألف القطعة المركزية للتصميم المرسوم من نجمة ذات ثمانية أشعة مصممة بدقة بالغة، يبلغ قطرها ١٫٨٤ متر. تتناوب أشعة النجمة بين اللونين الأحمر والأسود، مع أطراف ذات لون موحد، وتعلوها خطوط بيضاء متموجة تمتد عرضياً باتجاه المحور، مما يضفي إحساساً ديناميكياً بحركة متلألئة. يتكون المركز المعقد من عدة مناطق متداخلة تشمل دوائر، مثلثات، ومضلعات، تُكوّن معاً نجمتين إضافيتين بثمانية أشعة لكل منهما. ينسجم هذا التصميم الهندسي المذهل مع مجموعة متنوعة من الزخارف التصويرية والرمزية. ورغم تعرض الجانب الأيسر من اللوحة الجدارية لأضرار كبيرة، إلا أن الأجزاء المتبقية توحي بوجود ثلاثة أشكال ترتدي أردية وأقنعة مزخرفة بدقة، في مواجهة النجمة المهيبة

 النجمة الغسولية المكتشفة في الثلاثينات و موجودة حالياً في القدس

الشكل البعيد يبدو وكأنه يرتدي رداءً أصفر مزيناً بتصميمات مثلثة سوداء، ويضع قناعاً مزوداً بقرون منحنية وأذنين صغيرتين. التمثال الثاني من اليسار يرفع يده بأصابع طويلة ممتدة إلى الأعلى، مرتدياً رداءً بألوان الأحمر والأسود والأبيض، مع قناع مخطط بالأبيض والأسود، يتميز بعينين كبيرتين محدقتين وقطعة علوية صفراء. تحت اليد المرفوعة مباشرة، يظهر شخص مقنع أصغر حجماً

يرتبط التصميم الشبيه بالحيوان، الذي يجلس داخل أشعة الربع العلوي الأيسر، بالزخرفة النجمية بشكل وثيق. أشار إبشتاين إلى أن هذا الشكل يشبه الماعز المحملة، التي كانت رمزاً (عنصراً أيقونياً) مهماً في المعجم الفني الغسولي. الملامح مثل الأذنين الصغيرتين الشبيهتين بالكبريت، والقرون، واللحية، والأعضاء التناسلية الذكرية البارزة تجعل هذه النظرية مقنعة. ومع ذلك، فإن الصورة منمقة للغاية، حيث يظهر الوعاء المرسوم على ظهر الحيوان هلالاً مع تصاميم خطية ونقاط بيضاء دقيقة، مما يثير تشابهاً مع الأبراج الفلكية أكثر من الأواني الخزفية الغسولية

نظرًا لاهتمام سكان تليلة غاسول الكبير بالسماء الليلية، الذي يظهر جليًا من خلال النجم الكبير والزخارف النجمية الأخرى على اللوحات الجدارية المختلفة، بالإضافة إلى التصميم المحتمل لكوكبة النجوم في اللوحة الجدارية “الهندسية” المصبوغة باللون الداكن، فمن المرجح أنهم قد ربطوا الأبراج الهامة بأشكال الحيوانات والأشياء المألوفة لديهم، تمامًا كما فعلت العديد من الثقافات الأخرى عبر التاريخ على مدى آلاف السنين

رسم لوحة النجمة الغسولية 

في الجزء السفلي الأيسر من النجمة يظهر تصميمان خطيان مميزان. الأول عبارة عن خط مائل مزود بمثلثات متصلة، يذكّر بممر متدرج. أما التصميم الثاني فيوحي بمخطط معماري لهيكل مكون من حاويتين صغيرتين، ربما يعكس الطراز المعماري للهياكل العبادية المفتوحة من العصر الحجري الكلكولي


فوق الشعاع الأيمن السفلي للنجمة، يوجد تصميم هندسي إضافي مستوحى أيضًا من مخططات معمارية. وقد أشار الباحثون إلى وجود ارتباط محتمل بين هذا التصميم المعقد ومجمع مقدس يعود إلى العصر الحجري النحاسي. ويبدو أن المخطط تم رسمه من منظور علوي، حيث يمثل مدخلًا لمجمع معبد مصور باللون الأحمر. يتميز التصميم بوجود أعمدة محيطة تؤدي إلى فناء مسوّر أو ما يعرف بمعبد تيمينوس (قطعة أرض مخصصة أو مقطوعة عن الاستخدام اليومي ومخصصة كمجال خاص لتبجيل حاكم زمني أو إله)

أشار مالون في تحليله الأولي إلى أن هذا التراكب لم يكن صدفة، مؤكدًا أن شعاع النجم والعنصر المعماري قد تم رسمهما على الطبقة نفسها. ويدل هذا على أن “المعبد” والنجمة كانا يُعتبران مرتبطين بشكل وثيق، مما قد يشير إلى أن المعبد كان جزءًا من عبادة إله تعود إلى العصر الحجري الكالكوليتي، يُرمز إليه بالنجم ذي الثمانية أشعة

رسم لوحة النجمة الغسولية 

في الربع العلوي الأيمن، توجد مجموعة متنوعة من الزخارف مثل العناصر الحمراء المنحنية وجهاز متعدد الشقوق، التي اقترح مالون أنها آلات موسيقية تشبه الأبواق والعود. تتشابه هذه العناصر، إلى جانب الأشكال المكسوة والمقنعة والسمات المعمارية، مع تلك الموجودة في لوحة هينيسي الجدارية “الموكب”. ربما تعكس هذه الزخارف أهمية الموسيقى في الطقوس العباديّة، كما يتضح من زخارف الأختام الأسطوانية في العصر البرونزي المبكر في المنطقة. من المحتمل أن تعكس اللوحتان الجداريتان أدوات عبادية مشابهة وتذكر بالاحتفالات والمواكب التنكرية بين الهياكل المقدسة في العصر الحجري النحاسي

وفقًا للتقييم الفني للنجمة الغسولية، لا يمكن اعتبار التراكيب التي تبتعد عن الأسلوب السردي الخطي التقليدي على أنها “غير منظمة”. فالأعمال ذات التعقيد العالي، مثل “نجمة الغسول”، تبدو وكأنها تمزج بين عنصر مركزي مهيمن (النجمة متعددة الأوجه) وعناصر محيطة تساهم في إبراز الأحداث التي تجري في سياق احتفالي طقسي. وتشمل هذه الأحداث مواكب لأفراد ملثمين، وحيوانات مقدسة، ومجمعات ذات طابع قدسي

المراجع

MDPI, Early Visual Communication: Introducing the 6000-Year-Old Buon Frescoes from Teleilat Ghassul, Jordan

Previous:
الثقافة الغسولية، جزء: ٢ – الاكتشافات الأثرية
Next:
الثقافة الغسولية، جزء: ٤ – اللوحات الجدارية