الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ١ – الحميمة: قاعدة انطلاق الدعوة العباسية

في أواخر القرن الأول الهجري/ أوائل القرن الثامن الميلادي، بدأت حركة سياسية عباسية تسعى لإنهاء حكم الدولة الأموية وتولي الخلافة، مما أسفر عن تأسيس الدولة العباسية عام ١٣٢ هـ/٧٥٠ م. استمرت هذه الدولة لأكثر من خمسة قرون حتى سقوطها بيد المغول عام ٦٥٦ هـ/١٢٥٨ م، لتصبح بذلك أطول فترة شهدها نظام الخلافة الإسلامي

كانت الأراضي الأردنية محطةً مهمة لانطلاق الدعوة العباسية، فقد اتخذها بنو العباس قاعدة سرية بعيدة عن أنظار السلطة الأموية في دمشق، للتحضير لثورتهم ضد الحكم الأموي. عندما شعر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بتهديد محتمل لحكمه، سعى إلى إبعادهم عن دمشق، فانتقل علي بن عبد الله بن العباس وأسرته إلى قرية الحميمة في منطقة الشراة، وهي منطقة استراتيجية تقع على طريق الحج والتجارة جنوب الأردن، مما سمح له بالتواصل مع أهل الحجاز وغيرهم دون لفت انتباه الأمويين

وقد استغل علي بن عبد الله هذا الموقع الاستراتيجي ليبقى على اطلاع بما يجري في الدولة الأموية من أحداث، وجمع المعلومات وتحقيق الدعم من حلفائه. ومن الحميمة، بدأت الدعوة العباسية في التوسع تدريجيًا، حتى بلغت ذروتها بالإطاحة بالدولة الأموية وتأسيس الدولة العباسية. وفي ليلة الجمعة، ١٣ ربيع الآخر من عام ١٣٢ هـ (٧٥٠ م)، تمت مبايعة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبد المطلب بالخلافة، لتُعلن بذلك نهاية العصر الأموي وبدء العصر العباسي

ومن خلال هذه الأحداث، يظهر دور الأردن المحوري في تأسيس الدولة العباسية، حيث كانت الحميمة نقطة انطلاق الدعوة العباسية، وشهدت تلك القرية التي تقع في جنوب الأردن بين البتراء وآيلة (العقبة) تحولات كبرى أثرت في مجرى التاريخ الإسلامي. وعلى الرغم من أهمية الحميمة كمقر للعباسيين آنذاك، إلا أن دورها تقلص بعد انتقالهم إلى الكوفة ثم إلى بغداد، التي أصبحت فيما بعد عاصمة الدولة العباسية. مع مرور الزمن، تراجعت أهمية قرية الحميمة تدريجيًا حتى تحولت إلى أطلال، رغم أن بعض العشائر واصلت التخييم فيها أحيانًا حتى القرن التاسع عشر

وتجدر الإشارة إلى أن الحميمة، المعروفة قديمًا بالحوارة، قد أسسها الملك النبطي الحارثة الثالث في القرن الأول الميلادي، ومرت عليها عدة حضارات متعاقبة، منها الحضارات النبطية والرومانية والبيزنطية والأموية، مما يعكس غنى الأردن التاريخي وتنوعه الثقافي عبر العصور

الحميمة

تقع الحميمة على بُعد حوالي ٣٠٠ كم جنوب عمّان، وعلى بُعد حوالي ١٠٠ كم شمال مدينة العقبة، الحميمة، الأردن 

كانت الحميمة، التي عُرفت سابقًا باسم حوارة، واحدة من المستوطنات الرئيسية في منطقة حسنى جنوب الأردن. واستمر السكن فيها دون انقطاع منذ عام 90 ق.م حتى نهاية العصر الأموي. ويبلغ متوسط الهطول المطري السنوي فيها حوالي 80 ملم، مما يجعلها مثالًا جيدًا على كيفية التكيف مع بيئة صحراوية جافة والعيش فيها

كشفت عمليات التنقيب والمسح الأثري في موقع الحميمة عن عدد من المباني والمنشآت التي يعود تاريخها إلى العصور النبطية، الرومانية، البيزنطية، والأموية. تشمل هذه المنشآت وحدات سكنية، وحصناً رومانياً كبيراً، وحماماً من العصر الروماني المتأخر، إضافة إلى خمس كنائس بيزنطية، وقصر بجانبه مسجد من العصر الأموي، وبركتين، وأكثر من خمسين خزاناً محفوراً في الصخر لتجميع وتخزين المياه، فضلاً عن مجموعة من السدود. كما وُجدت قناة مائية تمتد لمسافة 26 كيلومتراً، كانت تنقل المياه من ثلاثة ينابيع طبيعية في رأس النقب إلى بركة تقع عند الحافة الشمالية لموقع الحميمة

تذكر الروايات التاريخية أن الملك النبطي الحارث الثالث (٧٨-٥٢ ق.م) هو من أسس مستوطنة الحميمة. وبفضل موقعها على الطريق التجاري الممتد بين البتراء وأيلة (العقبة)، ازدهرت الحميمة بمرور القوافل التجارية عبرها. ومع إنشاء طريق تراجان الجديد (١١١-١١٤م) الذي ربط بين بصرى جنوب الشام والعقبة، ازدادت أهمية الحميمة كمحطة تجارية هامة

وتشير المصادر العربية إلى أن الحميمة كانت مسكناً لبعض أفراد الأسرة العباسية؛ ففي حوالي عام ٧٠٠م، انتقل علي بن عبدالله بن العباس من الحجاز إلى سوريا، واستقر في أذرح قرب البتراء قبل أن يشتري الحميمة، حيث أنشأ فيها قصرًا وحديقة. من هذا الموقع الاستراتيجي، الذي كانت تمر به قوافل الحجيج والتجار، بدأ العباسيون بإرسال دعاتهم إلى المناطق المجاورة وتهيئة الأجواء للإطاحة بالحكم الأموي، حتى تمكنوا من تحقيق ذلك في عام ١٣٢ هـ / ٧٤٩م

وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من الخليفتين أبو العباس السفاح (حكم في الفترة ١٣٢ – ١٣٦هـ / ٧٤٩ – ٧٥٤م) وأبو جعفر المنصور (حكم في الفترة ١٣٦ – ١٥٨هـ / ٧٥٤ – ٧٧٥م) كانا قد ولدا وترعرعا في الحميمة قبل انتقالهما إلى العراق

أظهرت الحفريات الأثرية وجود قصر كان يسكنه أفراد الأسرة العباسية، بالإضافة إلى مسجد مجاور له. حيث يتخذ القصر، الذي يقع في الطرف الشرقي من الحميمة، شكلاً شبه مستطيلي، فالمدخل الرئيسي للقصر موجود في الجدار الشرقي، حيث يؤدي إلى ممر ينتهي في الطرف البعيد بمنطقة مكشوفة ذات شكل غير منتظم. من الملاحظ أن القصر يفتقر إلى الأبراج نصف الدائرية التي تدعم عادة الأسوار المحيطة به، كما أنه لا يتبع النظام التقليدي في توزيع الغرف وفقاً لنمط “البيت”، حيث تتكون كل وحدة من قاعة متوسطة تحيط بها غرف على جانبيها. وبذلك، يختلف هذا القصر عن القصور الأموية الصحراوية مثل المشتى والخرانة والقسطل، وربما يكون تصميمه قد تأثر بأسلوب العمارة الحجازية

مقابل المدخل في الجهة الغربية، توجد غرفة مزخرفة برسوم جدارية (فريسكو) تضم أشكالًا نباتية ونماذج هندسية. وفي داخل هذه الغرفة، تم العثور على رقائق من العاج المنقوش عليها زخارف متنوعة، بما في ذلك صورة لمحارب يرتدي خوذته وملابسه الحربية. على بعد ١٠ أمتار في الجنوب الشرقي من القصر، يقع مسجد، قُسم داخل المسجد إلى قسمين متساويين بواسطة عقد مستعرض، مع بروز محراب من الجدار الجنوبي

أما بالنسبة لطريقة تأريخ المبنى، فإن بعض المصادر العربية مثل البلاذري والبكري تشير إلى أن الحميمة كانت مقرًا لسكن الأسرة العباسية. كما أن القطع والمكتشفات التي تم العثور عليها أثناء الحفريات الأثرية تؤكد أن البناء يعود إلى العصر الأموي

 موقع الحميمة

أبرز المواقع العباسية في الأردن

الحميمة تعتبر من أبرز المواقع العباسية في الأردن. كانت قاعدة انطلاق الحركة العباسية التي أسقطت الخلافة الأموي

القصر العباسي في الحميمة كشفت الحفريات الأثرية عن قصر يعود إلى زمن علي بن عبد الله بن العباس، جد الخلفاء العباسيين. القصر كان مقرًا للعائلة العباسية قبل انتقالهم إلى العراق

المسجد العباسي في الحميمة بجوار القصر، عُثر على مسجد صغير بسيط التصميم بمحراب بارز، هذا المسجد يُعد من أقدم الأمثلة على المساجد العباسية

العقوق العباسي للاردن والاردنيين

عندما بلغ الأمويون أوج مجدهم وقوتهم، وعاشوا في أمان واطمئنان في أرجاء الأردن، من باير في الجنوب إلى أم الجمال في الشمال، منحوا أحد أبناء عمومتهم من بني العباس من قريش أرضًا واسعة خصبة غزيرة المياه وآمنة، وهي الحميمة. تقع هذه الأرض الهادئة في أحضان جبال رم، وتطل عليها مرتفعات النقب، وكلا الموقعين ضمن جبال الشراة في جنوب الأردن. وكانت مياه نبع غزير تتدفق إلى الحميمة من سفوح جبل النقب الغربي في الأردن، وتجري عبر قنوات فخارية بناها الأنباط في السابق، وظلت هذه القنوات صالحة في عصر العباسيين لأغراض الري والزراعة والاستخدام البشري

كان علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، من بني هاشم، هو الشخص الذي مُنح هذه الضيعة. لم يخطر ببال الأمويين أن ابن عمهم، الذي أكرموه ورفعوا من شأنه ومنحوه الأرض والحرية، سيبدأ التفكير في تغيير نظام الحكم الأموي وإقامة دولة عباسية تنسب إلى العباس بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم. قام علي بن عبد الله بزراعة أربعمائة شجرة زيتون في أرضه التي منحها له الأمويون في منطقة الحميمة

رأى علي بن عبد الله العباسي أن الدولة الأموية، رغم قوتها، كانت تعتمد بشكل أساسي على السلطة العسكرية والسعي لتثبيت حكمها من خلال القوة، بدلاً من تأسيسها على فكر سياسي أو ديني يجمع الأمة حولها. وقد أسس معاوية بن أبي سفيان أسرة بني أمية كحاكمة للدولة، لكن المؤسس الحقيقي لنظامها الإداري والسياسي كان الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي وضع الأسس المركزية التي دعمت سيطرة الدولة الأموية

رأى العباسيون، ومن بينهم علي العباسي، أن الدولة التي تعتمد فقط على القوة دون شرعية فكرية أو دينية لن تكون قادرة على الاستمرار طويلاً، إذ سرعان ما سيتزعزع بنيانها إذا ضعفت قبضتها العسكرية. ولذا عمل العباسيون على بناء دعوة تستند إلى الفكر والشرعية الدينية، معتبرين أن هذا النهج سيكسبهم ولاء الأمة ويمنح دولتهم الديمومة والاستقرار، وهو ما افتقرت إليه الدولة الأموية، التي اعتمدت في أغلب فتراتها على القهر لضمان استمرار حكمها

بناءً على ذلك، اعتمد العباسيون على فكرة أن ذرية العباس، عم النبي محمد عليه وسلم، ينتمون إلى آل البيت، وبالتالي هم الأجدر بالخلافة. كما اعتبروا أن بني هاشم، الذين ينتمي إليهم العباسيون، هم أسياد قريش و أولى بالحكم من بني أمية. وبذلك، تبنوا فكرة القضاء على جميع المنافسين المحتملين، سواء من الأمويين أو من العلويين من ذرية الحسن والحسين

نتيجة لذلك، شن العباسيون حملة إبادة ضد البيت الأموي في كافة أنحاء الدولة العباسية، حتى تم القضاء على جميع أفرادهم. كما مارسوا الاضطهاد ضد ذرية الحسن والحسين و اعتقلوهم، وفي بعض الأحيان قتلوا منهم من كانوا يرونهم أصحاب الحق الشرعي في الخلافة من آل البيت، بهدف الحفاظ على الخلافة حكرًا على آل العباس

:في مرحلة بناء الفكر العباسي، واجه مؤسس البيت العباسي عدة عقبات رئيسية

١. الأردن وأهله كانت المنطقة تحت النفوذ الأموي، وتتمتع بأهمية استراتيجية واجتماعية تستدعي التعامل معها بحذر

٢. آل أبي طالب كانوا من ذرية الحسن والحسين، وكانوا منافسين شرعيين للخلافة العباسية، واعتُبروا من أبرز التحديات الكبرى التي واجهت الدولة العباسية

٣. البحث عن مناطق وشعوب معارضة للدولة الأموية كان من الضروري تحديد الأماكن والشعوب التي كانت غير راضية عن حكم الأمويين، لتكون قاعدة للدعوة العباسية

٤. الموارد الضرورية للدعوة والدولة احتاجت الدعوة العباسية إلى موارد مالية وبشرية ضخمة لضمان نجاحها واستمرارها

٥. قوة الدولة الأموية كانت الدولة الأموية قوية ومهيمنة، مما شكل تحديًا كبيرًا أمام بناء وتوسيع النفوذ العباسي

مراجع

د . احمد عويدي العبادي, الاردن في عهد الخلافة العباسية
دائرة الآثار العامة الأردنية, الحميمة
الحميمة ,Museum with no frontier
Al-Baladhuri. Al-Duri, A. ed. Ansab al-Ashraf (vol. III). Wiesbaden, 1978
Al-Bakri. Mu’jam Ma-sta’jam (vol. I). Cairo, 1945 – 1951
Foote, R. M. “Frescos and Carved Ivory from the Abbasid Family Homestead at Humaima.” Journal of Roman Archaeology, no. 12, 1999, pp. 423 – 428
East (vol. III). Oxford, 1997, pp. 121 – 122
Oleson, J. P. et al. “Preliminary Report of al-Humaima Excavation Project, 1995, 1996, 1998.” Annual of the Department of Antiquities of Jordan, no. 43, 1999, pp. 411 – 447

Previous:
الأردن في عهد الخلافة الأموية
Next:
الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ٢ – التحديات الرئيسية