الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ٢ – التحديات الرئيسية
في مرحلة بناء الفكر العباسي، واجه مؤسس البيت العباسي العديد من التحديات الكبرى التي شكلت عقبات أمام نجاح الدعوة العباسية وتأسيس الدولة. كانت هذه التحديات متنوعة بين سياسية وعسكرية، حيث كان لابد من مواجهة السلطة الأموية القائمة، بالإضافة إلى الحاجة لتوحيد القوى المختلفة ودعم الدعوة في مختلف المناطق. في هذا السياق، لعبت الأراضي الأردنية دورًا هامًا كأرض انطلاق للدعوة العباسية
الأردن وأهل الأردن
في قرية الحميمة بالأردن، كانت الأسرة العباسية تعيش في ظل توتر دائم إزاء الدعم الكبير الذي حظي به الأمويون من القبائل الأردنية. ومع تعاظم طموحات العباسيين، كانوا يترقبون الفرصة المناسبة للانقضاض على السلطة والانتقام من الأمويين الذين أحكموا سيطرتهم على الشام. كان موقع الحميمة وقربها من مراكز تجمع الأمراء الأمويين، الذين كانوا يقضون أوقاتهم في القصور والمنتجعات الأردنية، مصدرًا غنيًا للمعلومات التي ساعدت العباسيين في متابعة مستجدات الدولة
كانت القصور مثل قصر الأمير في الحائر نقطة تجمع لشيوخ العشائر وزعمائها، حيث يتداولون الأخبار ويتابعون ما يجري في العاصمة الأموية وحواضر الخلافة، بالإضافة إلى الأوضاع في الولايات المختلفة. واستغل العباسيون علاقاتهم الواسعة مع العملاء والأصدقاء من الزعامات الأردنية لجمع معلومات دقيقة حول الحكم الأموي وخططه، ما أتاح لهم فرصة التخطيط الدقيق للانقلاب الذي سيغير مجرى التاريخ الإسلامي ويؤسس لحكم جديد، هو الدولة العباسية
بناءً على المعطيات السياسية والجغرافية، استبعد العباسيون الأردن كقاعدة لإقامة دولتهم لعدة عوامل رئيسية. أولاً، كانت الموارد الاقتصادية في المنطقة ضعيفة نسبياً، مما جعلها غير ملائمة لدعم مشروع دولة قوية وطويلة الأمد. ثانيًا، كان الأردن قريبًا جدًا من مركز الخلافة الأموية في دمشق، مما يزيد من احتمال تعرض العباسيين للمراقبة والتضييق من قِبل الأمويين
كما كان للأردن ولاء قوي لبني أمية، الأمر الذي صعب على العباسيين كسب الدعم المحلي هناك. إضافة إلى ذلك، كان قرب الأردن من الحجاز، حيث كانت عائلات أخرى تنازع على الخلافة مثل آل أبي طالب من بني هاشم وآل الزبير من بني قريش، عاملًا آخر يجعل من المنطقة غير مستقرة للعباسيين
رغم انتهاء النزاع الزبيري في العراق ومكة بعد مقتل مصعب بن الزبير وصلب أخيه عبد الله بن الزبير في مكة على يد الحجاج بن يوسف الثقفي وجيشه، بقيت هذه العوامل مؤثرة في استراتيجية العباسيين. فأخذوا بالحسبان الحاجة إلى اختيار موقع أقل ولاءً للأمويين وأكثر أمنًا لبناء دولتهم المنشودة، ما دفعهم للتوجه نحو العراق وتأسيس عاصمتهم هناك بعيدًا عن نفوذ الأمويين ومناطق الصراع القبلي
آل أبي طالب ( ذرية الحسن والحسين )
بدأ الصراع على الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين بني هاشم، بقيادة علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وبين معاوية بن أبي سفيان، زعيم بني أمية ووالي الشام. تطورت المواجهة السياسية والعسكرية بين الطرفين، وكان لأهل الأردن دور بارز في تثبيت حكم بني أمية وإضعاف نفوذ بني هاشم
ومن أبرز محطات هذا الصراع، تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في منطقة أذرح، الواقعة في جنوب الأردن. كان هذا التنازل حدثًا مفصليًا في التاريخ الإسلامي، إذ اعتبره الأمويون اعترافًا من سيد بني هاشم بحكم بني أمية، ليصبح معاوية أول خلفاء الدولة الأموية
في عهد الدولة الأموية، سعى الأمويون، بقيادة الخليفة معاوية بن أبي سفيان، إلى إحكام سيطرتهم على الخلافة وإغلاق ملف مطالبة بني هاشم بها. وقد تحقق هذا الهدف بعد تنازل الحسن بن علي، حفيد النبي محمد، عن الخلافة لصالح معاوية، مما وضع حدًا لمطالبته بها وأفسح المجال لتثبيت حكم بني أمية
غير أن هذا التنازل لم يكن مقبولًا لدى بني العباس، الذين اعتبروا أن خروج آل أبي طالب، وتحديدًا ذرية الحسن والحسين، من الساحة السياسية لم يسقط حق الهاشميين عامة في الخلافة، بل إن حق المطالبة انتقل من آل أبي طالب إلى آل العباس الذين ينحدرون أيضًا من بني هاشم. تبعًا لذلك، رأى العباسيون أنفسهم الورثة الشرعيين للسيادة في البيت الهاشمي وأهل البيت، مشيرين إلى أن آل أبي طالب تنازلوا عن حقهم بالخلافة بقرار الحسن، بينما ظل بنو العباس ثابتين على المطالبة بها
وخلال فترة حكمهم، دعم العباسيون هذا الفكر علانية، مؤكدين أن حق الخلافة والسيادة انتقل إليهم، وأن آل أبي طالب، بما فيهم ذرية الحسن والحسين، قد خرجوا من دائرة الحكم والمطالبة به
خلال فترة حكم العباسيين، اتخذ خلفاؤهم موقفًا صارمًا تجاه من يؤيدون أبناء أبي طالب لخلافة المسلمين بدلاً من العباسيين، مما أدى إلى اضطهاد مناصري البيت الطالبي وإقصائهم. وعلى إثر هذا الصراع السياسي، ظهرت قصائد الشعر وأفكار فلسفية تدعم حق العباسيين في الخلافة على حساب بني أبي طالب، حيث سعى الشعراء والمتكسبون للتقرب من الخلفاء العباسيين بذم آل أبي طالب والتأكيد على عدم أحقيتهم بالخلافة، معتبرين أن العباسيين هم الأولى بها
في هذه الأثناء، كان العباسيون يرون في انحسار السلطة عن أبناء أبي طالب، خاصة بعد أحداث “إذرح” في الأردن، سببًا للسرور. واعتبروا أن انتقال السلطة إليهم، وهم في الحميمة المجاورة، يشكل إشارة ضمنية بتخويلهم الشرعية بدلًا من أبناء أبي طالب، إذ كان العباسيون يرون أن الخلافة يجب أن تعود إلى آل هاشم عامة، ولكن دون أن تؤول إلى بني أبي طالب تحديدًا
اعتمد العباسيون في بداية دعوتهم على شعار إعادة الحق إلى آل البيت دون توضيح مباشر للمراد بكلمة “آل البيت”، مستقطبين بذلك دعم أتباعهم وجذب مؤيدي ذرية علي بن أبي طالب، الذين كانوا ينظرون إلى الخلافة على أنها حق لأهل البيت الشرعي، وليست من نصيب بني أمية الذين اعتبروهم مغتصبين للسلطة. لكن بعد نجاح الدعوة العباسية وتوليهم الحكم، اعتبر العباسيون أنفسهم الممثلين الشرعيين لآل البيت، واستبعدوا أبناء الحسن والحسين من دائرة الأحقية بالخلافة، حتى أصبح من المستحيل أن يعارض أحد هذا الموقف السياسي الجديد
البحث عن مكان وشعب ساخط على الأمويين، ويؤمن بآل البيت وحدهم من العرب
اتجه العباسيون للبحث عن بديل يُمكّنهم من توسيع نفوذهم بعيدًا عن مراكز الحكم الأموية التقليدية، ووجدوا في خراسان والعراق أرضًا خصبة لاستقطاب المؤيدين. فقد كانت ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي، التي بدأت مع مطلع حكم عبد الملك بن مروان واستمرت حتى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك عام ٩٦ هـ، حقبة اتسمت بالقوة المفرطة والقمع وسفك الدماء، مما خلق حالة من الاستبداد وفرض القيود على الحريات وتضييق سبل التعبير. طيلة ثلاثين عامًا، كرّس الحجاج حكمه على البطش وقمع المعارضة، مما أسفر عن نشوء جيل متخم بالكبت والسخط، وحمل شعورًا عميقًا بالظلم تجاه بني أمية، بل وأحيانًا تجاه العرب عمومًا
أصبحت هذه المشاعر المتأججة أساسًا لحالة من الغليان والبحث عن منقذ يمكنه تحريرهم من قسوة الحجاج وتجاوزات بني أمية، الذين دعموه بلا حدود. فتحولت هذه الأجواء الساخطة في خراسان والعراق إلى بيئة مثالية للدعوة العباسية، التي وجدت فيها أرضًا مهيأة لتحفيز حركة التغيير والإطاحة بالسلطة الأموية
وجد العباسيون في العراق وخراسان أرضًا خصبة لدعوتهم، فقد كانت هذه المناطق تتميز بالاتساع والغنى والكثافة السكانية، إضافة إلى نقمة سكانها على حكم بني أمية. على النقيض من ذلك، كان ولاء سكان الأردن لبني أمية صادقًا وراسخًا، ولم تكن موارد الأردن كافية لتشكيل قاعدة لدولة عباسية تطمح لتوسيع نفوذها في جميع أنحاء الخلافة. بناءً على ذلك، ركز دعاة العباسيين جهودهم السرية في العراق وخراسان، مستغلين رغبة السكان في التخلص من الظلم والجور، وإقامة العدالة، مع تأكيدهم على أن آل البيت أحق بالخلافة من بني أمية
وقد وجدت الدعوة العباسية قبولًا واسعًا بين الأعاجم، الذين رأوا في الدولة الأموية مشروعًا قوميًا عربيًا استُبعدت فيه القوى الفارسية، ما دفعهم لدعم العباسيين أملًا في استعادة مكانتهم في ظل حكم جديد. لاحقًا، أدرك الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن هذا الدعم الفارسي يهدف إلى تعزيز نفوذ الأعاجم على حساب العرب، وقد تجلى ذلك في دور أبي مسلم الخراساني الذي كان من أبرز قادة العباسيين في طرد الأمويين وتثبيت بني العباس في السلطة. وبسبب طموحاته المتزايدة وخطورته على السلطة العباسية، أمر الخليفة المنصور بقتل أبي مسلم، حيث تم تقطيعه بالسيوف وهو حي، في مشهد يعكس نهاية البرامكة في عهد الخليفة هارون الرشيد لاحقًا
وهكذا أصبحت العراق مركزًا للدعوة العباسية وقاعدة لتجنيد الأنصار، بينما اقتصر دور الحميمة على التخطيط والتوجيه من خلف الكواليس. قام الدعاة العباسيون بتنظيم صفوفهم في العراق على ثلاثة محاور رئيسية، وأخذوا في بذل جهودهم ليلًا ونهارًا بهدف تحقيق هدفهم الأكبر بإقامة الدولة العباسية وتحقيق سيادتهم على العالم الإسلامي
الجور الذي يعانيه الناس من بني أمية (وكان سببه الحجاج) –
الدعوة لآل البيت –
الدعوة للحرية والعدالة –
لقد لقيت الدعوة العباسية رواجًا هائلًا وانتشارًا سريعًا بين مختلف الأقاليم، مما أثار قلق العديد من القادة الأمويين. وكان من بين هؤلاء نصر بن سيار، والي خراسان، الذي شعر بخطر الثورة العباسية الوشيك على الدولة الأموية. فأرسل إلى الخليفة الأموي مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، أبياته الشعرية المشهورة التي تنبأ فيها بسقوط الدولة الأموية. وفي هذه الأبيات، حذر نصر بن سيار من أن الثورة العباسية قادمة، وأن نظام الأمويين في طريقه إلى الزوال، ليُبدي بذلك إدراكه العميق للتهديد المتصاعد الذي كان يهدد حكم بني أمية
الموارد التي تحتاجها الدعوة والدولة
كانت خراسان والعراق أكثر المناطق التي وفرت بيئة مناسبة لنجاح الدعوة العباسية بسبب طبيعتها الجغرافية المميزة. فخراسان كانت تتمتع بوجود جبال وعرة، بالإضافة إلى قربها من بلاد فارس والسند والهند، مما جعلها منطقة يصعب على الأمويين ملاحقتها أو إرسال قوات كافية لتغطيتها في حالة الحاجة. وعلى العكس، لم تتوافر هذه المزايا في الأردن أو الحجاز أو مصر، التي كانت جميعها تحت سيطرة الأمويين. إذ كانت مصر، على وجه الخصوص، ولاية موالية للأمويين، مما جعلها بيئة غير ملائمة لنجاح أي ثورة ضد حكمهم
قوة الدولة الأموية
بلغت الدولة الأموية أوج قوتها في عهد الخليفتين عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك، حيث كانت هيمنة الأمويين على العالم الإسلامي في أقوى صورها. إلا أن هذه القوة بدأت تتراخى تدريجيًا مع مرور الزمن، ومع تراجع الأمويين، بدأت قوة الدعوة العباسية تزداد وتنتشر بشكل ملحوظ
كان العباسيون قد بدأوا دعواتهم الثورية تحت قيادة مؤسس الفكرة العباسية، الذي توفي في وقت مبكر، ليخلفه ابنه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس، الذي بذل جهدًا كبيرًا في تقوية الدعوة وتعزيزها بالأفكار الجديدة والأنصار. غير أن القائد الأول لهذه الثورة العباسية لقي حتفه في السجن الأموي في دمشق، مما أسهم في تصعيد حركة الثورة ضد الأمويين
مع تزايد الثورة العباسية في كل مكان، هربت أسرة بني العباس إلى العراق حيث بدأت في قيادة الثورة علنًا. ومع تفجر الثورات في العديد من الأقاليم، تحول معظم موارد الدولة الأموية إلى المجهود الحربي. رغم ذلك، ظل أهل الأردن مخلصين لحكم الأمويين في تلك الفترة، بينما كانت التحولات السياسية تزداد في مناطق أخرى
وفي النهاية، هرب آخر خلفاء بني أمية، مروان بن محمد، إلى مدينة معان الأردنية، ثم توجه إلى مصر، حيث لقي حتفه في صعيد مصر. بذلك، انتهت الدولة الأموية، بينما بدأت رايات العباسيين في الظهور في العراق. وتأسست الدولة العباسية رسميًا في الكوفة تحت حكم الخليفة الأول عبد الله السفاح، ليكونوا البديل السياسي والحكومي الجديد بعد سقوط الأمويين
مراجع
د . احمد عويدي العبادي, الاردن في عهد الخلافة العباسية
دائرة الآثار العامة الأردنية, الحميمة
الحميمة ,Museum with no frontier
Al-Baladhuri. Al-Duri, A. ed. Ansab al-Ashraf (vol. III). Wiesbaden, 1978
Al-Bakri. Mu’jam Ma-sta’jam (vol. I). Cairo, 1945 – 1951
Foote, R. M. “Frescos and Carved Ivory from the Abbasid Family Homestead at Humaima.” Journal of Roman Archaeology, no. 12, 1999, pp. 423 – 428
East (vol. III). Oxford, 1997, pp. 121 – 122
Oleson, J. P. et al. “Preliminary Report of al-Humaima Excavation Project, 1995, 1996, 1998.” Annual of the Department of Antiquities of Jordan, no. 43, 1999, pp. 411 – 447