الأردن في عهد الخلافة العباسية، جزء: ٦ – كيف تخلصت العشائر الأردنية من الاضطهاد العباسي
في فترات الاضطهاد العباسي، تعرضت العديد من العشائر الأردنية للتهجير القسري، فكان عليها أن تغير أسماءها لتجنب بطش السلطة العباسية. من أبرز هذه العشائر كانت بنو كلب، الذين غيروا أسماءهم إلى أسماء فرعية مثل الجوابرة في الطفيلة والسرحان في الشمال، حتى يتفادوا الانتقام العباسي. كذلك، هاجر العديد من أفراد العشائر الأردنية إلى مناطق أخرى مثل العراق ونجد وفلسطين، حيث اندمجوا في مجتمعات جديدة، بينما احتفظوا بروابطهم القوية مع ديارهم الأصلية في الأردن
كانت قبيلة بني كلب الأردنية من أوائل من تعرضوا لبطش العباسيين بعد قيام الدولة العباسية. ولمواجهة الانتقام العباسي، اختارت القبيلة اتباع استراتيجية ذكية للحفاظ على بقائها، حيث قامت بتغيير اسمها إلى أسماء فرعية، بعيدًا عن الاسم الأصلي “بني كلب”، للتخفّي والنجاة من الملاحقات العباسية
في جنوب الأردن، مثلًا، اختارت بني كلب في الطفيلة اسم الجوابرة، نسبةً إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري. أما في شمال الأردن، فقد اتخذوا اسم السرحان، وهو اسم مستلهم من ذئب الصحراء، إشارةً إلى الشجاعة والقدرة على التكيّف. وفي منطقة البلقاء (مادبا)، أطلقوا على أنفسهم اسم العوازم، وهو اسم بعيد عن اسمهم الأصلي، وقد انتقل بعض أفراد بني كلب إلى شمال الأردن وسمّوا أنفسهم العزام، وتعدّ هذه العشيرة واحدة من العشائر الأردنية التي لها تاريخ وطني عريق ومحترم، وترتبط بصلة قرابة مع العوازم في مادبا. أما من استقر منهم لاحقًا في منطقة السلط، فقد اتخذوا اسم الكلوب
وبفضل هذا التحول في الأسماء، نجحت بني كلب في تجنب حملات البطش العباسية، وظلّ العديد منهم في الديار الأردنية، حيث استقروا في أراضي الآباء والأجداد. أما الذين قرروا مغادرة الأردن إلى الجزيرة العربية، فقد اتخذوا اسمًا جديدًا هو الشرارات، وما زالت هذه العشيرة تعرف بذكائها وفصاحتها، وهي صفات ساعدتهم على اجتياز محن تاريخية قاسية
عانت قبيلة الشرارات من حملات قمع شديدة شنّها عليهم أنصار العباسيين على مرّ القرون، واضطروا للعيش في ظروف تاريخية صعبة، إلا أنهم استطاعوا التكيف والبقاء بفضل دهائهم وقدرتهم على تجاوز التحديات
و يقول الدكتور احمد عويدي العبادي انه من المؤسف أن معظم الأجيال الحالية لا تعلم أن هذه القبيلة الكريمة تعود أصولها إلى بني كلب، وأنها تعرضت لاضطهاد شديد خلال العهد العباسي. وقد بقيت بعض بطون هذه القبيلة في الأردن، حيث استقرت وتعايشت مع قبائل أخرى كقبيلة بني صخر، إذ انتشرت في مناطق مثل الزرقاء وما حولها حتى العصر الحاضر
قبيلة جذام، التي كانت تحظى بمكانة مرموقة في عهد بني أمية، اتبعت عدة مسارات بعد تراجع نفوذ الدولة الأموية وصعود العباسيين، حيث لجأ أبناؤها إلى الهجرة بحثًا عن الاستقرار والأمان. توزعت القبيلة في مناطق عديدة خارج الأردن، فاستقرت مجموعات منها في شمال جزيرة العرب، وفي بلاد الشام، والعراق، وفلسطين، ومصر، ووصلت بعض فروعها إلى الأناضول وساحل مصر الجنوبي قرب السويس، بل وحتى إلى الأندلس. هناك، انضم أفراد جذام إلى القبائل اليمنية المقيمة، وأصبحوا جزءًا من شعوب ملوك الطوائف لاحقًا. على سبيل المثال، انتقلت فروع من بني صخر، وهي إحدى بطون جذام، إلى منطقة العُلا جنوب الأردن حينها، بينما ذهب آخرون إلى جزيرة الفرات والعراق، تحت مسميات فرعية لتوفير الحماية وتجنب اضطهاد العباسيين، غير أنهم حافظوا على تواصل مع من بقي من جذام في الأردن
ظل أفراد جذام، كغيرهم من العشائر الأردنية، يتواصلون مع أقاربهم في الأردن رغم التفرق، ويعودون لطلب العيش والبحث عن الكلأ والماء، وكان القسم الأكبر من بني صخر يُعرف بـ”البواسل”، حيث اتجهوا إلى المنطقة الشرقية في مصر، واستقروا هناك باسم عشيرة البواسل لتجنب الاضطهاد العباسي، وبدا أنهم غير مرتبطين ببني صخر أو بجذام
واحتفظت “البواسل” بنخوة تُعرف باسم “باسلي”، والتي كانت رمز فخر لهذه العشيرة، وأصبحت فيما بعد نخوة عامة لبني صخر، ولاحقًا انتقلت لتكون نخوة الجيش الأردني بعد تأسيسه عام ١٩٢٣، حيث عُرف الجيش الأردني باسم “البواسل” كإرث مستمد من بني صخر الجذامية
في أواخر العصر العباسي وخلال فترة الحروب الصليبية، كانت الزعامة القبلية في بني صخر متمركزة في عشيرة “البواسل” ثم انتقلت إلى عشيرة “خضير” في الأردن، قبل أن تؤول لاحقًا إلى بني زهير، ثم الخريشة، وأخيرًا استقرت في عشيرة الفايز. أما قبيلة بني عباد (العبابيد)، فهم ينتمون إلى بطن طريف من جذام، وقد شهدت القبيلة تحولات في اسمها خلال فترات تاريخية مختلفة، حيث اعتمدت اسم “الطرايفة” نسبةً إلى بطن طريف، ليصبح هذا الاسم نخوةً عامة لأبناء القبيلة، إلى أن عاد اسم “عباد” بعد صراعات محلية بين عشيرتي المهداوي والعدوان. ويُذكر أن المهداويين من بني طريف أيضًا، وقد عُيِّن منهم الأمير المهدي من قبل المماليك حاكمًا للبلقاء خلفًا لنافل العجرمي، وكلاهما من نسب جذام
تعرّضت قبيلة بني عباد للتشتت لفترة طويلة بسبب الاضطرابات، وعندما فرض الاحتلال الصليبي سيطرته وضعفت الخلافة العباسية، تمكّن الشيخ سليمان العبادي من إعادة تجميع القبيلة وتوحيد صفوفها في مناطق الكرك. تميّزت القبيلة في تلك الحقبة بقوتها وتماسكها في ظل قيادة الشيخ العبادي، الذي أقام صلحًا مع الصليبيين للحفاظ على استقرار القبيلة وازدهارها، واستمر هذا التماسك حتى ظهرت قيادات بارزة من بني مهدي في الكرك لاحقًا
أما بني حميدة، الذين ينحدرون من جذام، فقد فرّوا من بطش العباسيين إلى شمال الحجاز حيث استقروا في وادي السياح، واتخذوا اسم “أولاد السياح” نسبة إلى المنطقة التي سكنوها، كما أطلقوا على أنفسهم نخوة “صبيان السياح” كرمز للانتماء والمقاومة في وجه البطش العباسي، وقد حافظوا بذلك على هويتهم وسلامتهم
وبالنسبة لبني عقبة، المعروفين فيما بعد بالعمرو، فقد هاجروا إلى جنوب العلا ليبتعدوا عن الاضطرابات، واستقروا هناك حتى عادت الأوضاع إلى الاستقرار مع الاحتلال الصليبي، مما دفعهم للعودة إلى موطنهم الأصلي في ديار الكرك، حيث أسسوا إمارة جذام في الكرك زمن المماليك
كما أن الغساسنة، الذين تعرّضوا هم الآخرون للاضطهاد العباسي، لجأوا إلى تغيير أسمائهم لتجنب الملاحقة، وبرزت منهم أسر جديدة كعائلات الضمور والعزيزات والحدادين، وانتشرت بقايا الغساسنة في أنحاء الأردن تحت مسميات جديدة، حافظت من خلالها القبيلة على بقائها وهويتها، متحدية بذلك الظروف الصعبة والاضطهاد في ذلك العصر
غالبية مسيحيي الأردن يعودون بأصولهم إلى الغساسنة، سواء نسبًا أو ارتباطًا، حيث امتدت جذورهم إلى القبائل العربية العريقة التي استقرت في بلاد الشام. ومن جهة أخرى، كانت قبيلة “بلي” التي وفدت من جزيرة العرب إحدى القبائل التي استقرت في الأردن، وتحوّر اسم من تبقى منهم على الأرض الأردنية ليعرفوا بالبلاونة بدلًا من بلي. كما تغير اسم فرع من بلي يُعرف بـ”بني أراشة” ليصبح “البرارشة”، وهم ذاتهم بنو أراشة من بلي، إذ يُرجع البعض خطأً هذه التسمية إلى “الأبرشية”، وهو تصور لا يستند إلى حقيقة تاريخية. وقد تفرقت بعض عائلات بلي إلى مناطق عديدة قبل أن يعود بعضهم إلى جذورهم، بينما يُظن خطأً أن هؤلاء ليسوا من أصل واحد، وهو اعتقاد شائع حول عدد من العشائر الأردنية
ومع تزايد الاضطهاد العباسي، انتقل جزء من البلاونة إلى منطقة البلقاء، واندمج بعضهم في القبائل الأردنية الأخرى، إلى أن خفت وطأة الاضطهاد العباسي. أما قبيلة بلقين اليمنية الأردنية، التي كانت تتوزع مناطقها بين رم وحسمى شمالًا إلى نهر الزرقاء، فقد سعت لتفادي القمع العباسي عبر تبني اسم جديد، “البلقاوية” أو “البلقاء”، مما أدى إلى اختفاء اسم “بلقين” وانتهاء الاضطهاد الذي ارتبط به. وتكوّن البلقاوية من عشائر يمنية عريقة انحازت فيما بعد إلى العدوان وأصبحت في صف القيسية، بقيادة عشائر العدوان، ضد أبناء عمومتهم اليمنيين وذلك في العهد العثماني
في فترة الحكم العباسي، شهدت عشائر الأردن تحولات عديدة، حيث سعت بعض القبائل إلى تغيير أسمائها والتكيف مع الظروف السياسية والاجتماعية لتجنب ملاحقة السلطة العباسية. من بين هذه القبائل، برزت عشيرة “بني عاملة” (التي تُعرف بالعواملة في مدينة السلط حاليًا)، إذ انتقل بعض أفرادها إلى جبل عاملة، وهو جزء من جنوب لبنان المعاصر، للعيش مع أقاربهم، قبل أن يعودوا إلى السلط لاحقًا. وتفرعت عن هذه القبيلة عشائر اتخذت أسماء جديدة لتجنب ملاحقة العباسيين، مما ساعدهم في الحفاظ على وجودهم
و استمراريتهم في الأردن
كما برزت من قبيلة جذام عدة عشائر، كان لها دور مؤثر في المجتمع الأردني، خاصة بعد الاحتلال الصليبي. ومن هذه العشائر: بني عتمة (المعروفة الآن بالعتوم)، بني حماد (بني يونس حاليًا)، الدعجانية (الدعجة)، وبنو نصير (النصير والنصيرات حاليًا). وأيضًا من جذام، ظهرت عشيرة العجارمة، التي كانت تتزعم إمارة البلقاء في الماضي، إذ قام بنو عجرم بتغيير اسمهم إلى “العجارمة” للتكيف مع الأوضاع السياسية وتجنب بطش العباسيين
كما انحدرت بعض الأسر الأخرى من جذام، مثل بني مهدي، الذين تولوا إمارة البلقاء خلال فترة حكم المماليك بعد انتقال الإمارة من العجارمة إليهم. وبرز من جذام أيضًا الضياغم، وهم عشيرة معروفة، ومن أبرز أفرادها عرار وعمير اللذان جرفتهما السيول في منطقة الحسا في زمن المماليك. استخدمت عشيرة الضياغم الاسم الفرعي “الضيغمي” للتهرب من الاضطهاد العباسي، مما ساعدها على الحفاظ على وجودها. وقد عُرفت قصص هذه العشيرة، ومن نسلها اليوم عدة عشائر منها الحجايا في الجنوب، وعائلات من عباد، أبرزها عشيرة الختالين، شيوخ قبيلة عباد
أما الأدوميون، فقد هاجروا إلى منطقة العلا في جنوب الأردن، حيث تفرقوا واندمجوا مع قبائل عربية أخرى. وقد ظلوا في تلك المناطق حتى عاودوا الظهور بقوة في معركة حطين، ليواصلوا تأثيرهم في المنطقة
من بين الأدوميين الذين غادروا الأردن هروبًا من الاضطهاد العباسي، كانت عشائر الشوبك وأحفاد الملك الأدومي حدد، الذي كان أول زعيم للتحرك الوطني الأدومي ضد الاحتلال الإسرائيلي للأردن بعد خروج بني إسرائيل من مصر. ولكي يتجنب أحفاد هذا الملك الوطني الاضطهاد العباسي، قرروا تغيير اسمهم من “بني حدد” إلى اسم جديد، ليحملوا لاحقًا اسم “بني حسن”، وهو الاسم الذي لا يزال يطلق على هذه العشائر حتى اليوم
انتشرت عشائر بني حسن في مناطق متعددة، فبعضهم انتقل إلى العراق، وآخرون توجهوا إلى نجد، في حين استقر بعضهم في غور الأردن وفلسطين، حيث شاركوا في معركة حطين ثم في معركة عين جالوت. بعد ذلك، انتقلت عشائر بني حسن إلى منطقة البلقاء، حيث أصبح لهم وجود قوي في تلك المنطقة
كما تفرقت بعض العشائر الأدومية الأخرى مثل عشائر البصيرة، التي سُميت فيما بعد “عشائر بصيرا”، وامتد وجودها إلى مناطق أخرى، بما في ذلك السعودية وبعض المناطق المحيطة. أما عشائر الشوبك (أو الشوابكة)، فقد انتشروا في فلسطين وشمال جزيرة العرب، تاركين آثارهم في هذه المناطق بعد تفرقهم على مر العصور
مراجع
د. احمد عويدي العبادي, الاردن في عهد الخلافة العباسية
دائرة الآثار العامة الأردنية, الحميمة
الحميمة ,Museum with no frontier
Al-Baladhuri. Al-Duri, A. ed. Ansab al-Ashraf (vol. III). Wiesbaden, 1978
Al-Bakri. Mu’jam Ma-sta’jam (vol. I). Cairo, 1945 – 1951
Foote, R. M. “Frescos and Carved Ivory from the Abbasid Family Homestead at Humaima.” Journal of Roman Archaeology, no. 12, 1999, pp. 423 – 428
East (vol. III). Oxford, 1997, pp. 121 – 122
Oleson, J. P. et al. “Preliminary Report of al-Humaima Excavation Project, 1995, 1996, 1998.” Annual of the Department of Antiquities of Jordan, no. 43, 1999, pp. 411 – 447