المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٢ –  النشأة والتأسيس

مملكة مؤاب هي واحدة من الممالك العربية القديمة التي نشأت في منطقة مؤاب الواقعة في الأردن. برزت هذه المملكة عبر تاريخ طويل دام أكثر من عشرين قرنًا، حيث شهدت تحولات سياسية وثقافية شكلت جزءًا من تاريخ المنطقة. تميزت مملكة مؤاب بقدرتها على الصمود رغم تحديات الحروب والتغيرات التي مرت بها، حيث كان لها دور بارز في السياسة والدين في تلك الفترة

صورة تل ذيبان (عاصمة مملكة مؤاب الأردنية) -  جريدة الغد - محمد أبو غوش

مملكة مؤاب الأردنية هي مملكة عربية قديمة نشأت في منطقة مؤاب الواقعة في الأردن، وامتدت حوالي عشرين قرنًا قبل أن تنتهي في القرن الخامس قبل الميلاد

تميّز المؤابيون بقدرتهم على البقاء والصمود رغم التحديات، حيث شهدوا تعاقب الأمم على أراضيهم. فقد كانوا شهودًا على سقوط مملكة الرفائيين على يد الإيميين الذين أسسوا مملكتهم في ذات المنطقة. وقد جعلت تلك الأمم من مدينة قير مؤاب، التي تعرف اليوم بالكرك، مركزًا للحكم والسيطرة، وعاصمة لدولتهم. كانت قير مؤاب نقطة انطلاق للتوسع الإقليمي، وموقعًا استراتيجيًا لحماية ثروة طبيعية مهمة، وهي مادة القار المستخرجة من البحر الميت

وجاء ذكر مملكة مؤاب مرارًا في التوراة، نظرًا لما كان بين المؤابيين والإسرائيليين من عداوات وحروب دامية منذ خروج بني إسرائيل من التيه

ويذكر أن المؤابيين ينحدرون من قبيلة ثمودية عربية أردنية كبيرة، وكانت هذه القبيلة جزءًا من رعايا دولة الإيميين، وهم بدورهم إحدى القبائل الثمودية التي انفصلت عن الروفائيين. وتعتبر جميع هذه القبائل جزءًا من المكون العربي الثمودي الذي انتشر في الأردن التاريخي القديم، والذي كانت مساحته الجغرافية تتجاوز ٨٠٠,٠٠٠ كيلومتر مربع، أي ما يعادل عشرة أضعاف المساحة السياسية الحالية للأردن

ظهر المؤابيون ككيان سياسي متماسك، حيث تطوروا من مجرد “حامية عسكرية” إلى “مملكة مدينة”. وتمكنت “مملكة قير حارسة”، بفضل حاميتها العسكرية القوية، من توحيد “دول المدن” المؤابية بالقوة أو من خلال التحالفات، لتصبح تحت سيادة دولة مركزية شاملة. ومع مرور الزمن، تحولت هذه الدولة إلى إمارة ثم إلى مملكة، عُرفت باسم “المملكة الأردنية المؤابية”، التي استمرت عبر التاريخ لأكثر من ثلاثة آلاف عام، حتى نهايتها في القرن الخامس قبل الميلاد

لقد كان المؤابيون في الأصل يشكلون حامية عسكرية مهمتها بسط السيطرة على قلعة قير حارسة (الكرك)، وهي القلعة التي يعود بناؤها إلى آلاف السنين. كانت القلعة تمثل الحصن الأقوى في مؤاب، والسيطرة عليها تعني التحكم بدولة المدينة بأكملها. تمكن المؤابيون من طرد الإيميين، أسيادهم السابقين، غير أن هذا الطرد اقتصر على الطبقة الحاكمة دون المساس بعامة الشعب. فقد اندمج الإيميون بالمؤابيين، كونهم في الأصل شعبًا واحدًا، وكان التغيير الذي حدث سياسيًّا بالأساس، تمثل في تبدل القوى المسيطرة فقط

وبذلك أصبحت “دولة مدينة الكرك” تحت نفوذ المؤابيين الذين شكلت حاميتهم العسكرية القوة الحاكمة، وصار اسم الدولة يعبر عنهم، واتخذوا الكرك عاصمة لهم

ولترسيخ سيطرتها على مؤاب، اعتُبر الإله كموش إلهًا للحرب والنصر، ومع مرور مئات السنين أصبح الإله القومي الوحيد الذي يعبد في جميع المناسبات، خاصة في ما يتعلق بالقوة العسكرية وتحقيق الانتصارات على الأعداء، كما يظهر في نصوص مسلة الملك ميشع. وبهذا التحول، تطورت مدينة الكرك (كركا/قير حارسة) من دولة مدينة إلى إمارة، ثم إلى مملكة المدينة، وصولًا في النهاية إلى المملكة الأردنية المؤابية، التي أصبحت تتمتع بهوية موحدة وإله واحد يُعبد، هو الإله كموش، إلى جانب زوجته الإلهة عشتاروت

ويظهر بجلاء أن فكرة إنشاء الدولة المؤابية بدأت تراود الحامية العسكرية المؤابية التي كانت تتولى حماية قلعة الكرك (قار حارسة)، حيث اضطلعت بمهام خدمة الروفائيين، ثم الإيميين من بعدهم، عبر إخضاع السكان المحليين وتجميع الأموال لصالح الدولة، إضافة إلى حماية هذه الموارد والممتلكات داخل القلعة. ومع مرور الوقت، أدرك أفراد هذه الحامية أن الفرصة قد حانت ليتولوا هم زمام الحكم على الدولة والشعب والأرض، ولتصبح تلك الثروات من أموال ومنتجات ومواشٍ ملكاً لهم بدلاً من أن تكون لغيرهم. وهكذا، انتقلوا من موقع الحراس إلى موقع الحكام، ومن التبعية إلى السيادة، وبذلك بزغ فجر الهوية الجديدة للدولة المؤابية، التي كانت هوية سياسية بالأساس، دون أن يتغير السكان أنفسهم، إذ ظلت هوية الشعب كما هي، ولم تكن محور التغيير في هذه المرحلة

وهكذا نشأت الدولة المؤابية الثمودية العربية الأردنية، التي اعتمدت نظام الحكم الملكي وفق نموذج فريد يقوم على الانتخاب بدلاً من الوراثة، سعياً لتحقيق الاستقرار وتعزيز الهيبة. فقد كان الملك يلقب بـ”خادم الشعب”، نظراً لدوره المحوري في قيادة الجيوش خلال المعارك، وإشرافه على الكهنة في أداء الطقوس والعبادات. إضافة إلى ذلك، كان الملك يشغل موقع الزعامة الاجتماعية للقبائل، إلى جانب كونه القائد السياسي الأعلى للدولة

كانت مملكة مؤاب كيانًا سياسيًا قديمًا تميز بتاريخ غني ومعقد، نشأ من تجمعات قبلية واستفاد من موقعه الجغرافي الاستراتيجي لتعزيز مكانته في المنطقة. تكشف النقوش عن العلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة في حياة المؤابيين، وهو ما أسهم في بناء مجتمع متماسك وحافظ على استقلاله لعدة قرون

مملكة مؤاب: نشأتها، تاريخها والملك ميشع

تأسست مملكة مؤاب في الألفية الثانية قبل الميلاد، ويُعتقد أن سكانها ينتمون إلى الشعوب السامية التي استوطنت شرق نهر الأردن. نشأت المملكة نتيجة تحولات اجتماعية وسياسية في المنطقة، حيث بدأت القبائل المؤابية تتوحد تحت قيادة زعيم واحد، مما ساهم في تشكيل كيان سياسي مستقر بحلول القرن الثالث عشر قبل الميلاد تقريبًا

تشير الأدلة الأثرية والنصوص التاريخية إلى أن مدينة ديبون، الواقعة بالقرب من الكرك، كانت العاصمة السياسية والدينية للمملكة. وتضمّنت المملكة عدة مدن وقلاع محصنة، لعبت دورًا أساسيًا في حماية أراضيها من الغزوات الخارجية

و تتضمن النصوص التوراتية العديد من الإشارات إلى المؤابيين، مما يعكس الثقافة التي شكلت نشوء مملكتهم

من أبرز الشخصيات الأسطورية في تاريخ مؤاب هو الملك ميشع، الذي يُعتقد أنه قاد ثورة ضد السيطرة الإسرائيلية واستعاد استقلال مؤاب. نقش ميشع، الذي تم اكتشافه في ديبون، يروي قصة هذا الملك وكيفية تحرر مؤاب من حكم إسرائيل. وفقًا للنقش، ادعى ميشع أن الإله كموش، إله المؤابيين الرئيسي، أمره ببناء المعابد وتحصين المدن بعد تحقيق النصر على إسرائيل. وتعكس هذه القصة دور الدين في الحياة السياسية والاجتماعية للمؤابيين

كما تذكر النصوص التوراتية مؤاب في سياق أحداث تتعلق بالأنبياء، مثل قصة بلعام بن بعور، الذي تم استدعاؤه ليلعن بني إسرائيل لكنه بدلاً من ذلك باركهم. هذه القصص تظهر التفاعلات الدينية والثقافية بين المؤابيين وجيرانهم، وتوفر نافذة لفهم عالمهم الروحي والاجتماعي

النظام السياسي

كان النظام السياسي في حضارة الأميين يعتمد على نموذج “دولة المدينة”، حيث سبقوا اليونانيين بأكثر من ١٠,٠٠٠ سنة في تبني هذا المفهوم. وقد تأثر اليونانيون بهذا النموذج من الحضارة الأردنية، ثم قاموا بتطويره وإعادة تصديره إلى الأردن على شكل نظام المدن العشر (ديكابوليس). وكان نموذج دولة المدينة يقوم على أساس الوضع المادي للفرد أو القبيلة أو الطبقة الاجتماعية أو المدينة نفسها، وكانت السيادة فيه تعود إلى الرجال. كما كان مجتمع المدينة يتميز بالأنانية، فهو مجتمع مغلق اجتماعياً ولكنه مفتوح اقتصادياً، ولا يستطيع الفرد الانخراط فيه بسهولة

كانت “دولة المدينة” هي النظام السياسي السائد في الممالك الأردنية القديمة، واستمر هذا النظام حتى ما قبل نزول النبي لوط عليه السلام. كان قوم لوط، الذين يُعرفون بالروفائيين، يعيشون في خمس ممالك متجاورة ضمن منطقة واحدة، وجميعهم من الروفائيين الثموديين الأردنيين. تحولت “دولة المدينة” لدى هؤلاء إلى “إمارة المدينة” ثم إلى “مملكة المدينة”، ليصبح لدينا خمس ممالك يعود تاريخها إلى الفترة ما بين٣٥٠٠ و ١٥٤٠سنة قبل الميلاد، أي أنها استمرت لمدة ٢٥٠٠ سنة وفقاً لما كشفت عنه الحفريات. ومن أبرز هذه الممالك التي خسف الله بها: سدوم، التي كانت أكبرها، وعمورة (قمورة). وكانت الممالك التي تضمها هي: سدوم، عمورة/قمورة، وأدومة/أدما، والتي كانت جزءاً من مملكة الأدوميين

في وادي الملح القريب من البحر الميت، كانت هناك ثلاث مدن أخرى تحولت إلى ممالك، وكان سكانها من الروفائيين. وهذه الممالك هي: سيؤيم (صبوئييم)، وزوار، وأدما. وفقًا للكتاب المقدس، كانت جميع الممالك الأردنية الخمس في تحالف عسكري. وكانت هذه المدن تمثل حكومات محلية. تعود الفترة التي وردت في الكتاب المقدس إلى حوالي ٢٠٠٠ ق.م. وشهدت تلك الفترة مناوشات مستمرة بين “سدوم والمدن الخمس” والمدن المحيطة بها من جهة، وبين ممالك العراق وبلاد كنعان من جهة أخرى. حتى أن النبي إبراهيم عليه السلام شارك في تلك الصراعات، وقام بتجهيز وحدة تضم ٣١٨ جنديًا

في الدولة المؤابية الأردنية، كان القانون ينص على أن الرجال الأحرار الذين وُلِدوا في المدينة وامتلكوا أراضي حرة يمكنهم أن يصبحوا مواطنين كاملين، ويتمتعون بكافة حقوق المواطنة، ويحق لهم الحصول على الحماية القانونية الكاملة داخل حدود الدولة

كانت الوظائف الدينية تقتصر على عائلات كهنوتية معينة تتوارث هذه الوظائف الروحية. وكان المجتمع مقسمًا إلى عدة طبقات اجتماعية وفئات، استنادًا إلى أربعة معايير رئيسية هي: المركز السياسي، والثروة، والفروسية، والوظائف الكهنوتية. وبذلك كان هناك الأحرار والعبيد والكهنة. كما كان بإمكان الأفراد تغيير طبقتهم الاجتماعية إذا تمكنوا من جمع المال أو إظهار مهاراتهم في الفروسية للدفاع عن المدينة. أما بالنسبة لبقية الذكور، فقد كان المجتمع يعكس مبدأ الندّية، وهي الصفة التي استمرت لدى الأردنيين عبر العصور

كان لكل مدينة ملك يميز بفضل الثروة أو الفروسية أو الإبداع الكهنوتي، وفي كل مدينة كان هناك “ملأ” وهم طبقة النخبة من الناس الذين أشار إليهم القرآن الكريم، مُبرزًا وجودهم وأهميتهم ودورهم في المجتمعات القديمة

كما أشرنا سابقاً، فإن الإيميين جاؤوا بعد الروفائيين، وكانوا ينتمون جميعاً إلى القبائل الثمودية والعربية الأردنية. إلا أن الإيميين قد طردوا الروفائيين من منطقة مؤاب إلى وادي الملح (الذي يقع بالقرب من البحر الميت). وقد شكل الإيميون خمس ممالك، وهي ممالك قوم لوط عليه السلام. استمرت فترة حكم الروفائيين والإيميين لأكثر من عشرة آلاف سنة، قبل أن تبدأ فترة المؤابيين كدولة مدينة، التي كانت أكثر تطوراً واتساعاً مقارنة بالدولة المدينة التي كانت موجودة في وادي الملح تحت حكم الروفائيين وفي منطقة الكرك تحت حكم الإيميين. ومع مرور الزمن، تحولت الكرك من دولة مدينة إلى عاصمة لمملكة مؤاب، وأصبحت ذيبون العاصمة الرئيسية في عهد الملك ميشع، بعد أن حلت محل الكرك

:يذكر المؤرخون أن الروفائيون الثموديين كانوا شعوبًا وقبائل استقرت في الأراضي الأردنية، وأسسوا ممالك المدن على النحو التالي

الإيميون في مؤاب، ثم حلّ محلهم المؤابيون –

الكفتاريون والعويّون في إدوم، ثم حلّ محلهم الأدوميون-

العناقيون في باشان، ثم حلّ محلهم الباشانيون ومملكة باشان-

الزمزميون في ربة عمون، ثم حلّ محلهم العمونيون-

وبعد ذلك، اندحر الروفائيون من هذه الممالك إلى مدن الوادي المالح، حيث أسسوا ممالك قوم لوط، وظلوا يحتفظون باسم الروفائيين


المراجع

د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية

Previous:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ١ – مقدمة في تاريخ مملكة مؤاب
Next:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٣  –  الحكام والأحداث السياسية