المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٤ –  ثورة شعب يقودها الملك المحرر ميشع

الملك ميشع، ملك مؤاب الأردني، كان قائدًا قويًا ورؤيويًا قاد شعبه في حرب تحرير ضد الاحتلال الإسرائيلي في القرن التاسع قبل الميلاد. عبر مسلته، وثق الملك ميشع تجارب معركته ضد الإسرائيليين، موضحًا رفضه دفع الجزية ورفضه الخضوع للهيمنة الخارجية. انطلق ميشع في قيادة شعبه نحو التحرير، متسلحًا برؤية وطنية متكاملة تهدف إلى استعادة السيادة الوطنية لشعبه، واستعادة الاستقرار والكرامة للأمة المؤابية

:نستدل على معلومات عن الملك ميشع من خلال ما دونه على مسلته، حيث قال

“!وخلف عمري (ملك اليهود) ابنه، فقال هو الآخر: سأضطهد مؤاب”

:ويضيف ميشع قائلاً

“أجل، لقد قال شيئاً كهذا، ولكن كموش (إله مؤاب) جعلني أراه (ابن عمري اليهودي) مهزوماً أمامي”

من هذه النصوص يتضح أنه بعد وفاة الملك عمري تولى ابنه الحكم، لكن الإسرائيليين واصلوا فرض الجزية على مؤاب الأردنية، متجاهلين سيادة المؤابيين وحكم ملكهم الجديد، ميشع. إلا أن الملك ميشع رفض الخضوع لهذا الوضع، وبدلاً من الاستمرار في دفع الجزية، قاد شعبه في سلسلة من الهجمات ضد المواقع الإسرائيلية، بهدف التخلص من سيطرة الإسرائيليين واستعادة الحكم الذاتي لشعبه

حمل الملك ميشع مشروعاً وطنياً يهدف إلى تحرير بلاده من الاحتلال، وهو المشروع الذي نال ثقة قوم مؤاب بناءً عليه، حيث تعهد أمام شعبه بتنفيذه. كان مشروع ميشع الوطني يقوم على تحقيق التحرير، والتعمير، والاستقرار، والازدهار، مع ضمان استمرار هذه المكتسبات. أدرك الملك ميشع أن الخطوة الأولى لتحقيق التحرير تبدأ بالحصول على ثقة شعبه الأردني الأدومي، وتفويضه الكامل، وطاعته، مما جعله يوحّد بين الشعب والملك والمشروع في رؤية وطنية واحدة، هدفها الأسمى في ذلك الوقت تحرير الوطن وإنهاء الإذلال الذي خلفه الاحتلال

وبناءً على ذلك، وبعد أن أحكم ترتيب جبهته الداخلية وعمل على نشر الوعي الوطني، وأتقن عملية التعبئة العامة للتحرير، وقاد الثورة والحركة بإحكام، أصبحت التضحيات التي قدمها أبناء شعبه وسيلة وغاية لتحقيق التحرير المنشود. كما كلّف أركان الدولة ورجال الدين والنخب بضرورة توحيد الجهود وتكريسها لخدمة مشروع التحرير. وقد قام كل طرف بواجبه دون تردد أو تقاعس، فكان الجميع مستعدين للتضحية في سبيل الوطن والكرامة. ووجد القائد شعبه ملتفًّا حول مشروعه هذا، حتى بات الجميع جزءًا من مشروع وطني واحد متكامل لتحقيق التحرير والاستقلال

قصر الملك ميشع
جزء من القصر الذي يعتقد انه يعود للملك ميشع و أجزاء من الجدران الدفاعية

المصدر: وكالة كرم الاخبارية
karamnews.com

قاد الملك الأردني المؤابي ميشع بنفسه حرب التحرير التي خاضها شعب مؤاب، حيث تصدر المعارك وزحف على المواقع الإسرائيلية من الجنوب نحو الشمال. استهل عملياته بتحرير مهدبة (مادبا)، التي كانت من أبرز مراكز القيادة الإسرائيلية في أرض مؤاب، ثم واصل تقدمه حتى وصل إلى الحصن الإسرائيلي المعروف بـ “ياهص”. بعد ذلك، توجه إلى جبل نيبو، حيث خاض معركة شرسة ضد الإسرائيليين، وقدم الأسرى كضحايا وقرابين للإلهة عشتر-كموش

عندما حقق الأردنيون المؤابيون بقيادة الملك ميشع النصر في معركة نيبو، وتمكنوا من هزيمة جيوش مملكة إسرائيل وتحرير بلادهم من الاحتلال، بادر الملك ميشع إلى تعزيز تحصينات الحدود الشمالية لمملكته، لضمان عدم سقوطها مجددًا في أيدي الأعداء. وقد كان هذا الإجراء ضروريًا ليتفرغ لمهاجمة مملكة يهوذا في بلاد كنعان الواقعة غرب نهر الأردن وجنوب مؤاب، بهدف تأمين حدود مملكته الجنوبية والغربية، وضمان استقرارها دون الخوف من فقدان أجزاء أخرى منها

كانت وعورة أرض مؤاب في الجهتين الجنوبية والغربية، إضافة إلى عمق وادي أرنون (الموجب)، تشكل حاجزًا طبيعيًا وسورًا دفاعيًا مهمًا يحمي المملكة الأردنية المؤابية من اعتداءات وزحف الأعداء اليهود من تلك الجهات. وقد عززت هذه التضاريس بتحصينات متينة، بحيث كانت أي نقطة دفاعية عند مدخل الوادي أو على قمة تلّ قادرة على التصدي لجيوش الأعداء ومنعهم من التقدم نحو أراضي المملكة، إلى أن تصل التعزيزات المؤابية لدعم الدفاعات

كان نهرٌ جارٍ في وادي الموجب، يتمتع بمياهٍ صافية وقوية، تحيط به الأراضي الزراعية المروية والتربة الخصبة. عرف هذا النهر باسم نهر أرنون الذي يعبر وادي أرنون، وقد ورد ذكره في مسلة ميشع، الملك المؤابي الأردني، قبل الميلاد. ومع مرور الوقت، تحول النهر إلى سيل الموجب، وفي القرن العشرين أصبح وادي الموجب خاليًا من السيل

وادي الموجب ١٨٨٥ -  ١٨٩٣ - مصدر: ستديو بونيفس

عندما تمكن الملك ميشع من تحصين حدوده الشمالية بشكل محكم، من جهة مأدبا وحشبون ووادي الثمد (وادي ياهص) وسيل حسبان، من خلال تحريرها من الجيوب الإسرائيلية الاحتلالية،، بدأ في تجهيز حملة هجومية على قوات مملكة يهوذا التي كانت تتقدم من الجنوب

وقد عززت مملكة يهوذا من قوتها على جبهة الهجوم جنوب مؤاب، في منطقة غور الصافي، وذلك بتحالفها مع ممالك مجاورة أخرى، مثل مملكة أدوم ضد مؤاب، في محاولة لتقويض قوة الملك ميشع، الذي قاد شعبه نحو النصر. وتمكنت القوات المعادية من اختراق الأراضي الأردنية المؤابية، حتى وصلت إلى حدود الكرك (قير حارسة) حيث حاصرت قلعة الكرك، وسط مقاومة شديدة من الأردنيين المؤابيين لحماية عاصمتهم الأولى

عندما اشتد الحصار على قلعة كير حارسة (أو القلعة المحصنة/خشم العقاب/الكرك) من قبل التحالف الإسرائيلي المعادي، واستمرت المعارك سجالاً لفترة طويلة من القتال العنيف، مصحوبةً بحصار خانق، بذل الأردنيون المؤابيون دماءهم دفاعًا عن وطنهم، وصدّوا الغزو عن عاصمتهم. لكن جيش الغزاة كان ضخمًا وقويًا، وكان الملك الأردني المؤابي ميشع يشعر أن معنويات شعبه على حافة الانهيار. أدرك أن أعداءه أصبحوا على بعد خطوة من دخول الكرك، مما يهدد بالقضاء على جيشه ومملكته وعرشه، واستعباد شعبه، وأخذ النساء سبايا والأطفال عبيدًا. في تلك اللحظة، شعر أن الجميع أصبحوا في خطر شديد، وهو أمر لا يمكن أن يقبله هذا الملك الطموح والمجاهد. فبدأ يبحث عن سبيل للخلاص

قلعة الكرك
Wikipedia, Visitjordan:مصدر

الصورة على اليسار: أطلال القصر في قلعة الكرك
الصورة في المنتصف: أطلال القصر في قلعة الكرك
الصورة على اليمين: نفق هروب من القلعة إلى المدينة في عام ١٢٢٧ م
الصورة في السطر السفلي: برج بيبرس هو أعلى برج في القلعة بأكملها

Connecting the Dots تصوير: أليس مونتي, عبر موقع
www.ctdots.eu

لم يجد الملك ميشع أمامه سوى خيار واحد، وهو اختطاف عدد من قادة اليهود المهمين، الذين كانوا أصحاب الرأي في التخطيط والهجوم. تم خطفهم ثم قدمهم كقرابين من فوق الأسوار، حيث ذبحهم قرباناً للإله كموش، وذلك أمام الغزاة وأمام شعبه. هذا الفعل كان يهدف إلى إرهاب الأعداء، وزيادة عزيمة شعبه وجيشه، ورفع معنوياتهم من جديد. أراد الملك أن يظهر لهم أنه على استعداد للتضحية بكل أعدائه من أجلهم، وأرسل رسالة للقوات المحاصِرة مفادها أن مصيرهم سيكون الذبح على الأسوار كقرابين للإله كموش، فداءً لوطنه وشعبه وعرش مؤاب

وقد ورد في التوراة أن الملك ميشع ذبح ابنه ولي عهده، لكن من المهم الإشارة إلى أن نظام الوراثة لم يكن معمولًا به في الممالك الأردنية القديمة، وبالتالي لم يكن هناك ما يُعرف بـ “ولي العهد”. كما أن كتاب التوراة، في محاولاتهم لتشويه صورة الأردنيين، يسعون إلى تصويرهم كوحشيين، دون الاعتراف بتقديم كبار قادتهم وكهنتهم قرابين للآلهة الوثنية المؤابية. ويدعون أن اليهود هربوا بسبب هذه الأحداث

تكررت هذه التضحية على أسوار قلعة الكرك ولكن بشكل مختلف في بداية القرن التاسع عشر الميلادي. حيث قام إبراهيم باشا الألباني، قائد الجيش المصري، بحصار قلعة الكرك وطلب من شيخ القلعة، إبراهيم الضمور الغساسنة، تسليم القلعة وتسليم قاسم الجماعين، الذي كان مطلوبًا للجيش المصري. إلا أن الشيخ إبراهيم رفض، فقام إبراهيم باشا بحرق أبناء إبراهيم الضمور. وعلى الرغم من ذلك، تقبل إبراهيم هذا المصير، بمباركة من والدتهم عليا الضمور، رحمهم الله جميعًا، ورفض تسليم القلعة أو دخيله

بعد التصرف البطولي الذي قام به الملك ميشع، حيث ضحى بالقادة اليهود الذين كانوا أسرى بين يديه من كبار الكهنة والقادة العسكريين، ارتفعت معنويات شعب مؤاب الأردني بشكل كبير. فاندفعوا للقتال بشجاعة، فيما ساد الذعر في قلوب أعدائهم، فقد تساءلوا كيف يمكن هزيمة شعب يقدم أعداءه كقرابين على طريق النصر والبناء. وبذلك، تمكن الحصار من الانكسار، وهرب الجيش الأدومي الذي كان مضطرا للانضمام إلى صفوف اليهود، لكنه تظاهر بالخوف وانسحب من المعركة بعد اتصالات سرية بين الملك ميشع وقائد الجيش الأدومي

ترك الجيش اليهودي وحيدًا في المعركة، حيث أصابته حالة من الرعب دفعته للفرار، بينما تقدمت القوات الأردنية المؤابية، مطاردة الأعداء إلى ما وراء حدودهم. وبذلك، انتهت الجولة الأولى من المعارك حول العاصمة المؤابية، ليبدأ مسلسل الحروب والانتصارات العسكرية، وتليها معارك التحرير الشامل لتراب مؤاب، ثم معارك البناء والتعمير

المراجع

د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية

Previous:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٣  –  الحكام والأحداث السياسية
Next:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٥ –  الاقتصاد والتجارة