المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٥ –  الاقتصاد والتجارة

تتمتع مملكة مؤاب بتاريخ اقتصادي حافل يعكس التنوع والازدهار الذي تحقق من خلال استغلال مواردها الطبيعية المتنوعة. فمن خلال الأنشطة الزراعية واستخراج المعادن وتطوير الصناعات الحرفية، تمكنت المملكة من بناء اقتصاد قوي ومستدام. هذا التكامل بين الموارد الطبيعية والتجارة عزز من قوة واستقرار المملكة، وجعلها قادرة على التأثير في المناطق المجاورة عبر شبكة تجارية واسعة

القمح يصدر عبر البحر الميت

كانت الموارد الاقتصادية والتجارة في مملكة مؤاب تتميز بالتكامل والتنوع، مما أسهم في بناء اقتصاد مستقر وقوي. واستطاعت المملكة تحقيق ازدهار اقتصادي مستدام من خلال الاستفادة من مواردها الطبيعية، كأنشطة الزراعة واستخراج المعادن، إلى جانب تطوير الصناعات الحرفية، والانخراط الفعال في الشبكات التجارية الإقليمية، الأمر الذي عزز من قوتها واستقرارها على مر العصور

الجغرافيا، المناخ، مصادر المياه، الطرق

تبدأ مملكة مؤاب الأردنية من المنطقة الشرقية للساحل الشرقي للبحر الميت، حيث تتنوع طبيعة الأرض ما بين أراض خصبة وقاحلة، ومياه مالحة وأخرى عذبة. ويتميز الشريط الساحلي الجنوبي الشرقي للبحر الميت بخصوبته بشكل عام، ويشمل مناطق غور الذراع، وغور المزرعة، وغور الصافي، وغور فيفة، التي تمتد من الشمال إلى الجنوب

تحاذي هذه الأغوار سهول خصبة من الشرق، وتطل عليها سلسلة جبال مؤاب الشاهقة، التي تمتد حتى تنحدر إلى هضاب البادية الأردنية ومن ثم إلى الصحراء، وصولاً إلى تخوم الربع الخالي. هذه المنطقة كانت جزءاً من مملكة الكرك التاريخية، ثم تحولت إلى لواء الكرك خلال العهد العثماني. وتتنوع طبيعة هذه الأراضي المرتفعة بين الخصوبة والجفاف، كما تضم جبال مؤاب عدداً من الأودية والينابيع والمجاري المائية التي تصب في البحر الميت وتغذيه بمياه الأمطار

مملكة مؤاب

واعتمدت مملكة مؤاب الأردنية بشكل أساسي على مياه الأمطار في فصل الشتاء، بينما ارتكزت في فصل الصيف على المصادر المائية الأخرى مثل السيول دائمة الجريان، والينابيع السطحية، وآبار الجمع، إضافة إلى الأودية التي تنتشر في أنحاء المملكة. ويعد وادي الموجب (أرنون) من أهم مصادر المياه في مملكة مؤاب، إلى جانب تفرعاته وسيل اللجون الذي يصب في وادي الموجب. كما استثمر الأردنيون المؤابيون في حفر الآبار وبناء خزانات ضخمة لتخزين المياه، مثل بركة زيزياء، وبركة القسطل، وبركة جنوب مأدبا، وبركة ماعين، وبركة الموقر. واعتمدوا على هذه البرك كجزء من استراتيجيتهم لتطوير نظام مائي مستدام يلبي احتياجاتهم

كان للجغرافيا أثر كبير في تأسيس المدن والقرى وشق الطرق التي تخدم السكان، حيث سلك الناس المسالك الأكثر سهولة للوصول إلى مختلف أنحاء البلاد. وقد شكّل “الطريق السلطاني” الشريان الرئيسي في مملكة مؤاب الأردنية، إذ امتد من جنوب البلاد إلى شمالها، مارًّا عبر الممالك الأردنية الأخرى، وكان يعد من أهم الطرق التجارية في العالم القديم، لكونه يربط بين الشمال والجنوب. عمل المؤابيون على إنشاء شبكة من الطرق والمسالك، إضافة إلى بناء التحصينات والاستراحات والقلاع المحروسة بحاميات عسكرية على امتداد الطريق السلطاني داخل أراضيهم، لضمان حماية الطرق والقوافل التجارية. كما شقّوا العديد من الطرق التي تخترق المملكة من الشرق إلى الغرب، لتسهيل حركة التنقل والتجارة

ولكي تبقى الدولة المؤابية الجديدة وتستمر في الوجود، كان على مؤسسيها أن يحسنوا التعامل مع جيرانهم وإخوانهم من الثموديين في بلاد ثمود، والممالك الأردنية الأخرى. فكان لا بد من العيش بمودة وتكاتف وتحالف مع بقية الجيران الأردنيين

بدأ المؤابيون ببناء دولتهم وتثبيت أركانها وتطوير النشاط الاقتصادي فيها. وقد كانت عملية البناء شاقة وعظيمة، مستفيدين من طبيعة بلادهم التي جمعت بين الحصانة الجغرافية والخصوبة المناخية. فكانت الأرض سخية بخصوبتها، والمطر وفيرًا، والمياه عذبة، مما جعل الأرض قادرة على إنتاج المحاصيل وتوفير المراعي الغنية طوال العام

وادي الموجب ١٨٨٥ -  ١٨٩٣ - مصدر: ستديو بونيفس

أصبحت الدولة المؤابية مصدرًا مهمًا لتربية المواشي، مثل الأغنام والإبل والبقر، إلى جانب إنتاج السمن والجميد واللبن والحليب والصوف والوبر والشعر. كما اعتمدوا على البغال والحمير في التنقل وحمل الأثقال، وهو ما ورد ذكره في نصوص التوراة

ومع تزايد الإنتاج الزراعي والحيواني، كان من الضروري أن تبني الدولة مستودعات وبيوتًا وحظائر للمواشي، وتعمل على إصلاح مصادر المياه، وتمهيد الطرق لتسهيل الحركة والتنقل بين المناطق. وقد كان هذا الجهد المتواصل جزءًا من بناء دولة قوية ومستقرة، قادرة على تلبية احتياجات شعبها والتأقلم مع الظروف الطبيعية المحيطة بها

إن تطور الدولة المؤابية يعكس السمات المميزة للشخصية الأردنية التي تنسجم مع طبيعة الجغرافيا المحلية، وتبرز قدرة الأردنيين على التفاعل الإيجابي مع الثقافات المتنوعة. فمنذ العصور الوثنية وحتى يومنا هذا، أثبت الأردنيون انفتاحهم على مختلف الثقافات والأعراق، ما أسهم في تشكيل مجتمع قوي ومتماسك قادر على استيعاب الآخرين والتأثير فيهم، مع الحفاظ على هويته الأصيلة دون أن يفقد جوهره

تعد القدرة على احتضان التنوع الثقافي والديني جزءاً محورياً من الفكر الأردني وثقافته الراسخة. فالأردنيون يرحبون بالوافدين إلى أرضهم، غير أنهم ينجحون في تعزيز ثقافتهم الوطنية بأسلوب هادئ ومؤثر. هذا التوازن الفريد يساهم في ترسيخ الهوية الوطنية الأردنية المتكاملة، ويعزز من مسيرة البناء والتنمية والاستقرار

وعند استعراض المواقع التاريخية في الأردن، نلاحظ أن المناطق المؤابية شهدت نشاطًا ملحوظًا عبر العصور المختلفة، بدءًا من المؤابيين والإيميين والروفائيين وصولًا إلى الأنباط والرومان. فقد واصل هؤلاء تعمير المدن والقرى والمزارع التي أسسها المؤابيون، وحافظوا عليها من الأخطار الخارجية. وعندما انتهت دولة المؤابيين، تولى الأنباط ملء هذا الفراغ، مما يعكس حقيقة أن الطبيعة والسياسة لا تقبل الفراغ. وقد استمرت هذه المواقع في التطور والازدهار عبر العصور، مؤكدين بذلك استمرارية الهوية الأردنية وثباتها على مر الزمن

الموارد الاقتصادية: المصادر الاقتصادية الرئيسية

:كانت مملكة مؤاب تتمتع بموارد اقتصادية متنوعة، اعتمدت عليها لبناء اقتصاد قوي ومستقر. من أبرز هذه الموارد

الزراعة –

المحاصيل الزراعية تعد الزراعة من الأنشطة الاقتصادية الأساسية في مؤاب، نظرًا لخصوبة التربة في مناطق مثل وادي مؤاب وديبون. وكانت أبرز المحاصيل التي تُزرع هناك تشمل القمح والشعير والعدس والزيتون والعنب، حيث وفرت هذه المحاصيل احتياجات السكان الغذائية، إلى جانب كونها مصدرًا هامًا للدخل

تربية المواشي إلى جانب الزراعة، شكلت تربية المواشي نشاطًا اقتصاديًا مهمًا في مؤاب. فقد كان السكان يعتمدون على رعي الأغنام والماعز، مما وفر لهم اللحوم والألبان والصوف، وهي منتجات أساسية للاستهلاك المحلي والتجارة

المعادن –

النحاس اشتهرت مؤاب بثرائها بالموارد المعدنية، لا سيما معدن النحاس. وقد كشفت التنقيبات الأثرية عن وجود مواقع تعدين قديمة في المنطقة،مما يدل على أن استخراج النحاس وصهره كان من الأنشطة الاقتصادية الرئيسية

الملح والمعادن الأخرى وفرت المناطق المحيطة بالبحر الميت كميات كبيرة من الملح والمعادن الأخرى التي لعبت دورًا مهمًا في التجارة المحلية والإقليمية، حيث تم استخدامها في مختلف الصناعات وتبادل السلع

الصناعات الحرفية –

الفخار والنسيج ازدهرت الصناعات الحرفية في مؤاب، مثل صناعة الفخار والنسيج، حيث تم اكتشاف العديد من القطع الأثرية التي تشير إلى وجود ورش حرفية متقدمة

التجارة –

كان للتجارة دور أساسي في اقتصاد مملكة مؤاب، إذ كانت المملكة تتموقع على مسارات تجارية استراتيجية تربط بين مناطق متنوعة في الشرق الأدنى القديم

:الشركاء التجاريون

إسرائيل ويهوذا رغم الصراعات السياسية المتكررة، كان هناك تبادل تجاري نشط بين مؤاب وممالك إسرائيل ويهوذا

عمون وأدوم كانت العلاقات التجارية مع الممالك المجاورة مثل عمون وأدوم قوية، حيث تم تبادل السلع والمنتجات الزراعية والحرفية

الفينيقيون استفادت مؤاب من الشبكات التجارية الواسعة التي أنشأها الفينيقيون، مما سمح لها بتوصيل منتجاتها إلى أسواق بعيدة عبر التجارة البحرية

:السلع المتبادلة

المنتجات الزراعية كانت الحبوب والزيتون والنبيذ من السلع الأساسية التي يتم تصديرها

المعادن كان النحاس والملح من السلع المهمة التي يتم تداولها مع الشركاء التجاريين

السلع الحرفية كان الفخار والنسيج وأعمال الحرف اليدوية الأخرى جزءًا من التجارة المؤابية، حيث كانت هذه السلع تحظى بطلب في الأسواق الإقليمية

المراجع

د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية

Previous:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٤ –  ثورة شعب يقودها الملك المحرر ميشع
Next:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٦ – المجتمع المؤابي