المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٦ – المجتمع المؤابي
شهدت منطقة مؤاب تطورات تاريخية واجتماعية مهمة، انعكست في ظهور مجتمع متنوع الطبقات والأنشطة الاقتصادية. وقد مر اسمها بتغيرات تبعًا للشعوب التي استوطنتها، إلى أن استقر عند المؤابيين بعد اندثار حضارات سابقة مثل الروفائيين والإيميين. تميز المجتمع المؤابي بتعدد فئاته، من الرعاة والمزارعين إلى التجار والصناع، مع بنية اقتصادية قوية اعتمدت على الزراعة، التجارة، والصناعات المتنوعة، وسط نظام اجتماعي دقيق يعكس ملامح مجتمع معقد ومترابط
ان اسم “مؤاب” ظهر متأخراً في التاريخ، أي بعد زوال سيادة الروفائيين ومن بعدهم الإيميين عن المشهد. ويؤكد ذلك النص التوراتي الذي يشير إلى “البلاد التي أصبح يطلق عليها مؤاب، ما يعني أن هذه الأرض اكتسبت اسم “مؤاب” بعد اندثار نفوذ الروفائيين والإيميين، الذين حكموا تلك المناطق لأكثر من عشرة آلاف عام قبل ظهور المؤابيين. وقد حملت الأرض أسماء مختلفة تبعاً للشعوب التي سكنتها، إذ كانت تعرف في زمن الروفائيين بـ”الروفائية“، وفي زمن الإيميين بـ”الإيمية“، حتى أطلق عليها اسم “مؤاب” بعد أن سيطرت عليها القبائل المؤابية
أما المجتمع المؤابي فقد تميز بتعدد طبقاته، حيث ضم الطبقة الحاكمة، وطبقة الكهنة، وطبقة الملأ من الوجهاء، إضافة إلى طبقة العسكريين، وطبقة الإداريين والمعلمين، فضلاً عن طبقة التجار وأصحاب الحرف
:وعند قيام الدولة المؤابية، انقسم شعبها إلى أربع فئات رئيسية، وهي
الفئة الرعوية –
تُعدّ الفئة الرعوية من أقدم الفئات الاجتماعية التي استمرت طوال فترة وجود الدولة المؤابية، حيث كان أصحاب المواشي يعتمدون بشكل رئيسي على تربية الماشية في المراعي الخصبة المنتشرة في المنطقة. وقد أدى ذلك إلى ازدهار الثروة الحيوانية وتكاثرها بشكل ملحوظ، وهو ما يظهر جلياً في حجم الجزية التي كان يدفعها ملك مؤاب لملك اليهود، تعبيراً عن غنى البلاد ووفرة مواشيها
عاش هؤلاء الرعاة في الخيام التي أقاموها في المناطق المختلفة، بينما كان الشيوخ منهم يملكون بيوتاً مستقرة في المدن والقرى. إلى جانب ذلك، أقاموا خياماً متنقلة في القرى والمدن الواقعة في المناطق الجبلية والأغوار والبادية، حيث كانت عائلاتهم تنتقل حسب توفر الكلأ والماء وتغيرات الطقس بين البرودة والحرارة والاعتدال. وكان السكن في خيام مصنوعة من الشعر يعرف باسم “العزبة”، وهو مصطلح لا يزال مستخدماً في اللهجة الأردنية للإشارة إلى خيام الرعاة وأهل المواشي
أما الشيوخ الميسورون، فقد كان من الشائع أن يتزوجوا عدة نساء. كانت بعض الزوجات ترافقهم في ترحالهم مع المواشي، بينما بقيت أخريات في المدن، حيث كان الشيخ يعود إليهن بين الحين والآخر. بالإضافة إلى ذلك، كان لديهم عدد من الجواري والسراري، إما عن طريق الشراء أو كهدايا من ملك مؤاب، أو نتيجة اقتسام الأسرى من النساء بعد المعارك
فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والقانونية، كانت الزوجات لدى الرجل المؤابي الميسور يتمتعن بنفس المكانة والحقوق، سواء أكانت الزوجة مستقرة في المدينة أم متنقلة معه في البادية. كما كان أبناؤهن يحصلون على حقوق متساوية في الإرث والمكانة. أما الجواري، فكانت مكانتهن أقل من الزوجات، لكن أبناءهن كانوا يمنحون حقوقاً مشابهة لأبناء الزوجات الحرائر، وقد يصلون إلى مكانة متقدمة إذا أظهروا شجاعة ومهارات مميزة تؤهلهم للانضمام إلى صفوف الشيوخ والفرسان في المجتمع. وفي أسوأ الحالات، كان يلحق هؤلاء الأبناء بآبائهم ويعاملون بدرجة أقل بقليل من أبناء الحرائر، لكنهم ظلوا جزءاً معترفاً به من العائلة والقبيلة
الفئة الزراعية –
الفئة الثانية هي الفئة الزراعية، حيث تنوعت أنشطتهم الزراعية بين الزراعة البعلية التي تعتمد على مياه الأمطار، والزراعة المروية التي استخدمت فيها مياه العيون، والأنهار، والسيول، بالإضافة إلى السدود والبرك التي استغلت في الحصاد المائي. كما اعتمدوا على الأحواض التي تجمع المياه عبر الترشيح من باطن الأرض. وشملت الثروة الزراعية لديهم زراعة أشجار الفاكهة والتوت المستخدم في إنتاج الحرير، إلى جانب التين والزيتون وأنواع عديدة من الفواكه التي كانت تباع طازجة أو تجفف وتحول إلى معجون أو مسحوق، أو يتم استخراج الزيوت منها لصناعة الصابون
الفئة التجارية –
تعد التجارة من أبرز المجالات الاقتصادية التي برع فيها المؤابيون، وتميزت بنشاطات متنوعة شكلت جزءاً أساسياً من حياتهم الاقتصادية والاجتماعية. تنوعت أشكال التجارة لدى المؤابيين، وشملت التعامل مع القوافل التجارية العابرة، وإقامة الأسواق الموسمية، بالإضافة إلى التجارة الجوالة والتجارة في المدن
التجارة الموسمية والأسواق الكبرى
كان للمؤابيين أسواق موسمية تقام مرتين في العام، ويُطلق عليها اسم “أسواق العيدين” أو “أيام الزينة”، حيث يتجمع الناس من مختلف المناطق للاحتفال والمشاركة في الأنشطة التجارية. استمرت هذه الأسواق لمدة أسبوع كامل، وشهدت تجمعات كبيرة خلال المناسبات العامة، مثل الاحتفال بالنصر في معركة، أو تتويج ملك، أو مناسبات الأفراح والأتراح الخاصة بأعضاء النخبة في المجتمع
التجارة الجوالة
مارس المؤابيون نوعاً خاصاً من التجارة يعرف بالتجارة الجوالة، حيث كان التجار المتجولون يحملون بضائعهم على الدواب أو على أكتافهم، ويطلق عليهم “الدواجين”. كانوا يجوبون المناطق البدوية لبيع السلع التي يحتاجها السكان، مما يعكس الأمان والاستقرار الذي ساد في الأراضي المؤابية
تنقل التجار عبر الخيل والبغال والعربات، وحرصوا على التواجد في أماكن التجمعات البشرية مثل الأسواق والمناسبات الكبرى، لتحقيق أقصى استفادة من حركة التجارة
التجارة في المدن
إلى جانب التجارة الجوالة، كانت هناك تجارة مستقرة في المدن، حيث أقام التجار عرائش وحوانيت صغيرة في الأسواق. وقد يكون لبعض التجار فروع في مناطق مختلفة، سواء كانوا متنقلين أو مستقرين، وتعد هذه الأسواق نموذجاً قديماً للأسواق الحديثة، حيث كانت تحتوي على محال تجارية متنوعة، وتقدم خدمات متعددة للسكان
حماية الطرق التجارية
لعب المؤابيون دوراً مهماً في تأمين الطرق التجارية المارة عبر أراضيهم، من خلال بناء التحصينات والقلاع على طول هذه الطرق الاستراتيجية. أدركوا أهمية هذه الطرق كمصدر اقتصادي كبير، وعملوا على حمايتها من الأخطار المحتملة
أسهمت التجارة المؤابية في تبادل السلع والبضائع، بما في ذلك المعادن، المنسوجات، والمنتجات الزراعية والحيوانية. وأنشأ المؤابيون مراكز تجارية متطورة لتقديم الخدمات للقوافل التجارية
الخدمات المقدمة للتجار والقوافل
في المحطات التجارية، قدم المؤابيون خدمات مدفوعة للقوافل، مثل توفير الأدلاء، وتأجير الجمال والخيل والبغال لنقل البضائع إلى وجهاتهم المقصودة. كما وفروا خدمات المبيت والطعام والشراب للتجار والمسافرين
ومن الطقوس المثيرة للاهتمام، كان بإمكان التجار اختيار أصنام من مستودع الأصنام الموجود في المحطة التجارية، ووضعها في زوايا مخصصة للعبادة داخل المعبد. وكان هناك سماسرة متخصصون في تقديم هذه الخدمات، مقابل أتعاب محددة تُدفع عن كل معاملة تجارية
باختصار، شكلت التجارة ركناً أساسياً في اقتصاد المؤابيين، وعكست تطوراً كبيراً في تنظيم الأسواق، حماية الطرق التجارية، وتقديم خدمات متعددة للتجار، مما ساهم في ازدهار اقتصادهم على مدار التاريخ
الفئة الصناعية –
حيث ازدهرت العديد من الصناعات التي كانت تلبي الاحتياجات الأساسية للسكان. وكانت هذه الأعمال مقتصرة على فئات معينة، مثل العبيد والمضطهدين والأسرى والحرفيين، تحت إشراف أصحاب المال أو أصحاب المصانع. وقد نظر البدو إليهم نظرة دونية، فاعتبروهم طبقة متدنية من الصناع، وامتنعوا عن التزاوج معهم سواء بتزويجهم من عشائرهم أو بزواجهم منهم
الأدلة الأثرية ودلائل الحضارة المؤابية
تشير الاكتشافات الأثرية في منطقة المؤاب إلى أن المؤابيين كانوا شعبًا زراعيًا يتمتع بحضارة متقدمة، وأنهم شكلوا جزءًا من التاريخ والجغرافيا القديمة. ووفقًا للكشوف الأثرية، فقد استمر وجودهم حتى نهاية العصر البرونزي الأول (حوالي ٣٠٠٠ إلى ٢٠٠٠ قبل الميلاد). وقد عثر على مدنهم محصنة ومشيدة في مواقع استراتيجية يسهل الدفاع عنها
إحدى أبرز الاكتشافات كانت في موقع “باب الضهرة”، على بعد خمسة أميال شرق “اللسان” في البحر الميت، حيث تم العثور على مقبرة تحتوي على نحو ٢٠٠٠ قبر يعود تاريخها إلى العصر البرونزي الأول. كما تم العثور على أوانٍ فخارية في تلك الجبانة تشبه إلى حد كبير الأواني الكنعانية
باب الضهرة (باب الذراع)
منطقة غور الذراع – الكرك، الأردن
كانت منطقة موآب تمر بها “طريق الملك”، وهي طريق تجارية هامة تمتد من شمال البلاد إلى جنوبها. ومن المرجح أن تكون هذه الطريق هي التي سلكها كدَرلعومَر ملك عيلام خلال غزوته الشهيرة {دَرْلعَومَرَ اثـنتي عَشْرَةَ سنَةً، وفي السَنةِ الثَالثةَ عَشْرةَ ثاروا علَيهِ. وفي السَنةِ الرَابعةَ عشْرَةَ جاءَ كَدرْلَعَومَرُ والملوكُ حُلفاؤُهُ، فأخضَعوا الرَفَائيِينَ في عَشتَاروتَ قَرنايمَ، والزُوزيِينَ في هَامَ، والإيميِين في شَوَى قِريتايِم، والحوريِينَ في جبَلِهم سَعيرَ حتى سَهلِ فارانَ على حُدودِ الصَحراءِ} (سفر التكوين 14: 5-7)
وقد يكون الدمار الذي أحدثه هذا الغزو في المنطقة هو السبب في القضاء على الإيميين، الذين كانوا السكان السابقين لموآب قبل استقرار المؤابيين فيها {هُمْ أَيْضًا يُحْسَبُونَ رَفَائِيِينَ كَالْعَنَاقِيِينَ، لكِنَ الْمُوآبِيِينَ يَدْعُونَهُمْ إِيمِيِينَ} (سفر التثنية 2: 10-11)
الفئات المهمشة في المجتمع الأردني القديم
في المجتمع الأردني القديم، ظهرت فئتان مهمتان ظلّتا معزولتين عن التزاوج مع العشائر، وهما
فئة العبيد –
فئة الصناع –
وكانت هذه الفئات تعامل بازدراء اجتماعي، حيث لم يسمح بالتزاوج بين أفراد العشائر وبين هذه الفئات، سواء بتزويجهم من العشائر أو العكس
المراجع
د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية