المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٨ – ملوك مملكة مؤاب الأردنية
يعد تاريخ المملكة الأردنية المؤابية جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية الأردنية، حيث مثّل ملوكها رمزًا للصمود في وجه التحديات الخارجية، وساهموا في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي. وقد تميزت هذه الحقبة بقيادة حكيمة قادت الأردنيين المؤابيين إلى تحقيق انتصارات سياسية وعسكرية، فضلًا عن نهضة حضارية أثرت في تاريخ المنطقة. ويستعرض النص أبرز إنجازات الملوك المؤابيين، الذين واجهوا التحديات بحكمة وقوة، ودافعوا عن أرضهم وهويتهم الأردنية
قلعة الكرك - الاردن
اتسمت المملكة الأردنية المؤابية، وفقاً لبعض المؤرخين، بكثرة الصراعات مع جيرانها، ولا سيما مع العبرانيين. غير أن هذا التصور يعكس قراءةً أحادية ويغلب عليه التعميم، حيث يستند إلى بعض الحروب والنزاعات التي خاضها الأردنيون المؤابيون، متجاهلاً جوانب أخرى من تاريخهم. فقد تأسست هذه المملكة بفضل قدرتها الفائقة على دمج المكونات الثقافية المختلفة وصهرها في نسيج اجتماعي موحد. كما أن ظهورها في الساحة التاريخية جاء في وقت كان بإمكان المؤابيين القضاء على ثقافة الإميين الذين سبق وانتزعوا منهم النفوذ، إلا أنهم اختاروا نهج الاندماج واحترام الوجود الإيمي بدلاً من محوه
ملوك المملكة الأردنية المؤابية
ملوك مؤاب العظماء كانوا حماة لمؤاب الأردنية، يدافعون عن أرضها وشعبها وهويتها، ويرسخون شرعيتها ووجودها، ويعززون صمودها واستقرارها وازدهارها. بذلوا أرواحهم وقدموا أثمن التضحيات لحمايتها من الأخطار التي تهددها. أقاموا الطقوس وقدموا القرابين، طلبًا للنصر على الأعداء، وسعيًا لنيل رضا الآلهة كموش وزوجته عشتار، لتبقى مؤاب قوية منيعة أمام التحديات
الملك بالاق بن صفور
كان ملكًا معاصرًا للنبي موسى عليه السلام، وحليفًا لكل من فرعون التسخير رعمسيس الثاني وابنه فرعون الخروج مرنبتاح. في تلك الفترة، ظهر النبي بلعام الذي كان يقيم في مدينة بلعما الواقعة غربي مدينة المفرق في الأردن، والتي نسبت إليه لاحقًا
اشتهر النبي بلعام بأنه ممن أوتوا العلم وآيات الله، ولكنه انحرف عن طريق الحق وضلّ عن سبيل التوحيد، فكان مثالًا لمن انسلخ عن آيات الله وخضع لإغواء الشيطان، كما ورد في قوله تعالى: “واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين” (سورة الأعراف، الآية ١٧٥)
دور الملك الأردني المؤابي بالاق في التوازن السياسي مع القبائل العبرانية
حكم الملك الأردني المؤابي بالاق في مرحلة حساسة تزامنت مع استقرار بعض القبائل العبرانية في المنطقة. وتذكر المصادر التاريخية أن بالاق بن صفور كان ملكًا على المؤابيين، مما يعكس عراقة النظام السياسي الذي أسسه الأردنيون المؤابيون منذ تلك الحقبة. ومع ذلك، فإن بعض الروايات التاريخية تناقض هذا الطرح وتدعي أن نشأة المملكة المؤابية تزامنت مع وصول العبرانيين، وهو ما يشير إلى محاولات لإضعاف الرواية التاريخية الأردنية
بحسب المصادر التاريخية، عندما استقرت بعض القبائل العبرانية بالقرب من منطقة عربوت مؤاب الممتدة شمال البحر الميت حتى وادي نمرين، دعا الأردنيون المؤابيون هؤلاء العبرانيين إلى ولائم دينية قدموا خلالها قرابين لآلهتهم. وقد لبّى العبرانيون هذه الدعوات وشاركوا في الطقوس التعبدية، وشربوا من نبيذ العنب الذي صنعه الأردنيون المؤابيون، بل وصل بهم الأمر إلى السجود للآلهة المؤابية. هذه المشاركة في الطقوس الدينية خلّفت حقدًا دفينًا لدى العبرانيين، إذ اعتبروا ما حدث انتهاكًا لعقيدتهم، فتبنوا أناشيد سخرية أطلقها الأموريون في الشمال، وبدأ كهنتهم في إطلاق اللعنات على الشعب الأردني المؤابي، مستغلين الدين كأداة سياسية لتبرير أطماعهم في الأراضي الأردنية الواقعة شمال وادي الموجب (أرنون)
أدرك الملك الأردني المؤابي بالاق خطورة الموقف مبكرًا، فأرسل في طلب الكاهن الأردني المؤابي الأكبر بلعام ليرد هذه اللعنات. إلا أن الكاهن بلعام، بحكمته السياسية ووعيه بتوازن القوى، اختار عدم الرد على تلك اللعنات، موجّهًا رسالة واضحة للملك بالاق بضرورة تجنب التهور وعدم الدخول في مواجهة مباشرة مع العبرانيين في تلك المرحلة. وبدلًا من ذلك، نصحه بتعزيز قوة الأردنيين المؤابيين وانتظار الفرصة المناسبة
التزم الملك بالاق بهذه النصيحة، ونجح في الحفاظ على الاستقرار السياسي في المنطقة، مما ساعد المملكة المؤابية على تحقيق السلام لفترة طويلة امتدت لما يقارب جيلين بعد حكمه، مؤكّدًا بذلك حكمة الأردنيين المؤابيين في إدارة الأزمات وتعزيز قوتهم السياسية في مواجهة التحديات الخارجية
الملك الأدومي حدد بن بدد
كان أحد أبرز المحاربين للنبي يوشع على أرض مؤاب. قام بتأسيس عاصمة جديدة إلى جانب الكرك، وهي مدينة ذيبان، التي جهزها وحصنها لتكون قاعدة للطوارئ والعمليات العسكرية خلال مواجهته لبني إسرائيل بعد خروجهم من التيه. ومع مرور الوقت، أصبحت ذيبان العاصمة الرئيسية، بينما تحولت الكرك إلى العاصمة الثانية
الملك ميشع بن كمشيت: المحرر والمؤسس الذي ارتبط اسمه بتاريخ الأردن
الملك ميشع بن كمشيت، ملك مؤاب الأردنية، يعد من أبرز القادة التاريخيين الذين خلدوا أسماؤهم في سجلات التحرير. اشتهر بإنجازه العظيم في تحرير أرض مؤاب من الاحتلال الإسرائيلي في العصور القديمة، وخلد انتصاراته عبر نقشها على حجر ذيبان الشهير (المعروف أيضًا بمسلة ميشع)، الذي تعرض في متحف اللوفر في باريس
مسلة ميشع - متحف لوفر باريس
تعرض الأردنيون المؤابيون قبل تولي الملك الأردني المؤابي ميشع لحالة من الضعف، تمكن خلالها العبرانيون من بسط نفوذهم على المنطقة. ولكن سرعان ما استطاع ميشع، بفضل الروح الوطنية الرافضة للخضوع التي تميز بها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، أن يقود ثورة عظيمة أفضت إلى كسر النفوذ العبراني وطردهم من الأراضي الأردنية، بل وملاحقتهم داخل حدودهم. وتمكن ميشع من فرض السيطرة المؤابية على أجزاء واسعة من أراضي مملكة يهوذا، مما حفز الأردنيين الأدوميين والأردنيين العمونيين للانقضاض على مملكتي يهوذا وإسرائيل
لم تقتصر إنجازات الملك الأردني المؤابي ميشع على الانتصارات العسكرية فحسب، بل امتدت إلى تحقيق نهضة حضارية مهمة. فقد أطلق ثورة زراعية هدفت إلى تنظيم النشاط الزراعي وزيادة الإنتاج، إلى جانب تنفيذ مشاريع عمرانية واسعة النطاق. وقد عمل على إعادة إعمار المدن والقرى المدمرة، وبنى مدناً جديدة، بالإضافة إلى إنشاء معابد مخصصة للإله الأردني المؤابي كموش. ولم يتوقف عند ذلك، بل وثق إنجازاته في نقش على مسلة حجرية شهيرة تُعدّ مرجعاً تاريخياً مهماً لتلك الحقبة، نظراً لما تتمتع به من مصداقية في توثيق الأحداث التي تعرضت لكثير من التحريف والتشويه في روايات أخرى
يذكر الملك ميشع أيضًا في التراث الشعبي الأردني لارتباطه بأحد أهم رموز المائدة الأردنية، وهو المنسف. وفق الروايات التاريخية، أمر الملك ميشع شعبه بطبخ اللحم باللبن، في مخالفة صريحة للشريعة اليهودية التي كانت تحرّم طبخ لحم الجدي بلبن أمه. كان هذا القرار يحمل بُعدًا سياسيًا، حيث شكّل تحديًا للهيمنة الإسرائيلية الدينية والثقافية على المنطقة
استجاب شعبه لهذا الأمر، ومع تلاحمهم ووحدتهم، وجدها ميشع الفرصة المناسبة لشن حرب التحرير ضد الإسرائيليين. تمكن من قيادة شعبه إلى النصر، وحرر مؤاب من الاحتلال، ووجه ضربات قاسية لأعدائه، مما جعله رمزًا للتحرر الوطني في التاريخ الأردني القديم
قلعة الكرك - الاردن
الملك عجلون
الملك عجلون هو الملك المؤابي الذي نسبت إليه مدينة عجلون الواقعة في شمال الأردن، والتي لا تزال تحمل اسمه حتى يومنا هذا. يذكر أن الملك عجلون قاد حملة استعاد فيها السيطرة على مدينة أريحا وغور الأردن غربي مجرى نهر الأردن، وذلك بفضل تحالفه مع مملكة عمون الثمودية، وتمكن من طرد بني إسرائيل من تلك المناطق. غير أن حياته انتهت بشكل مأساوي حين تعرّض للغدر على يد أحد قضاة بني إسرائيل في تلك الفترة، أثناء وجوده في استراحة بمدينة أريحا خلال أحد أيام الصيف
عجلون - الاردن
بعد سنوات من التوازن الحذر الذي ساد المنطقة، تمكن الأردنيون المؤابيون بقيادة الملك المؤابي عجلون من استعادة سيطرتهم الكاملة على أراضيهم الواقعة شمال وادي الموجب (أرنون)، والمعروفة باسم عربوت مؤاب. وعقب ذلك، نجح الملك عجلون في استثمار الأوضاع السياسية لتشكيل حلف قوي ضم الأردنيين المؤابيين، والأردنيين العمونيين، بالإضافة إلى العماليق. وكان التحالف مع العمونيين طبيعيًا بحكم روابط القربى بينهم، بينما استغل الملك عجلون رغبة العماليق في استعادة أراضيهم وعداءهم للعبرانيين لتوطيد هذا الحلف، الذي تمكن من التوغل في عمق أراضي العبرانيين والسيطرة على أجزاء مهمة منها
بعد تثبيت نفوذه، فرض الملك الأردني المؤابي عجلون الجزية على القبائل العبرانية التي أصبحت تحت سلطته، ونجح في جمعها لمدة ثمانية عشر عامًا. إلا أن هذا الوضع لم يرق لإحدى القبائل العبرانية الخاضعة لحكمه، وهي قبيلة بنيامين، التي ضاقت ذرعًا بالجزية المفروضة عليها. ورغم استيائها، ترددت القبيلة في مواجهة الملك عجلون بشكل مباشر خوفًا من بطشه
لكن أحد زعماء بنيامين، ويدعى أهود البنياميني، خطط لاغتيال الملك عجلون. خلال حملة تفقدية للملك في المناطق الخاضعة لنفوذه، توجه أهود لتقديم الجزية والهدايا، وهو ما فعله لتطمين الملك وحاشيته. وبعد انصرافه، عاد مدعيًا أنه يحمل نبوءة مهمة تتعلق بحروب الملك ومستقبل أعدائه، وطلب لقاءً خاصًا معه. وبسبب الاطمئنان الذي بثه في نفوسهم، وعدم تصورهم أن العبرانيين قد يجرؤون على اغتيال الملك، وافقوا على اللقاء
وفي الاجتماع الخاص، تمكن أهود البنياميني من تنفيذ خطته واغتال الملك عجلون قبل أن يلوذ بالفرار. عقب الاغتيال، استغل العبرانيون حالة الفوضى التي سادت بين الأردنيين المؤابيين ونجحوا في التخلص من السيطرة المؤابية. ورغم محاولاتهم التوغل في أراضي المؤابيين الأردنيين، إلا أنهم فشلوا في تحقيق مكاسب طويلة الأمد، حيث بقيت القبائل الأردنية متماسكة رغم الصدمة التي خلفها مقتل ملكهم
الحلف الأردني المؤابي العموني
عاشت المنطقة فترة تزيد عن جيلين في سلام نسبي بعد حادثة اغتيال الملك الأردني المؤابي في عجلون، حيث تركزت جهود الجميع على استصلاح الأراضي وتحقيق التنمية فيها. غير أن هذا السلم لم يدم طويلاً، فقد بدأت عدة قبائل عبرانية بالتوسع جنوباً وشرقاً داخل الأراضي الأردنية المؤابية والعمونية. ونتيجة لهذا التوسع، قررت المملكتان الأردنيتان تشكيل حلف عسكري لطرد هذه القبائل من أراضيها قبل أن تتمكن من ترسيخ وجودها. وبفضل هذا الحلف، تمكن الأردنيون من صد القبائل العبرانية وإعادتها إلى خارج حدودهم، مما أدى إلى فترة من توازن القوى
الملك داوود – اللجوء إلى الأردنيين المؤابيين ثم الانقلاب عليهم
خلال الصراع بين داوود، قبل أن يصبح ملكاً، والملك شاؤول، لجأ داوود إلى المملكة الأردنية المؤابية برفقة والديه، حيث استظلوا داخلها لفترة من الزمن. وعندما عاد داوود لاستكمال صراعه مع شاؤول، ترك والديه أمانة لدى الأردنيين المؤابيين الذين حفظوا الأمانة. ولكن بعد أن انتصر داوود على شاؤول وأصبح ملكاً على جميع القبائل العبرانية، واستقر له الأمر، استعاد والديه ثم انقلب على الأردنيين المؤابيين. فحاربهم وانتصر عليهم فجأة، وفرض سيطرته على مملكة مؤاب الأردنية
الملك سليمان – استمرار النفوذ العبراني مع احترام ثقافة المؤابيين
استمر النفوذ العبراني على الأردنيين المؤابيين في عهد الملك سليمان كما كان في عهد داوود، إلا أن سليمان كان يحترم المعتقدات الدينية للشعوب الأخرى. فقد تزوج من امرأة مؤابية، وخصص لها معبداً لإله مؤاب كموش. ويعتقد بعض المؤرخين أن الملك سليمان قد تبنى في آخر أيام حياته بعض المعتقدات الأردنية المؤابية والعمونية، وهو ما ساعد في الحفاظ على استقرار العلاقة بينه وبين المؤابيين، مما دفعهم إلى عدم التمرد عليه، بينما أبدى شعبه العبراني تململاً من تصرفات الملك سليمان
المراجع
د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية
أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
أبحاث إرث الأردن، المملكة الأردنية المؤابية – مراحل القوة والضعف
إرث الأردن – المملكة الأردنية المؤابية – الملوك