المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٩ – ذيبان: تاريخ مؤابي
تعد مدينة ذيبان واحدة من أقدم المدن التاريخية في الأردن، حيث تزخر بالعديد من المعالم الأثرية التي تبرز أهمية المنطقة في العصور القديمة. تُمثل المدينة مركزًا دينيًا، عسكريًا، وتجاريًا في مملكة مؤاب، وقد استفاد المؤابيون من الفن والعمارة في بناء مدنهم وقلاعهم. يعكس التاريخ المعماري في ذيبان آثار حضارات مختلفة وتأثيراتها، مما يظهر الدور البارز لهذه المنطقة في الحضارات القديمة
الفن والعمارة
استفاد المؤابيون من الفن والعمارة في الحضارات المجاورة، حيث استخدموا الحجر البازلتي في النقوش والعمارة، واعتمدوا الحجر الكلسي في البناء ومدافنهم. كما لجأوا إلى التوابيت الصلصالية لدفن موتاهم، وكانت قبورهم ذات طابع جماعي. ويُظهر تأثرهم بالحضارات المحيطة دليلاً واضحاً على وجود علاقات سياسية وتجارية ودّية بينهم وبين الممالك الأخرى، خصوصاً الممالك الأردنية المعاصرة لهم، إلى جانب ممالك وادي النيل وبلاد ما بين النهرين وكنعان
لقد كان توفير الأمن والحماية لشعبهم ومقدراتهم يشكّل أولوية قصوى لدى المؤابيين، إدراكًا منهم بأن تحقيق الأمن والاستقرار هو الأساس الذي يقود إلى البناء والإعمار والازدهار. وقد كانت هذه المسؤولية مشتركة بين الملك وجيشه والكهنة والمحاربين، بالإضافة إلى الإله كموش، إذ عملوا جميعًا على تأمين البلاد وتعزيز الحصون والقلاع والأسوار التي تحمي المدن من الأخطار
Bernard Gagnon :تابوت من مملكة مؤاب في متحف عمان, تصوير
وكشفت المسوحات والتنقيبات الأثرية الحديثة عن وجود أكثر من ستين حصنًا مؤابيًا، أحاطت معظمها أسوار دفاعية قوية. كما تم إنشاء نظام دفاعي متكامل يربط هذه الحصون ببعضها، سواء فوق الأرض أو تحتها، وفق استراتيجية دفاعية متقدمة تراعي احتياجات ذلك العصر. وكانت القلاع تتصل بالينابيع عبر أنفاق تحت الأرض لتأمين المياه خلال فترات الحصار والحروب، إلى جانب الطرق السطحية التي تؤدي إليها
أما القرى والمدن المؤابية، فقد اعتمدت على شبكة معقدة من الأنفاق السرية التي تربط بين أحيائها المختلفة والمدن المجاورة، سواء كانت قريبة أو بعيدة. وشكّلت هذه الأنفاق قرى تحت الأرض تُحاكي القرى الظاهرة فوقها، كما وُجدت سراديب تربط بين القرى البعيدة عن بعضها، مما جعلها وسيلة فعّالة للانسحاب وتبادل الدعم العسكري أو اللجوء إليها كملاذ آمن في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية
ذيبان (ديبون/ذيبون)
تعد إحدى البلدات الأردنية التي تزهو بتاريخها العريق وعظمة أبنيتها. تقع البلدة في محافظة مأدبا، جنوب العاصمة عمّان، على بعد ٧٠ كيلومترًا. وتُعد ذيبان العاصمة التاريخية لمملكة المؤابيين الأردنيين، التي امتدت حدودها لتشمل مناطق الكرك ومأدبا وما حولهما شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا
كانت ذيبان قرية محورية على الطريق القديم الذي يربط الكرك والربة بمأدبا، وتشكل إحدى المحطات المهمة على الطريق الجبلي التاريخي المعروف بالطريق الملوكي. وقد كان هذا الطريق يسير عبر جبال مؤاب وأدوم وعمّون، ويوازي الطريق السلطاني الذي كان يمتد في البادية شرق سلسلة الجبال
صارت مدينة ذيبان العاصمة الأولى لمملكة مؤاب في عهد الملك ميشع، الذي عُرف بكونه محررًا وبانيًا عظيمًا. وقد اختيرت ذيبان عاصمةً لمؤاب لعدة أسباب، أبرزها
موقعها العسكري المنيع –
فقد تميزت المدينة بوقوعها في قلب دائرة محاطة بالتلال والجبال، إضافة إلى السهول الخصبة والسيول المائية وعيون الماء والأراضي الزراعية. كما وفر الموقع مراعي طبيعية وحماية طبيعية بفعل الوديان والحواف الصخرية الحادة، مما جعل اكتشافها أو الوصول إليها أمرًا بالغ الصعوبة على الأعداء
سهول زراعية خصبة –
تقع ذيبان وسط سهول زراعية خصبة تعد مورداً مهماً للزراعة، إذ توفر هذه السهول المحاصيل التي تلبي احتياجات المملكة المؤابية من الحبوب والثمار والفواكه، إضافة إلى كروم العنب، وأشجار النخيل، والتوت، والتين، والزيتون، والجوز، واللوز، وغيرها من الأشجار المثمرة. كما كانت هذه الأراضي تشكل مصدراً غنياً لأعلاف المواشي من بقايا الحصاد
الطبيعة الجغرافية لمدينة ذيبان وقلاع المؤابيين –
تحيط بذيبان فواصل طبيعية بارزة، أبرزها وادي الوالة من الشمال، ووادي الموجب من الجنوب، إضافة إلى الحافة الغربية شديدة الانحدار التي تمتد نحو سيل الهيدان المؤدي إلى البحر الميت، وسهول البادية الشرقية الممتدة شرقاً. وبسبب الطبيعة المفتوحة والسهلية من جهة الشرق، أقام المؤابيون العديد من القلاع في تلك الجهة، بينما كانت القلاع أقل عدداً في المناطق المحصنة طبيعياً بفعل الأودية وحوافها الحادة
الموقع الديني –
الموقع الديني الذي أصبحت فيه ذيبان مركزاً لعبادة الإله “كموش” وزوجته الإلهة “عشتاروت”، محاطاً بمراكز القبلة المؤابية التي شملت “بعل فاغور” (عيون موسى)، “صياغة”، “جبل نبو”، و”عراعر”. وقد كانت ذيبان في ذلك الوقت مركزاً روحياً، سياسياً، اجتماعياً، وعسكرياً. لاحقاً، أصبحت “عراعر”، الواقعة بالقرب من ذيبان، هي القبلة الجديدة بعد التحرير
مراكز الجلجال –
مراكز “الجلجال” التي ورد ذكرها في التوراة كانت تعد ملاذاً آمناً للناس وأموالهم ومواشيهم، إضافة إلى كونها محطة استراحة للقوافل التجارية وسوقاً للمواشي والبضائع. كما كانت توفر خدمات استئجار المواشي والدلّالين من قبل التجار. والجلجال عبارة عن مساحات من الأرض محاطة بدوائر أو أشباه دوائر من الحجارة، والتي كانت تمثل حدوداً للحماية والأمان. وقد انتشرت هذه المراكز في المنطقة الشرقية من مملكة مؤاب
مع مرور الزمن، حلّ نظام “الحائر” محل الجلجال خلال العصر الأموي، حيث بنيت العديد من الحوائر في مواقع الجلجال الوثنية القديمة. وطور الأمويون فكرة الحائر بتوسيع مساحاتها وبناء قصور داخلها لتوفير الراحة والاستجمام، مما يعكس اهتمامهم بتطوير البنى التحتية وضمان الأمن في تلك المناطق
كانت ذيبان تشكل مصدر قلق مستمر لبني إسرائيل –
ذيبان كانت تمثل مصدر قلق دائم لبني إسرائيل، وتحولت إلى شوكة في خاصرة اليهود، الذين امتلأت قلوبهم بالكراهية تجاهها، وتمنوا دمارها وزوالها. لذلك، جاءت الإشارات إلى ذيبان في التوراة محملة بالعداء والغل، حيث ورد ذكرها في سفر إرميا (١٧/١٨)، مهددةً بخرابها. وجاء النص قائلاً: “يا ابنة ديبون، انزلي عن علوكِ، واجلسي في العطش، فقد جاء مدمّر موآب إليكِ، ليهدم حصونكِ وقلاعكِ” ، وورد ذكرها في سفر سفر إشعياء 15: 5 “في قلبي ناحية مؤاب، كمغاث لفارية. في أحزانها، في حزن قلوبهم. إذا ذهبوا إلى زفافها، فإنها تجلب لهيكلهم، ولا يكونون في أرضهم، إنه قام ليمرح“. كانت ذيبان، المدينة العريقة الواقعة في منطقة المؤاب القديمة، رمزًا للعداء والصراع وموقعًا استراتيجيًا هامًا، ولهذا استمر ذكرها في العديد من النصوص الدينية والتاريخية كدلالة على التوترات المستمرة والصراع. وبما أن ذيبان كانت عدوًا لدودًا لمملكتي إسرائيل ويهوذا، فقد دفع ذلك كتبة التوراة إلى تشويه تاريخ مؤاب وتقديمه من خلال رؤية عدائية منحازة
مركز بداية نصر المؤابيين على بني إسرائيل –
كان بداية انتصار المؤابيين على بني إسرائيل بعد خروجهم من التيه، حيث تمكنوا من هزيمة المملكة الأمورية. خلال تلك الفترة، خاض الإسرائيليون معارك دامية مع المؤابيين في عهد الملكين بالاق بن صفور وعجلون. وكان الملك عجلون هو قائد جيش مؤاب الذي قاد معركة ضد جيش بني إسرائيل وحقق النصر عليهم
رفض المؤابيون، مثل باقي الممالك الأردنية في ذلك الوقت، السماح للإسرائيليين بالعبور عبر أراضيهم، وهو ما حدث في فترة حكم الملك بالاق بن صفور. وبعد وفاة النبي موسى، تولى يشوع بن نون قيادة بني إسرائيل، وتمكن من عبور نهر الأردن واحتلال مدينة أريحا
المعالم السياحية والأثرية في لواء ذيبان –
من أبرز المناطق السياحية والأثرية في لواء ذيبان التي تبرهن على أهمية المدينة منذ القدم، مثل: تل ذيبان، وهو تل أثري يعود إلى الفترة المؤابية، وعثر فيه على مسلّة ميشع, ومكاور، وفيها بقايا قلعة رومانية، وكنائس وأرضيات فسيفسائية. وعراعر وهي قبلة المؤابيين زمن الملك ميشع ومن بعده. وخربة إسكندر. ووادي الهيدان. ووادي الموجب. وحمام قصيب، وبرت وغيرها، مما يبين مدى ازدهار واعمار البلاد آنذاك وأنها كانت مملكة عظيمة وقوية
الصورة في السطر العلوي على اليمين: قلعة مكاور الأثرية التاريخية ( يظهر البحر الميت في خلفية الصورة) المكان الذي يعتقد انة تم فيه قطع رأس النبي يحي بن زكريا علية السلام (يوحنا المعمدان) قبل اكثر من الفي سنة ذلك حسب الروايات المنقولة والعديد من Wikipedia :المراجع تؤكد ذلك ، وقد تم ذلك من قبل الملك الروماني هيرودس - المصدر
الصورة في السطر العلوي في المنتصف: ذيبان قديما - مادبا - المصدر: صور قديمة تحكي الأردن
Ir Jarida - الصورة في السطر العلوي على اليسار: مغارة أبو نأتي -ذيبان - المصدر: صور قديمة تحكي الأردن
Wikipedia :الصورة في السطر السفلي: إحدى البحيرات في وادي الهيدان - المصدر
Wikipedia: الصورة على اليسار: قلعة مكاور الأثرية التاريخية - حلبة مكاور الصغيرة - المصدر
صورة على اليمين: خربة اسكندر - التقطت بواسطة بشار الطباع
المراجع
د. أحمد عويدي العبادي , المملكة الأردنية المؤابية
د. أحمد عويدي العبادي, كتاب المملكة الأردنية المؤابية