مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ١ – من هم الأنباط؟

تعد مملكة الأنباط واحدة من أبرز الممالك التي ازدهرت في الشرق القديم، حيث امتدت من عام ٤٠٠ ق.م حتى ١٠٦ م. تميزت مملكتهم بموقعها الاستراتيجي بين الجزيرة العربية وبلاد الشام، وكان لها تأثير كبير في المنطقة. من خلال دراسة تاريخ الأنباط، يمكننا أن نفهم ارتباطهم العميق بجغرافيا وثقافة المنطقة، وأصولهم التي تعود إلى قبائل عربية أردنية بدوية

المملكة النبطية

تعد المملكة النبطية، التي امتدت بين عامي ٤٠٠  ق.م – ١٠٦ م، واحدة من أبرز الممالك التي شهدها الشرق القديم. عاصمتها الشهيرة، سلع أو الرقيم أو “البتراء“، كانت مركزًا ثقافيًا وتجاريًا هامًا، حيث برزت الهندسة المعمارية الفريدة التي تميزت بالأبنية المنحوتة في الصخور. نظام الحكم في المملكة النبطية كان ملكيًا، حيث كان الملك يتولى السلطة السياسية والدينية في آن واحد. اللغة الرسمية التي استخدمها الأنباط كانت اللغة العربية النبطية، بينما كانت الآرامية النبطية تستخدم في الكتابة والتواصل الرسمي. تميزت هذه اللغة بالتنوع بين الكتابة الآرامية النبطية والحديث بالعربية النبطية، مما يعكس تأثيرات ثقافية متبادلة مع الشعوب المجاورة. أما الديانة في المملكة النبطية، فقد كانت وثنية، حيث عبد الأنباط عددًا من الآلهة التي تمثل الطبيعة والقوى السماوية، وكانوا يمارسون طقوسًا دينية خاصة بهم

من هم الأنباط؟

كان أصل الأنباط موضع نقاش واجتهاد بين الباحثين والمختصين، إذ كشفت الآثار المعمارية في مدنهم عن حضارة متقدمة، خاصة في المجال العمراني. تبرز هذه الحضارة في الأبنية المنحوتة في الصخر، والقصور والفلل المشيدة من الحجر المشذب، إلى جانب أنظمة الري المتطورة التي تعكس عبقرية هندسية فائقة

وتعددت الآراء حول اسم “الأنباط” واشتقاقه. يذكر ابن منظور أن “النبط” هو الماء الذي يخرج من البئر، كما يشير إلى أنه ما يتجلب من الجبل، كأنه عرق من عروق الصخر. وفي “تاج العروس”، ورد أن “النبط” يشير إلى جيل يسكن البطائح في بلاد الرافدين

اجتهادات حول أصول الأنباط

تباينت الاجتهادات حول أصول الأنباط، إذ رجح البعض أنهم قدموا من الساحل الغربي للخليج العربي، بينما أشارت اجتهادات أخرى إلى أنهم جاؤوا من جنوب بلاد الرافدين، مستندين إلى ورود اسم “النبطيين” بين القبائل الرافدية، خاصة في كتب الإخباريين المسلمين. غير أن هؤلاء النبط يختلفون عن أنباط العرب، فهم أعاجم رغم تحدثهم باللغة الآرامية، واشتهروا بالزراعة واستنباط المياه من الأرض، مما أدى إلى خلط الإخباريين المسلمين بينهم وبين الأنباط. كما تشير بعض النصوص التاريخية (بليني) إلى أن الأنباط استوطنوا جزيرة في البحر الأحمر قبل أن يطردهم الأسطول المصري، وهو أمر مثير للدهشة، إذ يعرف الأنباط بارتباطهم الوثيق بالصحراء والقوافل التجارية

ومن المحتمل، وفقًا للعديد من الباحثين، أن يكون الأنباط فرعًا من قبائل ثمود المذكورة في القرآن الكريم (سورة الحجر)، والتي كانت منتشرة في وسط الجزيرة العربية وشمالها. وتؤكد النقوش المكتشفة في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية هذا الانتشار الواسع لتلك القبائل، مما يدعم الفرضية القائلة بأن الأنباط امتداد طبيعي للثموديين، خاصة في ظل ما وجد من تراث ديني نبطي متعلق بأسماء الآلهة.  فالوجود النبطي المتأخر في شمال عرب الجزيرة العربية وحتى جنوبي بلاد الشام وشرقيها يعتبر امتدادا طبيعيا لوجود الثموديين

الأنباط و أصولهم الأدومية

ويرجح أن استقرار الأنباط في المناطق الأدومية الأردنية بدأ خلال الفترة ما بين عامي ٥٥٢ و٥٤٤ ق.م، وهي نفس الفترة التي تشير إليها بعض الدراسات. وتعزز هذه النظرية الحفريات التي أجرتها كريستال بنت في مدينة بصيرة (في محافظة الطفيلة)، عاصمة الأدوميين. ومن المرجح أن الأدوميين واجهوا نهايتهم على يد الملك نابونئيد خلال حملته الشهيرة، التي وثقها على حجر “سيلع” عام ٥٥٣ ق.م، عقب إخضاعه لبصيرة. وتشير هذه اللوحة إلى غياب أي كيان سياسي للأنباط في ذلك الوقت، لكن ذلك لا ينفي وجودهم كقبائل بدوية عاشت تحت حكم الأدوميين، قبل أن يتمكنوا لاحقًا من فرض سيطرتهم على المنطقة وتأسيس دولتهم

للبحث في تاريخ الأنباط وأصولهم، لا بد من دراسة تاريخ أسلافهم وعلاقتهم المحتملة مع الأدوميين، إذ شكلت منطقة الأدوميين النواة الجغرافية لدولة الأنباط. وقد قامت مملكة الأدوميين في جنوب شرقي الأردن، بين وادي الحسا وخليج العقبة، خلال الفترة الممتدة من القرن التاسع قبل الميلاد حتى الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد

تشير الدلائل إلى أن الأدوميين كانوا أيضاً متمركزين في جنوبي فلسطين، خاصة في صحراء النقب، حيث تم العثور على العديد من الآثار الأدومية، مثل موقع عراد. كما شملت مناطق نفوذهم مدين، وتيماء، ومنطقة الحجر شرقي البحر الأحمر. وقد أظهرت النقوش الأثرية استمرار استخدام الكتابة الأدومية حتى العصر الهلنستي، حيث عثر على كسرتين من الفخار تحملان نقوشًا أدومية، الأولى في تل الخليفة، والثانية في موقع قلعة العزى جنوب تل عراد، غرب البحر الميت في فلسطين. حملت الكسرة الأولى أسماء مثل “قوس بنا”، و”قوس نداب”، و”بي قاقس”، بينما ورد في الثانية نص يشير إلى أوامر بإحضار طعام إلى أحد المذابح

كما كشفت الحفريات الأثرية في أم البيارة وطويلان بالقرب من البتراء عن وجود استيطان أدومي يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، مما يدل على تجاور الاستيطان الأدومي والنبطي. ويرجح أن الأنباط استقروا تدريجياً بين الأدوميين، الذين لم يعارضوا وجودهم، بل اندمجوا معهم بمرور الزمن. ويقترح جلوك أن الأنباط، من خلال علاقات الدم والمصاهرة، لم يلجؤوا إلى الحرب أو الاحتلال لطرد الأدوميين والمؤابيين، بل استوعبوهم داخل مجتمعهم النبطي الأوسع. كما تبنوا أساليب الدفاع والتنظيمات التي طوّرها المؤابيون والأدوميون عبر مئات السنين، وعملوا على تطويرها لتعزيز كيانهم السياسي والعسكري

ورث الأنباط العديد من الأبنية، فقاموا بتحسينها أو ترميمها وفق رؤيتهم، وفي بعض الحالات أبقوها على حالها كما وجدوها. إلى جانب ذلك، أنشأوا العديد من المصاطب الزراعية والسدود والبرك المائية، وأقاموا مئات المستوطنات الزراعية إلى جانب المستوطنات القائمة سابقًا. ومع توسع مملكتهم، ورثوا العديد من الدويلات والمشيخات السابقة، مما منحهم امتدادًا جغرافيًا وديموغرافيًا واسعًا شمل مدين القديمة وتيماء والحجر في الجزيرة العربية. وقد عرفت هذه المناطق بحضارات موثقة قبل وصول الأنباط، الذين بنوا فوق ما تركته تلك الحضارات من إنجازات. كما امتد التمازج الديموغرافي إلى حدود سيناء عبر النقب الفلسطيني، الذي حفظ لنا آثارًا مهمة تعود إلى العصر النبطي

ويذكر الدكتور أحمد عويدي العبادي أن المملكة الأدومية في الأردن شهدت فراغًا سياسيًا واجتماعيًا، مما أتاح للأنباط فرصة السيطرة على الحكم. وفي الوقت ذاته، تحركت القبائل الثمودية الأردنية من الشرق لسد هذا الفراغ، خشية أي احتلال أجنبي قد يهدد المملكة الأدومية. ونتيجة لذلك، أصبحوا جزءًا من مملكة الأنباط التي تولت الحكم، رغم أنهم (أي الأنباط) كانوا في الأصل من رعايا الأدوميين

فقد ظهر الأنباط لأول مرة في السجلات التاريخية في القرن السادس قبل الميلاد، وأسسوا مملكتهم في أراضي مملكة إدوم بحلول النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد. سرعان ما التف الأردنيون حولهم بسبب عاداتهم في النظام الملكي الانتخابي والإدارة المستقرة. وصلت مملكة الأنباط إلى ذروتها في زمن الملك الحارث الرابع 

وهناك طرح منطقي آخر حول التركيبة الديموغرافية للأنباط يقدمه العديد من الباحثين، وهو أن الأنباط تقاسموا المناطق التي استوطنوها خلال فترة المملكة النبطية مع قبائل أخرى متعددة. ووفقًا لهاموند، فمن المحتمل أن “نبطو” كانت عبارة عن اتحاد يضم عددًا من القبائل الحليفة التي توحدت تحت راية أقوى قبائل هذا الاتحاد. بل إن هذا الاتحاد لم يقتصر على القبائل فحسب، بل شمل أيضًا وحدات إقليمية صغيرة أدركت أهمية الانضمام إليه لضمان بقائها وازدهارها

ولا يمكن إغفال الامتداد الجغرافي والديموغرافي الواسع للدولة النبطية، مما يؤكد التنوع الكبير في أصول سكانها. وقد انعكس هذا التنوع لاحقًا في سياسات الانفتاح والتسامح التي انتهجها الأنباط تجاه الأجانب الذين عاشوا بينهم في الرقيم (البتراء) وغيرها من المناطق. ومن المرجح أن بعض التجار الذين استقروا في الأراضي النبطية قد تزاوجوا مع الأنباط واندمجوا في مجتمعهم

المؤرخ اليوناني سترابو يبين أن الأدوميين هم الأنباط

كما أن هناك العديد من الشواهد التي تؤكد هذا الانفتاح والتعددية، ومنها التأثيرات المعمارية الواضحة المستمدة من الحضارات الكبرى المجاورة، كالمصرية والهلنستية والفارسية والآشورية. كما يظهر ذلك جليًا في استخدام الأنباط للغات أخرى إلى جانب لغتهم الأصلية، خاصة الآرامية واليونانية. فقد كانت الآرامية هي اللغة السائدة في التعاملات التجارية والرسمية والدينية، ومع تصاعد التأثير الهلينستي بدأت اليونانية تكتسب أهمية متزايدة، حتى تفوقت على الآرامية وأزاحتها بالكامل، قبل أن تحل محلها لاحقًا اللغة الرومانية

ومن كل ما سبق، يمكن استنتاج أن الأنباط كانوا النواة الأساسية للتحالف أو التجمع الذي تطور لاحقًا ليعرف باسم الأنباط. كما يستدل أيضًا على أن هؤلاء الأنباط، بكل مكوناتهم البشرية والثقافية، لم يكونوا سوى قبائل عربية اردنية يجمعها أصل مشترك وقيم وتقاليد متقاربة، مما سهل اندماجهم وتشكيلهم لدولة مركزية في المنطقة

عروبة الأنباط

:تتجلى الدلائل الواضحة على عروبة الأنباط في عدة جوانب، منها

وصفهم من قبل المؤرخين الأجانب مثل ديودورس والجغرافي سترابو، وكذلك في التوراة، بأنهم عرب

أسماء ملوكهم وأعلامهم كانت ذات طابع عربي، مثل الحارث، مالك، عبادة، جميلة، شقيلة، خلد (أو خالدة)، صالح، وسلمى

أسماء آلهتهم وأصنامهم كانت شائعة ومعروفة في أرجاء الجزيرة العربية

تعود أصول اللغة العربية إلى لغة الأنباط، الذين كانوا أول من استخدمها. أما أصول الكتابة العربية الحالية، بما في ذلك الحروف، فهي مستمدة من الكتابة النبطية وما شهدته من تطور في هذا المجال

أصول الأنباط

في الختام، وبعد استعراض العديد من الفرضيات حول أصول الأنباط، تثبت الأدلة التاريخية بشكل قاطع أن الأنباط هم قبائل عربية أردنية بدوية تنحدر من أصل أدومي، وقد تأصلوا في تلك الأرض ليشكلوا جزءًا لا يتجزأ من تاريخ المنطقة وثقافتها. الأنباط استوطنوا تحت حكم الأدوميين في جنوب الأردن، حيث شكلوا جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي الذي ساد المنطقة في تلك الفترة. تدريجيًا، تمكن الأنباط من فرض سيطرتهم على المنطقة، ليؤسسوا دولتهم ويبرزوا كلاعبين رئيسيين في تاريخ الشرق القديم
كما تشير الأدلة التاريخية والأثرية إلى أن الأنباط ينحدرون من أصل أدومي أردني، ويعدون من العرب الذين نشأوا في تلك البيئة الجغرافية والثقافية. كما تكشف هذه الأدلة عن تداخل اجتماعي وثقافي عميق بين الأنباط والأدوميين، مما يعكس الروابط القوية بين هذه القبائل العربية الأردنية القديمة. لذلك، يمكن التأكيد على أن الأنباط لم يكونوا مجرد قبائل استقرت في المنطقة، بل كانوا جزءًا لا يتجزأ من التراث العربي الأردني، وقد تبنوا تقاليد وعادات أسلافهم، مما ساهم في تشكيل هوية ثقافية واحدة امتدت عبر الأجيال

المراجع

عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن
الدكتور احمد عويدي العبادي، أسباب وعوامل انتهاء وتلاشي المملكة الأردنية الأدومية
الدكتور احمد عويدي العبادي، المملكة الأردنية الأدومية, عمان – الأردن
هاني الزهران، الاستيطان البشري في وادي فينان في العصور القديمة، جامعة مؤتة (4 .3 4 العصر الحديدي (مملكة أدوم) 1200 – 539 . كريستال بنت  – صفحة ٩٢ )
Deities and dolphins; The Story of the Nabataeans by Glueck Nelson, 1965
Hammond.P.C, The Nabataeans, Their History, Culture & Archaelogy(Gothenburg,Sweden,Paul Astrom Forag, 1973)
Strabo: The Geography of Strabo, (The Loeb Classical Library), Cambridge,mass, 1961

Previous:
المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١٨ – اتفاقية الرعي بين الملك حدد والفرعون رمسيس الثاني
Next:
مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٢ – نشوء نظام الحكم والدولة: النظام الاقتصادي