مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٢ – نشوء نظام الحكم والدولة: النظام الاقتصادي
تعتبر مملكة الأنباط الأردنية واحدة من أقدم وأعرق الممالك التي ظهرت في منطقة الشام والجزيرة العربية. وقد نشأت هذه المملكة بشكل طبيعي نتيجة لتفاعلها واندماجها مع ممالك سابقة مثل الأدوميين والمؤابيين. كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي للأنباط على مفترق طرق التجارة البرية والبحرية أحد العوامل الرئيسية في ازدهارها. في هذا السياق، نستعرض تطور حضارة الأنباط من نمط حياتهم البدوي إلى تحولهم إلى دولة قوية ومستقرة
كانت مملكة الأنباط امتدادًا طبيعيًا لسلسلة من التطورات التي شهدتها المنطقة، حيث استوعبت وأدمجت ما سبقها من مملكة، لا سيما ممالك الأدوميين والمؤابيين. ومع ذلك، فإن العوامل الرئيسة التي ساهمت في نشوء الدولة ونظام الحكم تمثلت في الموقع الجغرافي الاستراتيجي، إذ كانت المنطقة تقع على مفترق طرق التجارة البرية والبحرية، مما مكن الأنباط من السيطرة على أهم المسارات التجارية في ذلك العصر. كما لعب التجانس السكاني، المستند إلى أصول وثقافات مشتركة، إلى جانب نظام سياسي مستقر وحكيم، دورًا أساسيًا في بناء دولة قوية ومزدهرة، كما كان الحال مع دولة الأنباط
إن أقدم مرجع معروف – بخلاف الآثار – يذكر الأنباط يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهو للمؤرخ اليوناني ديودورس الصقلي (المتوفى عام ٥٧ ق.م). وقد استند في عمله إلى شاهد عيان كتب في القرن الرابع قبل الميلاد، خلال فترة توسع نفوذ الإسكندر المقدوني. في هذا السياق، وصف ديودورس حياة الأنباط في تلك الحقبة، مشيرًا إلى أنهم كانوا يعيشون حياة البداوة في أراضٍ صحراوية قاحلة
كان الأنباط يتبعون مجموعة من القواعد الصارمة، حيث تعهدوا بعدم زراعة الحبوب، أو غرس الأشجار المثمرة، أو شرب الخمر، أو بناء المنازل، وكان من يخالف هذه التعهدات يواجه عقوبة الموت. وقد التزموا بهذه المبادئ انطلاقًا من اعتقادهم بأن امتلاك أي شيء يجلب التبعية لمن هم أكثر قوة وسطوة، مما قد يفقدهم حريتهم
تعكس هذه الصورة التي نقلها مصدر ديودورس عن الأنباط في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد مجتمعًا بدويًا بامتياز. ومع ذلك، وكما أشار ديودورس، لم يقتصر نشاط الأنباط على تربية الماشية، بل كان لهم اهتمام كبير بالتجارة، وهو ما وفر لهم ثراءً هائلًا دفعهم لاحقًا نحو الاستقرار للاستفادة من هذا الثراء. ومن الطبيعي أن يكون الأنباط قد انخرطوا في التجارة منذ تلك الفترة، وربما قبل ذلك بسنوات عديدة، إذ ورثوا هذا النشاط عن أسلافهم الثموديين والأدوميين، الذين فرض عليهم موقعهم الجغرافي الانخراط في التجارة
في عام ٣١٢ ق.م، أرسل أنتيجونوس حملتين ضد الأنباط، حيث أبدى الأنباط مقاومة شديدة لأحد الجيوش المقدونية التي كانت متمركزة في سوريا، وذلك في خضم الصراعات بين خلفاء الإسكندر. كانت الحملة الأولى بقيادة أثنايوس، لكنها انتهت بفشل ذريع، تلتها حملة ثانية بقيادة ديمتريوس، الذي لم يحقق نجاحًا أفضل، إذ اضطر في النهاية إلى الانسحاب مقابل الحصول على بعض الهدايا القيمة والحفاظ على علاقات ودية مع الأنباط
يرجح أن الوجود السياسي للأنباط بدأ يتبلور مع مطلع القرن الرابع قبل الميلاد، ويمثل اصطدامهم بالقوة السلوقية بقيادة أنتيجونوس دليلًا على وجود كيان نبطي منظم. ومع ذلك، لا يمكن الجزم بوجود دولة ذات نظام حكم واضح المعالم إلا مع بداية القرن الثاني قبل الميلاد. وتشير المكتشفات الأثرية، ولا سيما المسكوكات النقدية، إلى أن أول ملك نبطي معروف كان الحارث الأول (١٦٩ -١٦٨ ق.م)، مع احتمال وجود ملوك سبقوه. ورغم الإشارات التاريخية التي تؤكد وجود الأنباط في جنوب الأردن منذ عام ٣١٢ ق.م، إلا أن المظاهر المادية لحضارتهم قبل القرن الأول قبل الميلاد لا تزال غير واضحة تمامًا
من المرجح أن المجتمع السياسي النبطي قد تشكل بشكل واضح قبل فترة طويلة من عهد الحارث الأول، حيث كانت الدويلات في بلاد الشام وأطراف الجزيرة العربية تعتمد غالبًا على نظام المشيخة. وقد تكونت هذه الدويلات من اتحادات عشائرية شكلت الأساس للمجتمع والدولة، وأدت وظائف إدارية وعسكرية واقتصادية، مثل حماية الحدود وتأمين الطرق التجارية، وإبرام الصفقات التجارية، وتوفير المقاتلين للحملات العسكرية
كان المشايخ أو القضاة يمثلون الركيزة الأساسية للنظام السياسي، حيث كانوا حلقة الوصل بين المجتمع ورأس السلطة. وكل شيخ أو قاضٍ كان يتولى إدارة منطقة محددة غالبًا ما يكون لها مدينة مركزية. أما الشيخ، الذي كان يعرف أحيانًا بلقب “شيخ المشايخ” أو “الملك”، فكان يشرف على منطقته في جميع المجالات، ويتلقى الدعم في الإدارة من مشايخ محليين. ونادرًا ما كان هناك تنسيق بين هذه الدويلات المجاورة
امتلك الأنباط خبرة واسعة في الحروب قبل تأسيس دولتهم، وهو أمر حتمي في زمن كثرت فيه الهجمات من مختلف الجهات. فقد كانت حملات الغزو والسلب منتشرة في المنطقة، سواء من الجيوش الأشورية والفارسية القادمة من الشرق أو المصرية من الغرب، إلى جانب القبائل العربية التي دخلت هذه الصراعات لحماية مصالحها. وتوثق المصادر التاريخية العديد من الغزوات والحروب منذ أواخر عصر البرونز وبدايات العصر الحديدي. ورغم نشوء ممالك ودويلات مثل آرام وماري وإسرائيل وأدوم وعمون ومؤاب وقيدار، استمرت النزاعات وازدادت حدتها، إلى جانب وجود قبائل بدوية كبرى مثل قبائل الشاسو (العماليق الأردنيين)، التي لم تكن تابعة لأي من هذه الكيانات
ومنذ أواخر القرن الرابع قبل الميلاد وحتى بدايات القرن الثاني قبل الميلاد، ينقل الجغرافي الروماني سترابو، مستندًا إلى شهادات صديقين له، أحدهما عاش في البتراء خلال القرن الأول قبل الميلاد، صورة لمجتمع جديد يختلف تمامًا عن ذلك الذي وصفه ديودورس قبل أكثر من قرنين. في هذا المجتمع، تتلاشى سمات البداوة لتحل محلها مظاهر التمدن والثراء والاستقرار في منازل حجرية. يظهر الملك ونظام الإدارة، وتترسخ القيم المادية على حساب الزهد البدوي، حيث يعاقب الفقير الكسول ويكافأ الغني المجتهد. بل يصبح شرب الخمر جزءًا من طقوس الضيافة والكرم والعبادة
وبحسب سترابو، فقد شهدت البتراء تحولًا جذريًا من حياة البداوة إلى عصر التمدن، حيث أصبحت مدينة نابضة بالحياة، منحوتة في الصخر، تضم منازل محاطة بالحدائق، وتكتظ بالسكان والتجار القادمين من جنوب الجزيرة العربية وآسيا وحتى الهند. لقد بلغت عاصمة مملكة الأنباط المستقلة أوج ازدهارها العمراني والتجاري، بعد أن قطعت شوطًا كبيرًا في مسيرة التحضر بفضل التجارة والاستقرار اللذين كانا عاملين أساسيين في هذا التحول
طرق القوافل والطرق البحرية
طرق التجارة الرئيسية (القرن الثالث ق.م – القرن الثاني الميلادي)
Openedition Books :مصدر
النظام الاقتصادية
من الناحية الاقتصادية، من المؤكد أن الأنباط قبل ظهورهم السياسي في القرن الرابع قبل الميلاد كانوا يشكلون قبائل وجماعات ذات طابع بدوي في أسلوب حياتهم واقتصادهم. فقد اعتمد اقتصادهم بشكل رئيسي على تربية قطعان الإبل والماشية، وخاصة الضأن، كما أشار المؤرخ سترابو. وحتى إن افترضنا أن بعضهم كان قد اعتاد الحياة الحضرية في مناطق مثل الحجر أو تيماء أو العلا قبل انتقالهم غربًا نحو جبال الشراة (سعير)، فلا شك أن هذه الفئة تكيفت مع الظروف الجديدة، مستعدة للترحال المستمر، وركزت بشكل أكبر على اقتناء الإبل، مع استمرار تطلعها إلى الفرص التجارية أو الاستقرار متى سنحت الظروف
ولا ينبغي أن نغفل عن حقيقة أن جزءًا متزايدًا من الأنباط كان مرتبطًا بالزراعة قبل انتقالهم إلى الشمال الغربي، نحو أراضي الأدوميين. ومن المؤكد أن ممارسة الزراعة كانت وثيقة الصلة بالتجارة لديهم، إذ كانت ضرورية لتوفير الإمدادات للقوافل من الحبوب والمنتجات الأخرى، مما ساهم في تحقيق مكاسب مالية أو تبادلها بسلع أخرى. لذلك، يمكن القول إن الأنباط أدركوا مبكرًا أهمية الزراعة، خاصة بعد استقرارهم في مناطق الأدوميين. وقد استقطبت جبال الشراة وسعير أوائل المزارعين الأنباط، الذين تبادلوا الخبرات مع الأدوميين، ثم بدأوا لاحقًا في منافستهم، حتى أصبحوا مسيطرين على هذا المجال الاقتصادي، بعد أن احتكروا لفترة طويلة قيادة القوافل التجارية وتجهيزها بكل ما تحتاجه عبر الطرق المتفرعة شمالًا وجنوبًا
بالنسبة لهؤلاء الأنباط القادمين من الشرق والجنوب، أصبحت أراضي الأدوميين محطة رئيسية لاستقبال الجماعات الجديدة. من المهم الإشارة إلى أن الأنباط لم يكونوا غرباء عن المنطقة أو عن الأدوميين، إذ لا شك أنهم كانوا على دراية سابقة بهم من خلال أنشطة النقل والتبادل التجاري. من المحتمل أن الجانبين تعاونا في تقديم خدمات القوافل التجارية في المنطقة. كما أن الأدوميين كانوا يمتلكون شبكة تجارية واسعة، وربما لعبوا دور الوسطاء أكثر من كونهم تجارًا مباشرين، مستفيدين من موقع بلادهم الاستراتيجي بين الأسواق الكبرى. فقد كانت أراضيهم ملتقى للطرق التجارية الممتدة نحو الشمال والغرب، أو نحو الشرق والجنوب، مرورًا بتيماء ومكة وصولًا إلى جنوب الجزيرة العربية وشرقيها حتى الهجرة على الخليج العربي، بالإضافة إلى ميناء لوكي كومي وإيلة على البحر الأحمر
كما تشير الدراسات إلى أن الطرق التجارية قد أسهمت في إقامة علاقات تواصلية بين الأدوميين والأنباط، وربما تزاوجوا في وقت أبكر مما يعتقده بعض الباحثين. هؤلاء الباحثون يفترضون أن التمازج بين الحضارتين النبطية والأدومية حدث بعد سقوط دولة الأدوميين في منتصف القرن السادس قبل الميلاد على يد الملك الأشوري نابونيد أو الملك الفارسي قمبيز. يدعم هذه الفرضية العديد من الأدلة، منها الأدلة اللغوية التي تظهر تشابهًا في أسماء الأشخاص، والدلائل الدينية التي تظهر المشاركة في العبادة. على سبيل المثال، تبنى الأنباط بعض الآلهة الأدومية مثل ذو الشرى، الذي حل محل “قوس” إله الأدوميين. كما كشفت الاكتشافات الأثرية عن العديد من المستوطنات الأدومية المتأخرة في المناطق التي أصبحت تحت سيطرة الأنباط. ويعتقد الأثريون أن النقوش الأدومية استمرت في الاستخدام حتى العصر الهلنستي، حيث تم العثور على قطع فخار تحمل نقوشًا أدومية في تل الخليفة وموقع العزى
مجال الزراعة
في مجال الزراعة، تطورت الزراعة في جنوب بلاد الشام منذ العصر الحجري النحاسي، حيث تم دمج الزراعة مع تربية الماشية. في العصر البرونزي القديم (٣٥٠٠ – ٣١٠٠ ق.م)، بدأ المزارعون بتوسيع نطاق الزراعة وزيادة الإنتاج بهدف التصدير، مما أسهم في نشوء أنظمة اقتصادية معقدة وإنتاج بضائع متنوعة. ظلّت أنواع المحاصيل ثابتة إلى حد كبير بفضل الطبوغرافيا والمناخ. كان العنب، واللوزيات، والرمان معروفًا منذ العصور القديمة، بينما كان الزيتون من أقدم المحاصيل الزراعية رغم أن سترابو أشار إلى استخدام الأنباط لزيت السمسم بدلاً من الزيتون. كما كانت الحبوب من أقدم الزراعات التي تلبي احتياجات الإنسان والحيوانات الأليفة
مجال الصناعة
في مجال الصناعة، استلهم الأنباط تراثهم من الأدوميين في نوعين رئيسيين من الأنشطة الصناعية. أولاهما صناعة الفخار، حيث تشير الدراسات إلى أن هذه الصناعة تطورت بشكل مباشر من الفخار الأدومي الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. كما اشتهر الأنباط بتعدين المعادن، خاصة النحاس الذي كان معروفًا في منطقة فينان بالقرب من الطفيلة، بالإضافة إلى مناجم النحاس الأخرى الموجودة في سيناء القريبة
المراجع
عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن
Diodorus: Diodorus of Sicily, The loeb classical library, Newyork, 1937
Strabo: The Geography of Strabo, The loeb classical library, Cambridge,mass, 1961