مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٣ – الوضع السياسي الاقليمي
ظهرت قوة الأنباط في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد نتيجة لمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية التي عززت مكانتهم في المنطقة. تمكن الأنباط من بناء إمبراطوريتهم التجارية والسياسية مستفيدين من أسس الدولة الأدومية السابقة، متخذين من مدينة البتراء مركزًا لسيطرتهم. رغم التحديات الكبرى التي واجهوها من القوى الإقليمية مثل البطالمة والسلاجقة، تمكنوا من الحفاظ على استقلالهم وتوسيع نفوذهم حتى العصر الروماني
أن بدايات ظهور الأنباط على الساحة السياسية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد لم يكن عشوائيًا، بل استند إلى معادلات دولية وإقليمية ساعدتهم في تعزيز مكانتهم. وقد تمكن الأنباط من بناء قوتهم الذاتية ليس على أنقاض دولة الأدوميين، بل بالاستفادة من الأسس المتبقية منها، وهو ما تؤكده الأدلة الأثرية المختلفة، مثل البقايا العمرانية، والنظم الدينية، والآلهة، إضافة إلى المصاطب الزراعية، وآبار المياه، وشبكات الطرق التجارية
ظل كيان الأنباط في تطور مستمر إلى أن أرسل أنتيجونوس حملتيه الشهيرتين عام ٣١٢ ق.م، في محاولة للسيطرة على الطرق التجارية واستغلال القار المستخرج من البحر الميت. ومع ذلك، تحصن الأنباط في موقعهم الحصين في صخرة سلع (البتراء)، مما أفشل خطط أنتيجونوس وأجبره على الانسحاب دون تحقيق مكاسب كبيرة
إلى الغرب من هذه القوة الصاعدة، برزت قوة البطالمة الذين بسطوا سيطرتهم على مصر وسعوا للتوسع والتحكم في الطرق البحرية التي كان الأنباط يسيطرون عليها منذ ذلك الوقت، لا سيما سواحل البحر المتوسط مثل غزة وعسقلان ورفح، بالإضافة إلى الموانئ الفينيقية في الشمال. وبهذا، واجه الأنباط تحديات جديدة لم يعهدوها من قبل
وعلى حدودهم الغربية، واجهوا تهديدًا آخر تمثل في مملكة يهودا، التي ظلت تعاني من اضطرابات مستمرة بسبب الأوضاع الداخلية وتقلبات الصراع الدولي في المنطقة بين القوى العظمى. فقبل الاجتياح المقدوني والفارسي القصير، كانت الإمبراطورية الفارسية في الشرق تسعى جاهدة لحماية مصالحها وتأمين طرقها التجارية الممتدة عبر شمال شبه الجزيرة العربية وصولًا إلى حدود فلسطين أو سيناء
في المقابل، كانت الدولة البطلمية تبذل قصارى جهدها للحفاظ على نفوذها في الشرق، إذ كانت تسعى للسيطرة على طرق التجارة البحرية والبرية المؤدية إلى الجزيرة العربية، إلى جانب حماية مصادر الثروات الطبيعية مثل مناجم النحاس والمعادن الأخرى، التي تركز بعضها في سيناء وجنوب الأردن
استمر الصراع بين خلفاء الإسكندر المقدوني في جنوب سوريا وسواحلها الغربية، وكانت الغلبة تميل لصالح البطالمة، إذ تمكنوا مبكرًا من الوصول إلى موانئ البحر الأحمر. بالإضافة إلى موانئهم على السواحل المصرية، أنشأوا موانئ على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، مما منحهم سيطرة واسعة على الطرق التجارية البحرية والبرية الممتدة إلى جنوب الجزيرة العربية وشرقها، حيث تمر عبرها أهم السلع التجارية الشرقية مثل البخور والمر والحرير
طرق القوافل والطرق البحرية
طرق التجارة الرئيسية (القرن الثالث ق.م – القرن الثاني الميلادي)
Openedition Books :مصدر
ومع ضعف البطالمة في القرن الثاني قبل الميلاد، تمكن السلوقيون من السيطرة على المنافذ والطرق التجارية، إذ استطاع أنطيوخوس الثالث انتزاع غزة من البطالمة. إلى جانب ذلك، أدى تصاعد الضغط الفارسي على العراق إلى حالة من الفوضى، ما أسفر عن تحول الطرق التجارية نحو جنوب سوريا، مما أعاد الازدهار إلى التجارة النبطية
يمكن القول إن ازدهار الأنباط خلال فترة النزاع بين السلوقيين والبطالمة كان نتيجة استغلالهم للظروف السياسية والاقتصادية في المنطقة آنذاك. وقد استمر هذا الازدهار إلى جانب قوتهم واستقلالهم الذاتي حتى العصر الروماني
لقد وصف ديودورس الصقلي الأنباط بأنهم واجهوا الغرب بشجاعة ورفضوا الخضوع للعبودية، إذ تصدوا للأشوريين ثم الميديين والفرس والمكدونيين. ومع إدراك حكام مصر البطالمة لأهمية المنطقة الاستراتيجية وثرواتها، حاولوا إخضاع الأنباط لسيطرتهم، إلا أنهم فشلوا في ذلك. نتيجة لهذا الفشل، لجأ البطالمة إلى محاولات الصلح والتعاون، ساعين إلى استمالة الأنباط
كانت محاولات البطالمة للسيطرة تشمل فرض حصار على الموانئ البحرية النبطية في البحر الأحمر والساحل المتوسط، إضافة إلى إقامة محطات برية لإضعاف التجارة النبطية. إلا أن الأنباط ردوا بقوة، فهاجموا السفن التجارية البطلمية واستولوا عليها، كما دمروا المحطات البرية وعطلوا النشاط التجاري لكل من السلوقيين والبطالمة
بسبب هذا الصراع، سعى كل من البطالمة والسلوقيين إلى كسب ود الأنباط وتحسين العلاقات معهم. ورغم ذلك، واصل السلوقيون توسيع نفوذهم في شمال سوريا والتقدم جنوباً، مما أدى إلى وقوع المنطقة الجنوبية من بلاد الشام، بما في ذلك مملكة الأنباط ودولة يهودا الجنوبية، تحت سيطرتهم. ومع ذلك، يعتقد أن مملكة الأنباط نجحت في الحفاظ على استقلالها استنادًا إلى عدة حقائق
كان الملك الحارث الأول (١٦٩ – ١٦٨ ق.م) أول ملك نبطي معروف، إذ لا توجد أي دلائل أو إشارات تشير إلى وجود ملك سابق له –
في فترة ازدهار الدولة النبطية قام معظم ملوكها بسك نقود برونزية، وحرصوا على وضع صورة الملوك السلوقيين أو البطالمة على –
أحد وجوهها. أما الحارث الثالث (٨٧ – ٦٢ ق.م)، فقد نقش على نقوده عبارة “فيل هيلين”، التي تعني “المحب لليونان”، وقد فسرت هذه
العبارة على أنها إشارة إلى الانتشار الواسع للحضارة اليونانية وهيمنتها على العالم في ذلك الوقت
أدار الأنباط عدة قضايا في الشؤون الخارجية، من أبرزها خوض خمس حروب مع الحشمونيين والهيروديين في جنوب فلسطين –
بالإضافة إلى صراعاتهم مع السلاجقة. قامت دولتهم على نظام مشيخي أو دويلة صغيرة متمركزة في البتراء وجبال الشراة، حيث سيطروا على الطرق التجارية، واعتمدوا على تقاسم الأدوار والمصالح من خلال الاتفاق والتراضي
عملة معدنية تظهر الملك الحارث الأول بالزي العسكري
عملة برونزية لحارثة الرابع من عام ٣ قبل الميلاد
الدرهم الفضي للحارث الرابع مع زوجته هولدو من سنة ٢ ق.م
تشير حملة أنتيجوناوس عام ٧٧ ق.م إلى أن جيشه وصل إلى البتراء بسهولة بعد مسيرة استغرقت ثلاثة أيام من دمشق، مما يعكس غياب سلطة مركزية قوية لمراقبة الحدود. ويحتمل أن تكون القبائل المجاورة، مثل المؤابيين، الذين كانوا في حالة ضعف شديد خلال تلك الفترة، هي المسؤولة عن مراقبة الحدود
أما في حملة ديمتريوس، فقد أبدى الأنباط استعدادهم بحذر، حيث نقلوا أمتعتهم إلى مواقع حصينة مثل صخرة البيارة بالقرب من البتراء. وعندما وصل ديمتريوس، لم يتمكن من اقتحام الموقع، ما دفعه إلى الانسحاب بعد تلقيه هدايا من الأنباط
كانت البتراء آنذاك مركزًا تجاريًا مهمًا للمنطقة، دون أن تكون عاصمة سياسية أو إدارية. لكن هذا الواقع تغير عندما أدرك الأنباط والقبائل المجاورة ضرورة إنشاء كيان مركزي، ليس فقط لمواجهة التحديات الكبرى التي فرضها الإغريق وصراع النفوذ، وإنما أيضًا للتصدي للمخاطر المحلية والإقليمية، مثل غزوات القبائل الداخلية وتأمين طرق القوافل التجارية. بالإضافة إلى ذلك، كان التهديد الأبرز يتمثل في الدولة اليهودية شرقًا، التي سعت مرارًا للسيطرة على بعض المناطق الواقعة شرق نهر الأردن وغزتها بشكل متكرر
المراجع
عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن
Diodorus: Diodorus of Sicily, The loeb classical library, Newyork, 1937