مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٤ – حدود الدولة النبطية

تمتعت مملكة الأنباط بموقع استراتيجي جعلها قوة بارزة في المنطقة، حيث سيطرت على الطرق التجارية المهمة بين القارات. وبلغت ذروة توسعها في القرن الأول قبل الميلاد، ممتدة من دمشق شمالًا إلى شمال الجزيرة العربية جنوبًا. لعب الأنباط دورًا محوريًا في التجارة والسياسة، مما جعلهم في مواجهة مستمرة مع القوى العظمى في ذلك العصر

حدود الدولة النبطية ومناطق نفوذها وجغرافيتها

تمتعت مملكة الأنباط بموقع جغرافي استراتيجي منحها أهمية كبيرة، إذ سيطرت على ملتقى القارات والبحار القديمة، مما أتاح لها التحكم في طرق التجارة البرية والبحرية. وبلغت المملكة أقصى اتساع لها في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، حيث امتدت حدودها لتشمل دمشق وجنوبي سوريا، وجبال لبنان الشرقية، بالإضافة إلى مناطق النقب وسيناء وشرقي الأردن وفلسطين، وصولًا إلى شمال الجزيرة العربية حتى خيبر ومناطق الخليج العربي

وقد لفت هذا الامتداد أنظار الإمبراطوريات الكبرى، بدءًا من الإمبراطورية الآشورية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. وأثبت الأنباط انتماءهم العربي من خلال مقاومتهم للاحتلال، ودفاعهم عن حريتهم وكرامتهم، كما تصدوا للغزوات الخارجية، ونجحوا في إيقاف التوسع السلوقي في البلاد العربية

كانت المنطقة الأدومية تشكل النواة الجغرافية لمملكة الأنباط، حيث سيطر الأنباط على أراضي أدوم ومؤاب في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد تأسست مملكة الأدوميين في جنوب الأردن، ممتدة بين وادي الحسا وخليج العقبة، وذلك منذ القرن التاسع قبل الميلاد حتى الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت بصيرا، الواقعة بالقرب من الطفيلة حاليًا، عاصمة الأدوميين. ومن أبرز مواقع الأدوميين في شرقي الأردن، إلى جانب بصيرا، كانت البتراء، التي عرفت آنذاك باسم الصخرة

ورث الأدوميون هذه المنطقة عن الحوريين، وهم سكان الكهوف الذين عاشوا في منطقة سعير وجبال الشراة. ويبدو أن سعير الحوري كان أميرًا على تلك الأقوام، ومنه أخذ الجبل اسمه، جبل سعير. وقد ورد هذا الاسم في التوراة، حيث يشير سفر التكوين إلى الجزء الجنوبي من الأردن، الممتد من وادي الحسا حتى خليج العقبة. وهناك أدلة قوية تدعم الاعتقاد بأن البتراء هي ذاتها “سلع” المذكورة في التوراة. يضاف إلى ذلك أن كلمتي “سلع” في العبرية و”بتراء” في اليونانية تحملان المعنى نفسه، وهو “الصخر”، غير أن “سلع” في العربية تعني تحديدًا الشق في الصخرة، وهو وصف يتطابق تمامًا مع طبيعة البتراء وموقعها

:تاريخ جبل سعير في الكتاب المقدس

سُمي جبلُ سعيرٍ على اسمِ سعيرِ الحوريِّ، الذي كانَ نسلهُ يسكنُ المنطقةَ سابقًا (سفر تكوين ١٤: ٦، ٣٦:٢٠)
حاربَ بنو عيسو الأدوميينَ الحوريينَ ودمروهم (سفر التثنية ٢: ٤-٥، ١٢، ٢٢)
يُشارُ إلى جبلِ سعيرٍ على وجهِ التحديدِ على أنهُ المكانُ الذي أقامَ فيهِ عيسو منزلهُ (سفر التكوين ٣٢: ٣؛ ٣٣:١٤، ١٦؛ ٣٦: ٨؛ سفر يشوع ٢٤: ٤)

تذكر التوراة أن سلع كانت تقع في مملكة أدوم القديمة، وكان السكان الأصليون لها يطلق عليهم اسم (الحوريون) أو سكان الجبال، وقد تم طردهم من قبل الأدوميين الذين حلوا محلهم. ثم جاء الأنباط وطردوا الأدوميين بدورهم واستولوا على أراضيهم. وقد عثر على بعض الأدلة التي تشير إلى وجود الإنسان في قمة (أم البيارة)، وهي أعلى القمم بين جبال البتراء غرب الهيكل، حيث تعود هذه الأدلة إلى العصر الحديدي (حوالي القرن التاسع قبل الميلاد). لكن يبدو أن البتراء كانت تستخدم كملجأ أكثر من كونها مكانًا للإقامة الدائمة

وصلت دولة الأنباط إلى أقصى اتساعها الجغرافي في عهد حارثة الرابع، أي في أواخر القرن الأول قبل الميلاد والنصف الأول من القرن الأول الميلادي. فقد شملت منطقة واسعة جنوب البتراء امتدت حتى حدود العلا، وكان لها حضور بارز في منطقة النقب. كما بلغ تمددها شمالًا ذروته بضم دمشق في عهد حارثة الثالث عام ٨٦ ق.م

خريطة مملكة الأنباط

وهذا الاتساع كان في معظمه سياسيًا وتجاريًا، إلا أن الاتساع التجاري قد تخطى هذه الحدود بشكل كبير، حيث شمل موانئ البحر المتوسط، وسيناء، وموانئ مصر على ساحل البحر الأحمر شرقي النيل. ومن خلال النقوش النبطية التي تم العثور عليها في مصر، يتبين أن الأنباط هناك كانوا يشكلون جالية خاصة بهم، تضم كهنة، بالإضافة إلى حرفيين مثل الرفاء (الذي يعنى بإصلاح الملابس)، والاسكاف (الذي يصنع الأحذية)، والجصاص (الذي يعد الجص أو الجبس للزينة). وكان لديهم جمالون لنقل السلع ذهابًا وإيابًا بين مصر وبتراء، حتى أن لهم جالية في بيتولي بإيطاليا. من المؤكد أنهم وصلوا بتجارتهم إلى اليمن، وربما تجاوزوها إلى الهند. أما في الاتجاه الشرقي، فقد كانت علاقاتهم التجارية تدفعهم للذهاب إلى موانئ شرق الجزيرة العربية لنقل السلع القادمة من الهند أو من وسط آسيا إلى جرعاء، ومن المحتمل أن “جرعاء” هي نفسها المدينة الواقعة على الخليج العربي

المراجع

عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن
 زياد مهدي السلامين, إخلاص خالد القنانو, في النقوش النبطية السينائية ومخطوطات البحر الميت (م ب ق ر ا/ م ب ق ر) *قابل للتحميل
Diodorus: Diodorus of Sicily, The loeb classical library, Newyork, 1937
Strabo: The Geography of Strabo, (The Loeb Classical Library), Cambridge,mass, 1961

Previous:
مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٣ – الوضع السياسي الاقليمي
Next:
مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٥ – أقاليم دولة الأنباط