مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٥ – أقاليم دولة الأنباط
امتدت مملكة الأنباط على مساحة جغرافية واسعة، مما جعلها تضم تنوعًا طبيعيًا من صحارٍ قاحلة وسلاسل جبلية وتكوينات صخرية مميزة. وقد لعب هذا التنوع دورًا مهمًا في تحديد مراكز الاستقرار والأنشطة الاقتصادية، حيث استغل الأنباط الموارد المتاحة بمهارة في البناء والتجارة. كما منحهم موقعهم الاستراتيجي بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط نفوذًا كبيرًا على طرق التجارة القديمة، مما ساهم في ازدهار حضارتهم
خريطة البتراء الأساسية. يقع موقع البتراء في الأردن على بعد نصف المسافة تقريبًا بين البحر الميت وخليج العقبة على البحر الأحمر
Researchgate.net - Eileen G. Ernenwein :المصدر
نظرًا لامتداد رقعة الأنباط، يمكن تقسيم أراضيهم وفقًا لطبيعتها الجغرافية على النحو التالي: (لمزيد من المعلومات حول حدود مملكة الأنباط، يمكنك الاطلاع على هذا الرابط حدود الدولة النبطية)
منطقة جبال الشراة شرقي الأردن
تعد جبال الشراة نواة الدولة النبطية، حيث تحتضن عاصمتها التاريخية البتراء. كما كانت هذه الجبال موطناً لحضارتي المؤابيين، الذين كانت عاصمتهم “ديبون – ديبان” في موقع مادبا الحالي، والأدوميين الذين اتخذوا “بصرى – بصيرة” في محافظة الطفيلة عاصمة لهم. تمتد سلسلة جبال الشراة من جنوب مادبا شمالاً (وادي أرنون – الموجب) حتى خليج العقبة جنوباً، ثم تتجه شرقاً قبل أن تنحني شمالاً إلى جبل رم. وتتشكل المنطقة من سلسلة جبلية إلى الشرق من البحر الميت، يحدها شريط صحراوي في الجنوب (النقب) وآخر في الشرق، وهو امتداد طبيعي لشمال شبه الجزيرة العربي
(المنطقة الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية (المنطقة الجنوبية لمملكة الأنباط
تشمل هذه المنطقة شمال غرب المملكة العربية السعودية وجزءها المكمل جنوب الأردن، الممتد من رأس النقب إلى العقبة. تمتد جغرافيًا من وادي القرى جنوبًا حتى رأس النقب والعقبة (إيلة) شمالًا، وتضم جبال الحجاز الشمالية المعروفة باسم “مدين”، حيث يعد جبل رم في الأردن الحد الشمالي لهذه المنطقة. كما تحتوي على حوض تبوك وصحراء حسما، التي تتألف من هضاب حجرية رملية متفرقة وتمتد جنوب شرق سلسلة جبال مدين (الحجاز). إلى الجنوب من هذه الصحراء تقع واحة تبوك. وتضم المنطقة مركزين مهمين من مراكز الأنباط: مدينة الحجر، وميناء “لوكي كومي”، الذي يعتقد أن موقعه الحالي هو “أم لج” على ساحل البحر الأحمر
حوض صحراء الحماد
تمثل صحراء الحماد الجزء الشرقي الأكبر من الأردن، وتمتد من رأس النقب جنوبًا إلى منطقة الحرة بالقرب من جبل العرب شمالًا، ومن المرتفعات الأردنية المطلة على وادي الأردن غربًا حتى وادي السرحان شرقًا. تعرف الحماد بأرض الصوان، لا سيما في منطقة الجفرة. وتخترق هذه الصحراء عدة طرق قديمة، من أبرزها: الطريق التجاري الذي يربط البتراء ببصرى الشام، وطريق دومة الجندل – باير – البتراء، بالإضافة إلى طريق وادي السرحان – الأزرق – بصرى الشام
وادي السرحان
يقع وادي السرحان إلى الشرق من حاسمة أو الحماد، ويمتد من منطقة الجوف جنوبًا إلى الأزرق شمالًا. وبسبب انخفاضه، تتجمع فيه مياه الأودية القادمة من جميع الاتجاهات، مما أسهم في تكوّن عدة واحات مثل دومة الجندل (الدومة) والأزرق، بالإضافة إلى بعض السبخات المالحة مثل قريات الملح. وقد كانت دومة الجندل تعد مركزًا رئيسيًا لالتقاء الطرق التجارية القادمة من مختلف الاتجاهات، مما جعل الوادي ممرًا مهمًا للقوافل ومسارًا للهجرات البشرية عبر العصور
حرة حيل العرب
تمتد من جنوب شرق دمشق مرورًا بجبل العرب في سوريا، ثم تتجه جنوبًا شرقًا نحو الصفاوي في الأردن وصولًا إلى طريف في السعودية. تعد واحدة من أكبر الحرات في شبه الجزيرة العربية، إذ تغطي مساحة تزيد عن ٤٥ ألف كيلومتر مربع. يتميز سطحها بالحجارة البازلتية السوداء، وتتكون من هضاب مستوية
سهل حوران
تقع هضبة حوران جنوب دمشق، وتمتد شمالًا إلى وادي اليرموك وجبال عجلون جنوبًا، ومن منخفض الأزرق جنوب شرقًا إلى هضبة الجولان وجبل الشيخ غربًا، وصولًا إلى صحراء الحماد وجبل العرب شرقًا. تعد حوران سهلًا خصبًا يقع جنوب غرب الجزء الشمالي من الحرة، وقد اشتهرت بإنتاجها الغزير من الحبوب، حتى لقبت بـ”أهراء روما” في العهد الروماني. من أبرز قراها سيع، وصلخد، وبصرى (التابعة لمحافظة السويداء في سوريا)، وأم الجمال، وتمر عبرها شبكة طرق تجارية هامة
في الشمال، ضمت المملكة النبطية منطقة حوران بأكملها، وإن كان ذلك قد حدث تدريجيًا أو في وقت متأخر من نشأة المملكة. يعود الوجود النبطي في حوران إلى فترة مقاربة لتواجدهم في النقب، حيث وجدوا هناك منذ حوالي عام ٢٥٩ ق.م، إلا أن طبيعة هذا الوجود في بداياته لم تكن واضحة تمامًا. ويرجح أن السيطرة النبطية الفعلية على حوران لم تكتمل قبل عهد الملك عبادة الأول، خاصة مع النزاع الذي دار بين بينايوس عام ٩٣ ق.م على منطقة الجولان، ثم عهد الملك حارثة الثالث الذي نجح في الاستيلاء على دمشق عام ٨٥ ق.م
تتمثل أهمية المنطقة في كونها نقطة وصل بين وادي السرحان، الذي يعد الطريق الرابط بين الجزيرة العربية وسوريا، وبين شمال سوريا وجنوبها، بالإضافة إلى قيمتها الزراعية البارزة، حيث كانت تعد مخزنًا رئيسيًا لمنتجات الحبوب والفواكه. وقد أطلق عليها الأنباط اسم “باشان”، وكان الجزء الأكبر منها تابعًا لمملكة الأنباط، حيث كانت بصرى عاصمتهم الثانية وأحد أهم مراكزهم التجارية. وقد أسس الأنباط في المنطقة العديد من المدن والمستوطنات مثل: أم الجمال، سيع، قنوات، اللجاة، وغيرها. وفي بعض الفترات، كانت دمشق تحت سيطرتهم. كما ربط الأنباط المنطقة بشبكة من الطرق، وقد تم اكتشاف في مدينة السويداء السورية العديد من الخرائب والآثار النبطية، بما في ذلك معبد، وكذلك تم العثور في صلخد على مبانٍ وآثار نبطية تشمل معابد
ويجب الإشارة إلى أن الأنباط في حوران قد أسسوا مصالح تجارية بالدرجة الأولى، بغض النظر عن مدى نفوذهم السياسي، والدليل على ذلك هو أنهم لم يدخلوا في صدام مع الرومان عندما احتلوا سوريا عام ٦٤ ق.م، ولم تسجل أي مواجهات بينهم وبين البارثيين عندما دخلوا البقاع عام ٥١ ق.م
وادي عربة
يعد وادي عربة الجزء الجنوبي من حفرة الانهدام الأردنية، حيث يمتد من الحافة الجنوبية للبحر الميت شمالًا إلى خليج العقبة جنوبًا على مسافة ١١١ كيلومترًا. يتفاوت ارتفاع هذا الوادي؛ حيث يصل عند طرفه الشمالي قرب البحر الميت إلى نحو ٤٠٠ متر تحت سطح البحر، ثم يرتفع إلى ٤٠٠ متر فوق سطح البحر في منطقة الريشة التي تقع في منتصف المسافة تقريبًا. بعد ذلك، ينخفض ليصل إلى مستوى سطح البحر عند إيلة (العقبة). تحيط بالوادي الجبال من الجهتين الشرقية والغربية، حيث توجد جبال الشراة على الجهة الشرقية وهي جبال رملية تتخللها الأودية العميقة التي تضم مدينة البتراء بين طياتها. أما من الجهة الغربية، فيحده جبال صحراء النقب، مما جعل طرق التنقل بين الشرق والغرب محدودة
صحراء الثقب
القسم الجنوبي من فلسطين هو منطقة النقب، التي تقع غرب وادي عربة. تشكل هذه المنطقة مثلثًا رأسه خليج إيلة في الجنوب، وعلى خليج العقبة، بينما قاعدته تمتد بين غزة على البحر المتوسط في الغرب والخليل في الشرق. تغطي الصحراء نصف مساحة فلسطين تقريبًا. وعلى الرغم من الطبيعة الصحراوية الجافة لهذه المنطقة، فقد شهدت نهضة زراعية كبيرة في عهد الأنباط. من أبرز مدنها غزة، التي تشتهر بمينائها، ومن مدنها التاريخية الأخرى التي أسسها الكنعانيون مدينة بئر السبع. كما تمر عبر غزة الطريق الساحلي الذي يربط مصر بسوريا، وتستمر طريق البخور التي تبدأ من جنوب الجزيرة العربية. إضافة إلى ذلك، تمتد سلسلة من الجبال الصخرية من الخليل نحو الغرب حتى تصل إلى شرق غزة
تعد الخلصة (إيلوسا) العاصمة الإقليمية للنقب في زمن الأنباط. أما عبودة، فكانت تقع على الطريق التجاري الرئيسي بين البتراء وغزة، وتضم معبدًا وقلعة نبطية، بالإضافة إلى حي سكني منظم يحيط به سور دفاعي يتضمن برجين دفاعيين مكونين من ثلاثة طوابق لكل منهما. من المحتمل أن الاستيطان في عبودة استمر حتى الفترة البيزنطية
صحراء سيناء
تقع هذه الصحراء غرب صحراء النقب، وهي شبه جزيرة على شكل مثلث، حيث يتواجد رأسها في الجنوب عند رأس محمد، بينما قاعدتها تمتد على البحر المتوسط بين رفح في الشرق وبورسعيد في الغرب. يمكن تقسيمها إلى ثلاث مناطق رئيسية
المنطقة الساحلية: التي تمتد بمحاذاة البحر المتوسط
منطقة التيه: وهي سهل صحراوي واسع تتخلله بعض الجبال التي تفصلها عن منطقة الطور. يمر عبر هذه المنطقة وادي العريش الذي يتجه شمالًا، بالإضافة إلى وادي فيران الذي تقع فيه مدينة فيران، حيث تم العثور على العديد من النقوش النبطية
منطقة الطور: وهي المنطقة التي تقع بين جبال التيه على شكل قوس، وتمتد من السويس إلى إيلات. تتكون هذه المنطقة من جبال شاهقة وأودية عميقة
يمكن القول أن الوجود النبطي في سيناء يعد امتدادًا لوجودهم في النقب، رغم أنه لم يكن يشمل استثمارًا زراعيًا واسعًا. من المرجح أن سيناء لم تكن منطقة استقرار لهم، بل كانت طريقًا رئيسية إلى مصر. ومع ذلك، تشير الأبحاث والاكتشافات في شبه الجزيرة إلى أن سيناء كانت جزءًا مكملًا للحضارة النبطية
يعود وجود الأنباط في سيناء تقريباً إلى العهد الهلنستي، مما يعني أن علاقتهم بها تتزامن مع ارتباطهم بمنطقة النقب وإيدوم وجنوب سوريا. وكانت أبرز مناطق استقرارهم في سيناء تقع إلى الشرق من قناة السويس، وإلى الجنوب الغربي من إيلة في الشمال، بالإضافة إلى المنطقة الجبلية الجنوبية
إذا نظرنا إلى جغرافيا الأنباط بشكل شامل، نجد أنها تمتد على مساحة واسعة تشمل معظم أراضي المملكة الأردنية الحالية، باستثناء مدن تحالف الديكابولس. هذا التحالف كان يقتطع من الأراضي النبطية منطقة غنية وهامة تبدأ من حدود مدينة مادبا جنوبًا، وتمتد عبر مدينتي جرش وإربد في الشمال. تشكل هذه المدن نحو نصف السلسلة الجبلية الغربية في شرقي الأردن، حيث تشكل جبال الشراة الجزء الجنوبي منها، بينما تتكون السلسلة من جبال وهضاب، مع نهر الأردن الذي يشكل حدها الغربي شمال البحر الميت
أما منطقة بيريا، فقد كانت منطقة متغيرة السيادة بين الأنباط ودولة اليهود، خصوصًا في عهد المكابيين. هذه المنطقة، التي كانت جافة، تمتد من البحر الميت شرقًا حتى حدود جبال الشراة غربًا
وتعد الصحراء الحد الشرقي لمملكة الأنباط، حيث تمتد إلى شمال شبه الجزيرة العربية، وصولًا إلى حدود العراق المعاصر من الشرق وبادية الشام شمالًا. وتتكون أراضي الصحراء من الحجر الجيري والصوان في الوسط، والحجر الرملي والجرانيت في الجنوب، بينما يتواجد الحجر البازلتي البركاني في الشمال والشمال الشرقي. ومع ذلك، ظل الأنباط يسيطرون على الصحراء الممتدة شرقًا من مدن الديكابوليس، مما أتاح لهم الوصول إلى حوران وجنوب سوريا حيث كانت مصالحهم الحيوية
سوريا
:مناطق الأنباط في سوريا الحالية تشمل
المدن الواقعة على المنحدر الغربي لجبل حوران
المدن الكبيرة والصغيرة والقرى التي تقع على الجانب الجنوبي من الجبل، وكذلك في الساحل الممتد غربًا نحو درعا أو شرقًا نحو حماد
بعض مناطق اللجاة، مثل تركونيا (تراخونيا القديمة)
أما الحدود الشمالية للأنباط في سوريا فهي تمتد على خط يمتد بين صلخد وبصرى. فيما يخص المناطق الواقعة شمال هذا الخط، فإن السيطرة عليها كانت في الغالب تجارية بحتة أو سياسية. وتعد مدينة بصرى من أهم المواقع الأثرية النبطية، حيث كانت عاصمة الولاية العربية التي انتشر فيها الأنباط. كما تضم المنطقة العديد من الآثار المهمة في السويداء، مثل صلخد وسيع (سيعا) ومدينة دوبو/تل دبة
تتوزع المناطق الجنوبية لمملكة الأنباط على ثلاث دول حالياً، وأقصاها هو صحراء سيناء التي تقع في الأراضي المصرية. كان الوجود النبطي في هذه المنطقة موازياً لوجودهم في صحراء النقب الفلسطينية. وكان اهتمام الأنباط في هذه المناطق يتركز على تأمين طرق التجارة، خاصة عبر مصر، ولا سيما مينائها المهم الإسكندرية. وكان خط سير القوافل النبطية يمر من إيلة على البحر الأحمر عبر النقب إلى غزة، ثم من غزة إلى الإسكندرية مروراً بحواف صحراء سيناء، متجاوزاً وادي العريش ووادي فينان، الذي تم العثور فيه على العديد من النقوش النبطية
تمتعت بلاد الأنباط بموقع جغرافي واسع يظهر بوضوح أن معظم أراضيها تتكون من صحاري جافة تفتقر إلى المياه، وتنتشر فيها المرتفعات الصخرية المتنوعة. ففي منطقة حوران توجد الحجارة البازلتية، بينما يتواجد الحجر الجيري في النقب. أما في جنوب الأردن وشمال غرب المملكة العربية السعودية، فتنتشر الحجارة الرملية والجيرية. إضافة إلى ذلك، تنمو في بعض المناطق أنواع مختلفة من الأشجار التي استخدمت خشبها في البناء. وتتميز بلاد الأنباط بموقعها الاستراتيجي بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، مما منحها أهمية كبيرة وجعلها تتحكم في طرق التجارة الدولية القديمة، سواء البرية أو البحرية، التي كانت تربط الشرق بالغرب
المراجع
عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن