مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٦ – ملوك الأنباط ١

شهد النظام السياسي للأنباط تحولات متتالية، حيث بدأ كنظام قبلي قائم على الزعامة المشيخية، ثم تطور تدريجيًا إلى نظام ملكي متأثر بعوامل داخلية وخارجية. استفاد الأنباط من خبرات الممالك المجاورة، مثل الأدوميين والمؤابيين، ومن التأثيرات الهلنستية التي انعكست على إدارتهم وسك عملتهم. ومع ذلك، لا تزال هناك تساؤلات حول تفاصيل حكمهم، وتسلسل ملوكهم، مما يجعل البحث الأثري ضروريًا للكشف عن المزيد من الحقائق حول تاريخهم السياسي

قبر الجرة في البتراء

من المؤكد أن النظام السياسي للأنباط شهد تطورات متتالية حتى استقر في صورته النهائية كنظام ملكي. ومن المرجح أن الشكل الأقدم لهذا النظام كان القبلي، حيث كان يتولى زعامته شيخ أو مجموعة من الشيوخ، يتم اختيارهم إما بالتوافق أو التوارث، وفقًا للأعراف البدوية التي لا تزال قائمة حتى اليوم. كما يحتمل أن الأنباط مروا بمرحلة انتقالية بين النظام المشيخي والنظام الملكي، ربما على شكل إمارات أو دويلات صغيرة، حيث كانت القبيلة تشكل الركيزة الأساسية لهذه الكيانات السياسية الناشئة

ورث مجتمع الأنباط تقاليد مجتمعات سابقة، أبرزها الأدوميون والمؤابيون، الذين عرفوا الزراعة والاستقرار الزراعي قبل ظهور الأنباط بقرون. ومن المؤكد أنهم كانوا يمتلكون أنظمة سياسية، غالبًا ملكية وفق معايير ذلك العصر. وقد ذكرت التوراة سلسلة من ملوك الأدوميين، كما أن الملكة زبيبة، التي حكمت عام ٧٣٨ ق.م، كانت أول ملكة عربية في الممالك الشمالية لشبه الجزيرة العربية. أما في شمال وغرب بلاد الشام، فتتوفر معلومات عن ملوك الدويلات الكنعانية والآرامية، التي سبقت مملكة الأنباط. ولا شك أن الأنباط استفادوا من تراث تلك الممالك، سواء عبر التواصل الديمغرافي أو الامتداد الجغرافي والسياسي. فقد ورثوا أنظمة سياسية قائمة، مما ساهم في زيادة وعيهم بأهمية تأسيس دولتهم لحماية مصالحهم التجارية وتأمين طرق التجارة ضد غارات القبائل البدوية المنتشرة في الصحاري المحيطة بهم

النظام السياسي للأنباط لم يكن نتيجة قرار مفاجئ أو اجتماع بين قادة القبائل، بل كان ثمرة عملية تطورية تأثرت بعوامل داخلية وخارجية. ومن المرجح أن احتكاك الأنباط بالإغريق، بما حمله من تحديات وفرص، لعب دورًا بارزًا في تطور نظامهم السياسي. وتؤكد الأدلة هذا التأثير الإيجابي، ومنها سك الأنباط للعملة وفق المواصفات الهلنستية لفترة طويلة امتدت حتى عهد عبادة الثاني(٧١-٥٠ ق.م). ومع ذلك، لم يتوقف التأثير الهلنستي تمامًا، لكن السمات الشرقية النبطية أصبحت أكثر وضوحًا مع مرور الوقت. كما أن الأساليب الإدارية للدولة استوحت من الأنظمة الهلنستية، ويتجلى ذلك في استخدام مسميات إدارية مثل الأسريتج و الكليركا و الكنتوريو

لا تزال هناك العديد من التساؤلات التي تتطلب مزيدًا من البحث والتحقق، لا سيما من خلال الدراسات الأثرية، حول سلسلة الملوك وأساليب تتويجهم والقوانين والأعراف التي تحكم مكانتهم ونهجهم في الحكم. كما أن سنوات حكم العديد من الملوك والفترات الغامضة في تسلسلهم لا تزال محل جدل، إذ تختلف الاجتهادات والآراء في هذا الصدد. فبينما يرى البعض أن رب إيل الثاني كان آخر ملوك الأنباط، يشير آخرون إلى أن مالك الثالث، ابن رب إيل، هو آخر الملوك بعد أن حكم لمدة خمس سنوات. ومن بين الفترات الغامضة في هذه السلسلة، تلك الفجوة الطويلة التي تتجاوز العقدين بين حكم الملك الحارثة الأول النبطي، والتي لم تتضح ملامحها حتى مع تولي زيد إيل الحكم، حيث كان الخلاف غالبًا يدور حول اختلاف طفيف في عدد سنوات حكم بعض الملوك

تشير بعض الدراسات إلى أن لقب “الملك” لم يستخدم قبل عهد الحارثة الثالث (٦٢-٨٧ ق.م). فقد حمل الحارثة الثالث لقب “باسيليوس”، وهو اللقب الذي استخدمه الملوك السلوقيون والبطالمة، وذلك على مسكوكاته. لاحقًا، ظهر اللقب النبطي “ملكا”، الذي يعني “الملك”، لأول مرة على مسكوكات عبادة الثاني (٦٢-٦٠ ق.م)، واستمر استخدامه على مسكوكات ملوك الأنباط حتى سقوط دولتهم

تشير بعض المصادر إلى أن الملك الحارثة الرابع (٩ ق.م – ٤٠ م) قد يكون الحاكم الذي جاء من خارج السلالة الملكية بعد أن انتزع السلطة. ويعتقد أنه كان أحد كبار ضباط الجيش، وأطلق على نفسه لقب “المحب لشعبه” (ر ح م ع م ه). تمتع هذا الملك بسلطة وقوة كبيرة، مما مكن الدولة النبطية من بلوغ أقصى اتساع لها في عهده، حيث شملت دمشق لفترة من الزمن. ووفقًا لما ذكره المؤرخ إسترابو، كان الأنباط في ذلك الوقت خاضعين للرومان، مما يسمح بالافتراض أن الحارثة الرابع حظي بدعمهم خلال فترة حكمه أو قبل استيلائه على السلطة

اعترف الأنباط بدور المرأة إلى جانب الملك، وأبرزوا مكانتها في الحكم، حيث ظهرت صور بعض الملكات على المسكوكات النبطية، ومن بينهن شقيلت (شقيلة) وخلدو، زوجتا الحارث الرابع، وجميلت (جميلة)، زوجة رب إيل الثاني. كانت الملكة تعرف بلقب “أخت الملك”، مما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن ملوك الأنباط تزوجوا من شقيقاتهم، استنادًا إلى تقاليد الملوك الإغريق. إلا أن هذا العرف لم يكن شائعًا بين الشعوب السامية عمومًا، والعربية خصوصًا

تجدر الإشارة إلى أن مفهوم “الأخ” و”الأخت” في اللغات السامية لا يقتصر على رابطة الدم، بل يمتد ليشمل مختلف العلاقات الإنسانية، مثل الصداقة، والتحالف، ودرجات القرابة الأخرى. وقد أشار المؤرخ سترابو إلى أن الملك النبطي كان يعين وزيرًا قويًا يُعرف بـ “أخو الملك”، وهو ما يعادل في مفهومنا الحديث منصب رئيس الوزراء أو الوزير الأول. ومن المحتمل أن مصطلح “أخو الملك” كان يشبه لقب “الأمير” أو “الرفيق” في عصرنا، من حيث تحمل المسؤولية والمشاركة في الحكم

يجدر بالذكر أن ملوك الأنباط تميزوا عمومًا بروح ديمقراطية وبساطة واضحة، حيث احتفظ الملك بالعديد من سمات شيخ القبيلة. فقد كان يخدم نفسه بنفسه، بل ويقوم بخدمة ضيوفه أيضًا، كما كان يقدم لشعبه تقريرًا عن شؤونه الشخصية، مما يعكس تمتعه بروح ديمقراطية ملحوظة، وإذا خوطب بعبارة “مرنا”، فذلك يعني سيدنا

ملوك الأنباط

لا يوجد اتفاق بين الباحثين على تسلسل الملوك الذين تعاقبوا على حكم الدولة النبطية. وهناك فجوة كبيرة بعد الملك حارثة الأول. هذه الفجوة لم يتم سدها حتى الآن، إلا أن السلسلة التالية من الملوك تعد الأكثر قبولًا بناءً على النقوش والنقود وبعض الأخبار التاريخية

كما يذكر أنه لم يكن هناك مؤرخون يوثقون تاريخ الأنباط، لذا جاءت معظم أخبارهم من خلال علاقتهم بجيرانهم

الحارث الأول (١٦٩ ق.م – ؟)

يحيط الغموض بعهد هذا الملك، خاصة فيما يتعلق بمدة حكمه. لا تتوفر معلومات كثيرة عنه سوى ما ورد في سفر المكابيين، الذي وصف زعيم الأنباط بـ”الطاغية”. ووفقًا لتفسير د. إحسان عباس، فإن “الطاغية” تشير إلى الحاكم المطلق الذي يتصرف خارج الإطار الدستوري، مما يعني أن هذا الوصف ينطبق على الملك النبطي

إذا صدقنا ما ورد في سفر المكابيين، فإن الحارث الأول لم يكن ملكًا رسميًا، بل كان شيخًا أو كبير الشيوخ لدى الأنباط، ولم يحمل لقب “ملك”. ومع ذلك، فإن مكانة شيخ الأنباط كانت تضاهي مكانة الملك. لا تزال طبيعة نظام الحكم في ذلك الوقت غير واضحة، مما يجعل افتراض أن نظام المشيخة كان السائد هو الأقرب إلى الصواب، ما لم تظهر أدلة تنفي ذلك مستقبلاً

الملك زيد إيل (١٦٤ ق.م – ؟)

لا تزال هذه الفترة من تاريخ الملكية النبطية غامضة، في انتظار ما قد تكشفه الأبحاث الأثرية من معلومات جديدة. هناك العديد من الفرضيات التي تحاول تفسير هذا الغموض، لكن لا يمكن حسم الأمر دون دراسات أثرية شاملة. بعض المصادر لا تذكر الملك زيد إيل نهائيًا

تختلف الدراسات حول هوية الملك الثاني للأنباط، فبعضها يشير إلى أن مالك الأول (١٤٥ ق.م) هو الملك الثاني، بينما تذكر دراسات أخرى أن رب إيل الأول هو من شغل هذا المنصب. كما توجد آراء تشير إلى أن حارثة الثاني (١٤٥ ق.م) كان ثاني ملوك الأنباط، في حين تستند مجموعة من النقوش النبطية إلى أن مالك الأول هو الذي خلف زيد إيل

الحارث الثاني (١١٠ – ٩٥ ق.م)

يلاحظ في هذا الترتيب وجود فترة غموض امتدت لحوالي ٣٦ سنة، ويعتقد البعض أن هناك ملوكًا حكموا خلال هذه الفترة. ومع ذلك، لا يستبعد أن يكون الملك الثاني وربما الثالث قد استمر في الحكم لمدة ٣٦ عامًا حتى وصل الحكم إلى الحارث الثاني. في عهد الحارث الثاني، كانت العداوة في أوجها بينه وبين المكابيين اليهود. فقد بادر الحارث بمساعدة غزة في عام ٩٦ ق.م بينما كان المكابيون يحاصرونها

في فترة حكم الحارث الثاني، كانت الدولة السلوقية قد دخلت مرحلة من الضعف والتراجع، مما دفع الكسندر بنايوس، ملك الحشمونيين، إلى استغلال هذه الفرصة للتوسع، حيث كان هدفه الرئيسي مدينة غزة. فاستغاث أهل المدينة بالحارث نظرًا لقوته – على ما يبدو – وللقرب الجغرافي بينهما، حيث كان الأنباط قد بسطوا نفوذهم على منطقة النقب، وكانت غزة إحدى الموانئ التي تنقل إليها التجارة النبطية. وعلى الرغم من أن حارثة قد وعد الغزيين بالمساعدة وشجعهم على المقاومة، إلا أنه لم يلب وعده لأسباب متعددة، فتمكن ينايوس من الاستيلاء على غزة ونهبها. لكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بها طويلاً، حيث اضطر للانسحاب للمشاركة في قتال اندلع في الشمال من منطقته

وفي عهد حارثة الثاني، تم إصدار نقود نبطية، ويحتمل أنه كان أول ملك نبطي يقوم بذلك، حيث لم تصلنا أي نقود من ملوك قبله له. وقد وجدت كمية كثيرة من العملة البرونزية وفيها نماذج تحمل حرف (ح) بالآرامية إشارة إلى حارثة

عبادة الأول (٩٥-٨٨ ق.م)

تولى عبادة الأول الحكم بعد وفاة والده الحارث الثاني، واستمر النزاع في عهده بين الأنباط والمكابيين اليهود بقيادة جينايوس. كانت أطماع جينايوس التوسعية قد امتدت إلى مناطق جلعاد ومؤاب، وتمكن من هزيمة العرب في هاتين المنطقتين. تصدى عبادة الأول له في معركة “قانا” التي وقعت قرب جدارة (أم قيس) شرقي بحيرة طبريا. خلال المعركة، اضطر جينايوس للهروب إلى وادٍ عميق بعد الهجمات النبطية، وكاد يفقد حياته. في النهاية، اضطر إلى إعادة ما استولى عليه من مؤاب وجلعاد، مقابل تعهد عبادة بعدم مساعدة خصومه. ونتيجة لهذه المعركة، استعاد عبادة الأول مناطق مؤاب وجلعاد وأصبحت تحت السيطرة النبطية

رب إيل الأول (٨٨-٧٨ ق.م)

تولى الحكم بعد وفاة أخيه عبادة الأول، وتمكن من تحقيق انتصار على أنطوخيوس الثاني في حملته الثانية ضد بلاد العرب حوالي عام ٨٨ ق.م، حيث يبدو أن أنطوخيوس لقي حتفه متأثراً بجراح

المراجع

عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن
إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط، دار الفجر للنشر والتوزيع، ٣٠ ديسمبر ١٩٩٨
Strabo: The Geography of Strabo, (The Loeb Classical Library), Cambridge,mass, 1961




Previous:
مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٥ – أقاليم دولة الأنباط