مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ٧ – المدن والحواضر النبطية ١
تعتبر البتراء واحدة من أبرز المدن النبطية وأكثرها شهرة في التاريخ، حيث تألقت في العصور القديمة كمركز تجاري وثقافي هام. توسعت هذه المدينة العجيبة لتصبح موطنًا لعدة حضارات، مثل الأدوميين والأنباط، وأسهمت في ازدهار المنطقة بفضل موقعها الاستراتيجي. على الرغم من تراجع مكانتها مع مرور الوقت، تبقى البتراء شاهدًا على عظمتها، بما تتمتع به من آثار ومعالم معمارية تدهش الزوار حتى يومنا هذا
انتشرت المدن والمستوطنات والقرى النبطية على امتداد الرقعة الجغرافية الواسعة للأنباط، حيث شملت مناطق متعددة. وقد اندثرت بعض المستوطنات النبطية واختفت آثارها، مما يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت مدينة أو قرية أو مستوطنة صغيرة. وتتركز أهم هذه المواقع في الأراضي الأردنية، إلى جانب وجود مدن ومستوطنات نبطية أخرى في كل من الجمهورية العربية السورية، والمملكة العربية السعودية، وصحراء النقب في جنوب فلسطين. كما يحتمل أن تكون هناك مواقع نبطية في لبنان، حيث امتد النفوذ النبطي. وفيما يلي استعراض لهذه المدن والمستوطنات وفق التقسيمات الجغرافية الحديثة
المدن والمستوطنات في الأردن
البتراء عاصمة مملكة الأنباط
أطلق الأنباط على مدينتهم اسم “رقيم“، وهو اسمها السامي، بينما سماها الأدوميون “السلع” نسبة إلى الشق الصخري. ومن أسمائها الأخرى “الصخرة”، “المدينة الوردية”، “المدينة المفقودة”، “المدينة الضائعة”، “المدينة العجيبة”، “البتراء”، و”المدينة المدهشة”، وآخر ألقابها العجيبة الثانية من عجائب الدنيا السبع الجديدة
أدهشت البتراء كل من رآها وتأمل تاريخها الغني وفنها المعماري الفريد. وقد اعترف العالم بها كواحدة من عجائب الدنيا السبع، حيث احتلت المركز الثاني بعد سور الصين العظيم. وساهمت السياحة، والإعلام، والدراسات العلمية العديدة—من كتب ومقالات وأبحاث—في انتشار شهرتها إلى مختلف أنحاء العالم
وإذا كان الصينيون يقولون لضيوفهم: “من لم يزر سور الصين العظيم، فكأنما لم يزر الصين”، فإنه من الحق أن نقول: “من لم يزر البتراء، فكأنما لم يزر الأردن“، أو حتى “من لم يزر البتراء أو يقرأ عنها، فقد فاته الكثير من التاريخ والفن والحضارة والمغامرة”. ومع ذلك، فإن القراءة عن البتراء لا تغني عن زيارتها والتأمل العميق في معالمها الأثرية الغنية، حيث لا تكتمل التجربة إلا بالسير عبر السيق الشهير، ذاك الممر الضيق الذي شهد مرور آلاف، بل ربما مئات الآلاف من القوافل التجارية المحملة بالبضائع والأسرار والحكايات منذ فجر التاريخ في هذه المنطقة
لقد لعب موقع البتراء دورًا حيويًا في مكانتها العسكرية والتجارية والثقافية في الشرق الأدنى منذ العصور القديمة. وقد أدركت القوى السياسية المتعاقبة أهمية هذا الدور، فكانت البتراء ومحيطها مسرحًا للكثير من الأحداث التاريخية، ومنطلقًا وملتقى للعديد من الأفكار والحضارات
يرتفع الموقع ٢٧٠٠ قدم فوق سطح البحر، بينما تعلو التلال المحيطة حوالي ١٠٠٠ قدم فوق أرضية الوادي، التي يبلغ عرضها نحو ميل واحد. تتميز البتراء بتحصينها الطبيعي ضد الأخطار، حيث تحيط بها مرتفعات شاهقة من جميع الجهات، ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر الممر الضيق المعروف ب”السيق”. هذا الشق الصخري الهائل ينقسم إلى نصفين ليشكل ممراً يمتد قرابة الميل، وصولاً إلى الواجهة المذهلة للمدينة، المتمثلة في الخزنة الشهيرة التي أصبحت رمزاً لها
السيق في البتراء
وقد كشفت الحفريات الأثرية عن معلومات دقيقة ومفصلة حول مختلف جوانب الحياة في المدينة، منذ الاستيطان الأدومي، مروراً بعصر الأنباط، وما تخلل ذلك من مراحل حضارية متنوعة
كانت البتراء قبل ظهور الأنباط موقعًا هامشيًا ضمن مناطق الأدوميين، الذين سكنوها لفترة طويلة واستوطنوا كهوفها. ومع توسع الأنباط في المنطقة منذ القرن الرابع قبل الميلاد على الأقل، تركوا بصمتهم الثقافية والمعمارية المميزة، مما جعل من الصعب العثور على آثار أدومية واضحة باستثناء بعض كسور الفخار المدفونة في طبقات التربة في منطقة أم البيارة داخل البتراء التاريخية
أما الحوريون، فكانوا السكان الأسبق للأدوميين في جبال الشراة، بما في ذلك البتراء. ويشير وليم هوسكنر إلى أنه إذا كان الحوريون هم سكان الكهوف الأوائل في جبال سعير، فمن المحتمل أنهم اتخذوا البتراء معقلًا لهم، إذ تتطابق طبيعة المنطقة مع نمط حياتهم البدائي، في ظل عدم وجود موقع آخر في جبال سعير يشابه هذه الخصائص
وقد كشفت الحفريات الأثرية عن تفاصيل دقيقة حول مختلف جوانب الحياة في البتراء، منذ فترة الاستيطان الأدومي، مرورًا بعهد الأنباط، وما تخلل ذلك من مراحل حضارية متعددة
حتى وقت متأخر من تدمير مملكة الأدوميين في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، كانت عاصمتهم “بصرة” / “بصيرا” (المعروفة اليوم باسم “بصيرة” بالقرب من الطفيلة). وظلت البتراء آنذاك بلا أهمية تذكر حتى انتبه لها الأنباط وبدأوا باستيطانها إلى جانب السكان الأصليين من الأدوميين، الذين واصلوا ممارسة الزراعة كمهنة رئيسية تفوقوا فيها، إلى جانب عملهم في قيادة القوافل التجارية وتقديم الخدمات لها، وهو الدور الذي واصل الأنباط تأديته لاحقًا. وعلى الأرجح، فقد الأدوميون مكانتهم التجارية بعد أن خسروا ثقة الدولة الأشورية، ربما لفشلهم في حماية مصالحها التجارية. وهكذا، تولى الأنباط هذه المهمة الحيوية، مبرهنين على كفاءتهم العالية، مستفيدين من خبراتهم السابقة التي طوروها قبل استقرارهم في المنطقة
عندما ازداد نفوذ الأنباط منذ بداية الفترة اليونانية، وازدهرت تجارتهم ونمت زراعتهم بفضل اجتهادهم وفهمهم العميق للمتغيرات السياسية والعسكرية المحيطة بهم، تعاظم شأن البتراء مع مرور الوقت. لا نملك دليلاً قاطعًا على ما إذا كان الأنباط قد قرروا منذ البداية اتخاذ البتراء عاصمة لهم، أم أنها اكتسبت أهميتها تدريجيًا دون أن يسبقها موقع آخر في ذلك
يقترح الباحث هاموند أن البتراء ربما كانت في البداية محطة صناعية ومركزًا للأنشطة التجارية أكثر من كونها مجرد محطة لتجارة التوابل والعطور مع العالم الغربي. ويحتمل أيضًا أنها لعبت دورًا محوريًا في تجارة السيراميك، بالإضافة إلى كونها محطة لتجهيز القوافل ومدها بالمؤن والعتاد اللازم، فضلاً عن توفير الحماية لها ضد الطامعين. يشير ذلك إلى مرحلة متأخرة من تاريخ البتراء، وتحديدًا فترة ازدهارها التي بدأت في القرن الأول قبل الميلاد
تشير الأدلة الأثرية، من مبانٍ منحوتة في الصخر وأخرى مشيدة، إلى أن المدينة كانت نابضة بالحياة. فقد احتوت على القصور والفلل التي أحاطت بها الحدائق المورقة، مما يعكس أسلوب حياة راقٍ وفق السياق التاريخي. كما يكشف نظامها المائي المتقدم عن مجتمع متكامل يمارس مختلف جوانب الحياة كما كان الحال في أعظم العواصم آنذاك
قنوات المياه المتواجدة على أطراف السيق
إضافة إلى ذلك، يشير وجود المسرح الذي يتسع لثلاثة آلاف متفرج إلى حجم المدينة وأهميتها، إذ لا يمكن لمثل هذا العدد أن يكون إلا في مدينة كبيرة، حتى بمقاييس العصر الحديث. وقد قدر عدد سكان البتراء خلال ذروة ازدهارها بحوالي ثلاثين ألف نسمة
مسرح البتراء المنحوت في الجبال
يقع وادي موسى شرق البتراء، وكان يشكل مستوطنة مهمة للأنباط. ورغم أنه خارج حدود البتراء، إلا أنه يبدو كضاحيتها الحديثة نظرًا لكثرة المباني المكتشفة فيه وفخامتها، مما يدل على فترة ازدهار مميزة. ويبدو أن بعض الأنباط فضلوا البناء خارج المدينة لنفس الأسباب التي تدفع الناس اليوم إلى الابتعاد عن مراكز المدن المزدحمة، مثل البحث عن الهدوء وامتلاك أراضٍ أقل تكلفة. وقد ساعد استقرار الأمن، بعد إحكام السلطة قبضتها على شؤون الدولة، في تشجيع هذا التوسع العمراني خارج البتراء
يكتسب هذا الوادي أهميته من عدة عوامل، أبرزها وجود نبع الماء المعروف بـ”عين موسى”، الذي لا يزال يروي المنطقة بمياهه العذبة، ويسقي بساتين الفاكهة من عنب وتين وزيتون. كان هذا النبع يتدفق عبر قنوات وأنابيب تصل إلى مدخل البتراء، حيث يوزع الماء عبر قنوات السيراميك إلى منازل المدينة وآبارها. ولا تزال بقايا هذه الأنابيب ظاهرة على الجانب الأيمن من الساقية، مما يثير الإعجاب بأن تقنيات العصر الحديث لم تضف الكثير إلى براعة الأنباط في صناعة أنابيب السيراميك
يعد السيق هذا الشق العظيم المدخل الرئيسي لمدينة البتراء، وهو ممر طبيعي يتميز بجدرانه الشاهقة التي ترتفع لحوالي ٦١ مترًا، بينما يتراوح عرضه بين ثلاثة أمتار، متسعًا حينًا وضيقًا حينًا آخر. عند مدخل السيق، يمكن بسهولة رؤية آثار البركة التي كانت تجمع فيها مياه الوديان، ثم تنقل عبر أنابيب فخارية لا تزال بقاياها ظاهرة على جدران الممر. وقد حرص الأنباط على تزيين السيق بالعديد من الرسومات البارزة، والنقوش، والنصب، ومن أبرزها نصب إلههم الأكثر تبجيلاً “ذو الشرى“، الذي كان يرمز له بالأنصاب المتعامدة
إله الأنباط ذو الشرى
بمجرد أن تنتهي من السير، تفاجأ بمشهد الواجهة الرئيسية للمدينة، وهو ما يعرف ببناء الخزنة الشهير. يعد هذا الأثر من أكبر وأكمل وأجمل النصب التذكارية في البتراء، حيث وصل إلينا بكامل تفاصيله كما تركه النحاتون قبل خمسة عشر أو عشرين قرنًا أو أكثر، ولا يزال جماله وزينته قائمين، معبرين عن الألوان الطبيعية للصخور الرملية المضيئة. وعلى الرغم من أن هذا البناء هو الأكثر وضوحًا واكتمالًا بين المباني، إلا أنه لا يزال يحمل العديد من الأسرار الغامضة، حيث لم يتفق الخبراء على ما إذا كانت الخزنة معبدًا أم ضريحًا. ومع ذلك، تدعم الأدلة بقوة الرأي القائل بأنها بنيت لتكون معبدًا. تبلغ واجهة الخزنة ٢٦ مترًا، بينما يصل ارتفاعها إلى ٤٠ مترًا. ومن أغرب ما يميزها من الناحية المعمارية هو احتواؤها على أعمدة كورنثية، مما يعزز الافتراض بأن من قاموا ببنائها كانوا معماريين أجانب. ويعتقد أن الخزنة كانت معبدًا، حيث يرى بعضهم أنها أقيمت للربة “مناة”، بينما يعتقد آخرون أنها كانت معبدًا للعزى
الخزنة في البتراء
ذهب فريق ثالث إلى أنه معبد ضريح لأحد ملوك الأنباط، لكن لا يوجد ما يدل على أن الخزنة كانت تستخدم كضريح. في الخزنة، توجد غرفة وسطى بسيطة خالية من الزخارف. ومن أبرز المعالم في البتراء مدرجها الذي يتسع لثلاثة آلاف مشاهد أو أكثر. وعلى يمينه، في المرتفع الصخري، يقع بناء المحكمة، وهو هيكل منقور في الصخر يحتوي على أعمدة ضخمة وغرف كبيرة يمكن الوصول إليها عبر درج أسفل الدرج، يمكن مشاهدة السجن أو مقر القوة المكلفة بحماية المحكمة
وحول هذا الصرح الكبير تنتشر القصور والأبنية المنقورة في الصخر، التي أبدع النحاتون والبناؤون في تصميمها، فظهرت كلوحات فنية يصعب نسيانها. كما توجد آثار الطريق القديم بجانبها، ويمتد بجوارها قناة مائية كانت جزءًا من خط المياه الرئيسي الذي يغذي البتراء ويصرف السيول إلى الخزانات والبرك والآبار
وفي وسط الوادي، يقع ما يعرف ب”قصر البنت“، وهو بناء متقن من الحجارة المقطوعة والمشذبة بعناية، ويبدو أنه كان معبدًا. إلى الجهة الشرقية الشمالية من هذا الأثر، تظهر أكوام هائلة من الحجارة التي تشير إلى وجود استيطان كثيف في البتراء قبل أن تتهدم أبنيتها نتيجة زلزال قوي وقع في عام ٣٦٣ قبل الميلاد. كما كشفت التنقيبات التي أجرتها البعثة السويسرية في موقع الزنطور عن استيطان نبطي كثيف امتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى ما بعد القرن الثاني الميلادي
قصر البنت في البتراء
الزنطور يقع في الجهة الجنوبية الغربية للبتراء ويشرف على مركز المدينة, فإن الكهوف الصخرية والقبور المنحوتة التي تعج بها صخور البتراء تشي باستيطان كثيف شهدته المدينة بحيث جرى استغلال كل مساحة ممكنة من هذه الصخور التي جاء بعضها على شكل طوابق بعضها فوق بعض
تقدر أعداد سكان مدينة البتراء في فترة ازدهارها بحوالي ثلاثين ألف نسمة، وهو عدد كبير بالنسبة لمعايير تلك الحقبة الزمنية. ولا يعرف على وجه الدقة ما إذا كان هذا الرقم يشمل الضواحي والمناطق المجاورة للبتراء أم لا
ويعتقد أيضًا أن البتراء كانت تضم العديد من الأجانب، فقد كانت تحتوي على جاليات إغريقية ورومانية حسب بعض الدراسات الاستشراقية
وفي القرن الثالث، لم تعد البتراء مدينة ذات أهمية كبرى، حيث قامت تدمر بالاستحواذ على مكانتها بعد أن قرر الرومان تحويل طرق التجارة إليها. ومع فقدان الدعم الروماني، تعرضت البتراء للدمار وتدهورت حالتها، حتى أصبحت في عام ٣٠٠م مهجورة ومنسية. وخلال الفترة البيزنطية، فقدت المدينة أهميتها التجارية وتحولت إلى مركز ديني. ومن المعروف أن الزلزال الذي وقع في عام ٣٦٣م أثر بشكل كبير على المنطقة وأصاب العديد من المدن، بما في ذلك البتراء
المراجع
عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن
باسم الطويسي , التاريخ الاجتماعي لمنطقة البتراء وجوارها
وليد جابر أبو رائد، الآثار النبطية في السويداء على ضوء المكتشفات الأثرية الجديدة، موقع السويداء
Nelson Glueck, The Other Side of Jordan – Cambridge, 1970
Hammond.P.C, The Nabataeans, Their History, Culture & Archaelogy (Gothenburg,Sweden,Paul Astrom Forag, 1973)