التنوخيين، جزء: ٢ –  من تنوخ إلى اللخميين ونقوش أم الجمال

سنسلط الضوء على رحلة قبائل تنوخ التاريخية بين الأردن والعراق، ودورها في تأسيس ممالك مؤثرة وتحالفات سياسية بارزة. يستعرض النص تاريخ ملوك الحيرة، ابتداءً من جذيمة الأبرش وصولاً إلى سلالة اللخميين، كما يبرز النقوش الأثرية التي وثقت هذا الإرث العظيم. إن هذه السردية تعكس التحولات الجغرافية والسياسية التي شكلت هوية المنطقة

من جذيمة الأبرش إلى ملوك الحيرة: رحلة تنوخ بين الأردن والعراق عبر التاريخ

لعبت أسرة بني فهم دورًا محوريًا في بناء التحالفات السياسية وتأسيس الممالك. بعد وفاة مالك بن فهم، انتقل الحكم إلى شقيقه عمرو بن فهم الذي واصل قيادة القبائل وتنظيم شؤونهم. وبعد وفاته، تولى الحكم جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، وهو شخصية بارزة في التراث العربي ويُعتبر أول من جلس على عرش الحيرة. تشير المصادر التاريخية إلى أن جذيمة حكم خلال الفترة الممتدة بين عامي ٢٣٣ و ٢٦٨م

كان جذيمة الأبرش من ملوك قبائل تنوخ الذين أجمع المؤرخون على مكانتهم السياسية والعسكرية. وقد خلفه في الحكم ابن أخته وولي عهده، الملك عمرو بن عدي، الذي استمر في قيادة المملكة لمدة ٢٨ عامًا من ٢٦٨ حتى ٢٩٥م، و يمثل الملك عمرو بن عدي حجر الزاوية في تأسيس سلالة اللخميين المناذرة، وهي سلالة عربية أصيلة تنحدر من قبيلة لخم التي ارتبطت بقبائل تنوخ في الأردن حين أصبحت هذه السلالة قوة رئيسية في تاريخ العراق قبل الإسلام

في حقبة تاريخية غنية بالتغيرات والتحالفات السياسية، ظهرت قبيلة لخم كقوة بارزة في شبه الجزيرة العربية وما حولها. كانت بداية هذه القبيلة في الأردن حيث تحالفت مع الإمبراطورية الرومانية التي كانت تسيطر على المنطقة آنذاك. هذا التحالف كان يُمهد الطريق أمام اللخميين ليصبحوا حكاماً بارزين في تلك البقعة، وربما حتى ملوك الأردن، لولا التحولات السياسية والجغرافية التي دفعتهم إلى الانتقال نحو الحيرة في العراق

كان هذا الانتقال نقطة تحول حاسمة في تاريخ اللخميين. في الحيرة، وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع جديد يتطلب إعادة صياغة تحالفاتهم، فاختاروا الاصطفاف إلى جانب الإمبراطورية الفارسية الساسانية، القوة العظمى المنافسة للرومان في ذلك الوقت. ومن هذا المنطلق، بدأ ملوك اللخميين في العراق يتخذون لقب “ملك العرب”، تعبيراً عن نفوذهم المتزايد ودورهم القيادي في المنطقة

استمرت مملكة اللخميين في الحيرة كواحدة من أبرز الممالك العربية لأكثر من ثلاثة قرون،من عام ٢٦٨ م حتى ٦٣٣ م. خلال هذه الفترة، لعبت المملكة دوراً جوهرياً في التوازن السياسي والثقافي بين القوى الكبرى في المنطقة و كانت نهايتهم مع بدايات الفتح الإسلامي الذي غيّر ملامح المنطقة بالكامل، لكن تأثير اللخميين ظل علامة بارزة في تاريخ العراق وشبه الجزيرة العربية، مشكّلين جزءاً من السرد التاريخي للتحالفات العربية

كان التنوخيون من بين أبرز الشعوب التي عاشت في مناطق الأردن والجزيرة العربية، وكانوا في البداية تابعين للمملكة الأردنية النبطية. استخدم التنوخيون الخط العربي النبطي الأردني في نقوشهم، سواء في الأراضي الأردنية أو في منطقة الحيرة الواقعة في العراق اليوم

بدأ التنوخيون كمجموعة من الحلفاء للرومان، إذ كانوا يسعون لضمان استقرار حكمهم في الأردن والتأكد من وصولهم إلى العرش بدلاً من قبائل قضاعة وبيريا. من خلال هذه التحالفات الاستراتيجية، تمكنوا من إخضاع عدد من القبائل العربية مثل نزار، معد، وأسد، التي كانت تعيش في شمال شبه الجزيرة العربية

نتيجة لهذا التوسع العسكري والسياسي، تحولت مناطقهم إلى جزء من المملكة الأردنية التنوخية، التي نشأت لفترة قصيرة لتكون خليفة للمملكة الأردنية النبطية. ورغم أن هذه المملكة كانت لها دور مهم في التاريخ، إلا أن قصر عمرها جعلها تُذكر في كتب التاريخ بشكل محدود، مما يبرز مدى التحديات التي واجهتها في ظل التغيرات السياسية السريعة في تلك الحقبة

ومن بين أبرز ملوك تنوخ، يبرز الملك جذيمة الأبرش الذي تولى الحكم في فترة تمتد من عام ٢٣٣ حتى ٢٦٨ ميلادي. يُعد جذيمة الأبرش أول ملك تنوخي من أصول تجمع بين الجذور الأردنية واليمنية، وقد اعتلى العرش في مدينة الحيرة. خلال فترة حكمه، سعى إلى تعزيز سلطته السياسية والاجتماعية، فضم إليه أبناء عمومته من عشائر تنوخ التي كانت تنتشر في البادية الأردنية الشرقية ومنطقة بلاد الحرة، التي تُعرف اليوم بالبادية الأردنية الشمالية

نقوش أم الجمال والنمارة: شواهد تاريخية

يوضح النقشان التاريخيان، نقش مدينة أم الجمال الأثرية الواقعة شرق المفرق، ونقش النمارة، أن جذيمة الأبرش كان يتولى حكم قبائل التنوخيين التي انتشرت في مناطق الأردن وغرب العراق. تشير هذه النقوش إلى أن جذيمة الأبرش لم يكن مجرد ملك إقليمي، بل كان ملكاً قبلياً، إذ اعتبر نفسه حاكماً لقبيلة تنوخ في أي مكان توجد فيه، طالما أن أفراد القبيلة لم يرفضوا ذلك

نقش النَمارة, يرجع تاريخه إلى عام ٣٢٨م وكان قد كتب بالخط النَبطي المتأخر

تُعتبر قبيلة الغساسنة إحدى أبرز القبائل التي حكمت منطقة الأردن وجنوب بلاد الشام في العصور القديمة. تعود أصول هذه القبيلة إلى بقايا قبيلة تنوخ، التي كانت تستقر في مناطق الأردن وحوران وجنوب الشام. وعلى الرغم من تغير الزمن والظروف، حافظ الغساسنة على اسم قبيلتهم “الغساسنة”، الذي أصبح يشتهر ويُعرف بهم في المنطقة. لقد استمرت هذه القبيلة في التأثير على مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية في بلاد الشام، حيث لعبت دوراً مهماً في التاريخ العربي والإسلامي، خاصةً في ظل علاقتها مع الإمبراطورية البيزنطية والقبائل العربية المجاورة

يعد نقش “أم الجمال الأول” من أهم النقوش التي تحمل دلالة تاريخية عميقة عن تاريخ المنطقة وامتدادها الزمني. يحتوي النقش على العبارة التالية: “هذا قبر فِهر بن شلي سيد جُذيمت ملك تنوخ“. ورغم أن هوية فِهر بن شلي غير محددة بدقة، إلا أن احتمالية كونه شخصية قبيلة مرموقة تظل قائمة، حيث قد يكون شيخاً أو قائداً قبلياً بارزاً


نقش أم الجمال

من اللافت أن النقش يذكر أيضاً اسم الملك التنوخي جذيمت، الذي يُعرف أيضاً بجذيمة الأبرش، ما يعزز القيمة التاريخية للنقش. وقد قام المستشرق الألماني أ. لتمان، الذي اكتشف النقش في أوائل القرن العشرين، بتحديد تاريخ النقش بين عامي٢٥٠ و ٢٧٠ميلادي، استناداً إلى معرفة الباحثين بتاريخ حكم الملك جذيمت، الذي ذكر اسمه كملك لمدينة تنوخ في هذا النقش

مراجع

د . احمد عويدي العباديالتنوخيين (قبيلة تنوخ الأردنية)
تنوخيون ,Wikipedia

Previous:
المملكة الأردنية المؤابية، جزء: ٦ – المجتمع المؤابي
Next:
التنوخيين، جزء: ٣ –  الصراعات القبلية والتحالفات